بعد مسيرة طويلة وشاقة، تجمع أكثر من 16000 مواطن كوردي على مساحة كيلومتر مربع واحد داخل الاراضي التركية، حيث شنت الاجهزة العسكرية للحكومة العراقية في عام 1988 هجوما شاملا وبكافة اسلحة الابادة (الانفال سيئة الصيت) على المناطق الواقعة تحت سيطرة الثوار في كردستان العراق.

وصلنا جميعاً الى  جنوب تركيا، وأستقر بنا الحال في منطقة (ماردين) وقسم اخر في (ديار بكر) وثالث في المثلث العراقي الأيراني التركي (دشت كفري).  وبعد أجراءات الحكومة التركية والتفحص بالوجوه والتفتيش عن الأسلحة، ارسلونا الى أماكن السكن وهي عبارة عن خيم لكل اللاجئين المنكوبين من سخط الحاكم على شعبه الفقير والأعزل. 

دخل أنصار الحزب الشيوعي العراقي مع الجمهرة الكبيرة من اللاجئين وانتشروا مع ابناء القرى المشردة،  وأصبح الكثير منا وكاننا أبناء لبعض العوائل الكردية خوفاً من ان تكشف السلطات التركية باننا من حركة الانصار.

وفي 21 نيسان من عام 1989، وكان يوما ربيعيا مشمسا وجميلا، واجهني الرفيق النصير أبو ميسون، وهو من ضمن قيادة العمل في مخيم الحجز. قال لي: اليوم جاء دورك  للهرب من هذا المربع الهائل والمسيج بالأسلاك وتحيطه الجندرمة من كل الجهات،  حاول أن تستعد نفسياً للمغامرة!.

كنا عشرة من الأنصار الشيوعيين نعد العدة للهروب بخطة مرسومة مسبقا من قبل قيادة العمل في المخيم  وكان للرفيق (أبو أيفان أحمد بامرني) دورا بارزا في تنظيم العملية.   

والانصار المشمولون بمغامرة الهروب. هم: أبو ميسون (ملازم سردار)، د. سعاد (كاترين ميخائيل) التي وقفت امام المحكمة لتشهد على أعمال النظام الدكتاتوري وهجومه الكيمياوي على مقرات الحزب الشيوعي العراقي في 5 حزيران  عام  1987  والذي ادى الى أستشهاد الرفيقين  ابورزكار وأبو فؤاد وأصابة العشرات، وأبو عراق - وابو روزا ـ وجلال ـ وسالم المخابرـ ودلدارـ وبشرو ـ وسفين ورفيق أخر لاتسعفني الذاكرة بتذكر أسمه  وهو من أربيل.

حسب الخطة، علينا ان نبدأ بالهروب من الجانب الايمن لمخيم الحجز في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. نفذنا الخطة، وكان امامنا منحدر صعب، علينا ان نقطعه زحفا لمدة عشرة دقائق حتى نصل الى نهايته، زحفنا واحدا بعد اخر حتى كادت عظامنا تتكسر من الحجر، ثم واجهتنا شبكة من الاسلاك الكثيفة، كان علينا رفعها عن الارض واجتيازها زحفا ايضا. عندما وصلنا الى نهاية المنحدر، تجمعنا، ثم انطلقنا بمسيرة سريعة، وكنا نختفي تارة بين المرتفعات وتارة اخرى نتابع المشي السريع، وهكذا حتى وصلنا الى الشارع العام المؤدي الى مدينة ماردين التركية. اختبأنا تحت (منخفض) مجرى ماء مصنوع من الكونكريت، استبدلنا ملابسنا الرثة بملابس جديدة، ثم صعدنا الى الشارع، وحاولنا ان نكون على شكل مجاميع ( اثنين، اثنين) حتى وصلنا الى مدينة ماردين.

انقسمنا الى مجموعتين، الاولى مع النصير ابو ميسون وتذهب الى الكنيسة، والثانية معي وتذهب الى احدى المقاهي. رتبنا مظهرنا ودخلنا الى المقهى وتوزعنا على طاولتين، وكان علي ان اخذ دور شرطي في بعض الحركات، في محاولة لتجنب الانتباه باننا غرباء. طلبنا الفطور وكان قيمر مع العسل، وعندما انتهينا منه ومرت الامور بسلام، تحركنا، وبعد مرور ساعتين، ذهبنا باتجاه الكنيسة للقاء مجموعة الرفيق ابو ميسون حسب الاتفاق. وبعد ان حصل اللقاء مع المجموعة الثانية، كان علينا ان نعبر الحدود الى سوريا بمساعدة رجل ينتمي الى حزب كردي صديق من تركيا. خرجنا من مدينة ماردين صوب الأراضي الزراعية باتجاه مدينة (قزل تبه) التي مكثنا فيها  ليلتنا الأولى. كانت ليلة في العراء، بين حقول الحنطة والشعير، الجو بارد وكنا نرتجف من لسعاته. كانت ليلة  خرافية، لكنها جميلة، تخللتها الكثير من الطرائف!. 

في صباح اليوم التالي، وكان صباحاً  مشمساً  وباردا، وكنا ننتظر الدليل، واذا بنا نشاهد طيرانا في المنطقة وهو يحلق على علو منخفض، فدبّ بنا الخوف والقلق، هل كشف الاتراك خطتنا ونوايانا وجاءوا يبحثون عنا!؟، مرت الطائرة فوق رؤوسنا وقذفت كمية كبيرة من مسحوق اصفر اللون، الجو تغير لونه!، فقلنا: هذا كيمياوي!، وبعد اخذ ورد، تبين انه مبيدات زراعية، فتحول فصل القلق والخوف الى فصل من الضحك والتندر.

وفي الليلة الثالثة، تسلل لنا الدليل وهو يجلب معه بعض الطعام البسيط، حيث لم نأكل او نشرب منذ يومين، تجمعنا حوله وأنتهى الطعام برمشة عين.  كان الدليل رجلا  طيبا وشجاعا. في المساء تحركنا صوب الحدود. لكن كيف سنجتاز ربايا الجندرمة المتقاربة والتي لا يفصلها عن بعضها اكثر من خمسين متر؟. والى اية حرية ذاهبون وسط هذا الموت!؟.

اقتربنا من الربايا من دون ان نعرف في اي مكان يزرعون الالغام (الله الساتر)، كان في مقدمة المجموعة الدليل، وكنت في المؤخرة (القفل)، وامامي يسير النصير جلال، وصلنا الى منطقة الخطر، فشاهدنا الجندي التركي وهو واقف في البرج. همست الى جلال: (هذا مو جندي، هذا صنم، اذا طكَنة يخلي طشارنه ماله والي)، فضحكنا بصمت رغم صعوبة الموقف.  هكذا من مكان الى اخر حتى وصلنا الى المنطقة القريبة من الشارع. ولكي نجتاز هذه المنطقة، علينا ان نعبر حاجز الاسلاك الشائكة، ثم نعبر الشارع، وبعدها سكة القطار، واخيرا الوصول الى المنحدر وعبور الاسلاك المكهربة (كما يقولون). وهذا كله يتطلب الركض السريع، وكانت النصيرة البطلة كاترين معنا وهي مصرة على نقل ما تبقى لها من كتب رغم مصاعب ومتاعب الطريق، وكنت اساعدها في حمل قسم من هذه الكتب.

تحركنا جميعاً  لنعبر المرحلة الأولى من الأسلاك، أنجزنا المهمة بعد أن تمزقت ملابسنا. ونحن نقترب اقتربنا من الشارع واذا بمدرعة تحمل  بروجكتور، فلم يبق امامنا خيارا سوى الهروب الى الامام، وما ان وضعنا خطواتنا على الشارع حتى زخت علينا رصاصها، وبسرعة عبرنا الشارع وسكة القطار ونزلنا الى المنحدر وعبرنا الاسلاك (المكهربة!) التي كنت اشعر بها وكانها خيوط من البريسم، تجاوزناها بلمح البصر، ثم ركضنا بالاتجاه المعاكس حتى دخلنا بحدود الساعة الثالثة بعد منتصف الليل الى الاراضي السورية. هنأنا بعضنا بسلامة الوصول وتعانقنا بعد هذه المغامرة الخطيرة.

اكملنا مسيرتنا باتجاه القامشلي، وكان علينا ان نقطع مسافة 14 ساعة لكي نصل الى مدينة عامودة السورية اولا، في هذا الوقت وعند مرور مجموعة النصير ابو ميسون في احدى القرى، اعتقلتهم السلطات السورية، بينما استمرت مجموعتنا مع الدليل بالركض السريع نحو عامودة. في الساعة السابعة والنصف دخلنا عامودة من جهة الشمال. دخلنا الى سوقها كالمتسولين!، ملابسنا مزقتها الحواجز والاسلاك، ووجوهنا مصفرة من التعب والخوف من المجهول.

ذهبنا الى الكراج لنستقل سيارة اجرة الى القامشلي، انحشرنا في داخل سيارة قديمة جدا اقدم من اعمارنا!، وعندما اقتربنا من القامشلي، طلبنا من السائق ان يوصلنا الى مقر الحزب الشيوعي العراقي. وصلنا الى المقر، وكان الرفيق الراحل توما توماس ينتظرنا بفارغ الصبر، فهو يتابع تحركنا، وكان في غاية القلق علينا من صعوبات ومخاطر الطريق. ابلغته باعتقال الرفاق من قبل السلطات السورية، فاطلقوا سراحهم في اليوم الثالث من وصولنا. بعد ذلك بلغنا انا والرفيق ابو عراق من هذه المجموعة بالذهاب الى عامودة لاستقبال الرفاق القادمين من تركيا بنفس الطريقة، فامضينا هنا سنتان اصبحنا خلالها جزء من ابناء عامودة الطيبين.

النصير الشيوعي العدد 18 السنة الثالثة كانون الثاني 2024