صوتا (حسن زيرك و شیفان) يخففان التوتر!

كتب الكثير من الانصار عن التجربة الانصارية، سواء بصفة عامة او على شكل سيرة شخصية، تناولوا فيها حياة وظروف الانصار اليومية المختلفة والمتنوعة. وبالتاكيد الكتابة عن التجربة تحتاج الى جهد كبير وذاكرة جيدة. لكن من الممكن ان اخوض في الكتابة عن تجربتي الشخصية التي اعتز بها، وقد كانت جزءا بسيطا ومهما من تجربة عامة لأنصار ونصيرات رائعين قدموا حياتهم لهدف نبيل.

وصلت الى كراج دهوك قادما من الموصل، لم يكن الكراج مزدحما، انتبهت الى صراخ أصحاب التاكسي، كان مظهري يدل على اني طالب جامعي حيث البنطلون رصاصيا والجاكيت أزرقا وبالطبع مع ملزمة وكتاب. توجهت الى سواق التاكسي، أحدهم كان رجلا متوسط القامة بملابس كردية وسألته: اريد ان اذهب الى قرية (كاني بلاف)، لي صديق في الجامعة، اريد ان التقي به. حاولت ان اتظاهر بأني غير خائف او متردد، فرد عليَ بلطف: مو مشكلة انا اوصلك الى هناك، وطلب الأجرة (لا أتذكر كم كانت الأجرة).

جلست في المقعد الخلفي وحاولت ان اتظاهر بأني غير قلق، انظر من الشباك من جهة اليمين الى الطبيعة التي لم اراها سابقا، كنت سارحا بافكاري حيث الجبال تقترب والثلوج بدأت تتساقط. قطع السائق هذا الصمت (كاكا كدامنا سيطرتان فقط ونواصل الطريق الى قرية كاني بلاف)، وأجبت: ممنون كاكا. لازلت اتظاهر بأني غير مكترث لما قال.

(خوية ليش ما تبقى مو أحسن وتعيش مثل هايه الناس العايشين، وقالت لي أحد الامثلة التي تؤمن بها، خوية الياخذ امي يصير عمي). اختي امرأة بسيطة وطيبة تزوجت مبكرا ولديها سبعة، بنتين وخمسة اولاد، كانت تعيش بغرفة واحدة مؤجرة مع زوجها والاطفال. كنت اهرب من بيتنا لكي ابيت في بيت اختي. كنت احاول ان اخفف اجواء الخوف بأني سوف لن أبقى اكثر من يومين او ثلاثة ثم اغادر، ولكي تخفف عليّ ترد بعطف وحنية: خوية البيت بيتك).

وبنظرة من السائق كأنه دعاني ان اسمع أحد الاغاني الجميلة حيث ادخل الكاسيت وإذا بي اسمع صوتا جميلا وشجيا يدخل القلب بدون استئذان على الرغم من اني لم افهم ماذا يقول، انه صوت (حسن زيرك) المطرب الذي يذكرني بصوت داخل حسن. وبلكنة كردية سأل السائق: كاكا تريد تلتقي بصديقك الذي معك بالجامعة؟ بجواب لاارادي: نعم كاكا ممنون. كانت السيارة تسير على الشارع الاسفلتي بينما كنت انتظر ماذا سوف يحدث عند التوقف في السيطرات. وفي هذه الاثناء، وإذا بالسائق ينحرف ويسلك طريقا ترابيا، حاولت قدر الإمكان التظاهر بعدم المبالاة بالطريق الذي يسلكه، المهم اني أصل الى المكان المتفق عليه.

لا زال صوت (حسن زيرك) الشجي يصدح في السيارة. بعد ذلك غير السائق الكاسيت الى صوت اخر جميل وفيه عنفوان كأنه يحث الناس على الرقص بقوة، انه المغني (شيفان). لا اعرف كم استغرق الوقت للوصول الى قرية (كاني بلاف). دفعت الأجرة للسائق ممتنا له لمساعدتي على الوصول. احتفظ بكلمة السر واسم الشخص الذي يوصلني الى مكان آمن، احساسي كان حقا لا يوصف، عيناي تنظر بكل الاتجاهات.

(طرقت الباب مرتين كما اتفقت مع اختي تقريبا الساعة الثامنة مساء فقلت لها، غدا اغادر بالاتفاق مع أصدقاء لنا من مدينة الثورة بدون ان اضيف شيئا اخر كانت الدموع في عينيها وأضافت خبرني من توصل وبدون ان اعرف ما هي الظروف التي سوف تكون اجبت طبعا سوف اخبركم).

الثلج يحيط بالقرية القريبة من الشارع العام من كل الجوانب. ذهبت الى احد البيوت وسألت عن الشخص الذي سوف يوصلني الى المكان المتفق عليه. طرقت الباب الخشبي، خرج شخص باللباس الكردي، وباللغة الكردية قال: فرمو كاكا، اجبت بالعربية: اسأل عن (فلان)، لا أتذكر اسمه، قال: وبلغة عربية: تفضل انا فلان...!؟، قدمت اسمي الصريح وكلمة السر، دخلت بحذر ظنا مني بوجود عائلته، شممت رائحة الشاي، شعرت بدفء المكان، وجدت ثلاثة اشخاص امامهم ثلاثة اكواب شاي، عرفني لهم: هذا رفيق جاي من الداخل، لم يذكر اسمي، كان الاستقبال لطيفا ومرضيا. وصلت القرية ظهرا، قال: رفيق هيئ نفسك، لكن قبل ذالك يجب ان نشتري لك حذاء (سمسون)، لأنه يساعدك على السير فوق الثلج. رفيق تحتاج ان تختار اسما حركيا، لم أتأخر بالإجابة وقلت: (ابو زاهدة)، واستطرد: هل لديك أحد هنا؟، اجبت: بنعم، وذكرت اسم اخي الصريح ولقبه (ابو رضية). من هنا بدأت اشعر ان الطير الذي ظننته موجود على راسي سوف يرافقني طيلة مشواري. كان بحوزة الشخصين اللذين معي اسلحة كلاشنكوف وقابوريات على البطن وعليجة على الظهر. بدأنا نسير بطريق متعرج والثلج يزداد ارتفاعا. قال لي: رفيق نحتاج من خمس الى سبع ساعات لكي نصل الى مقر الحزب في كوماته. هنا لا احتاج ان اجيب بشيء سوى ان اسير خلفهما واسمع وانفذ ما يقولان. سرنا بحدود ساعتين ونصف، قال مسؤول المفرزة: نأخذ هنا استراحة عشرة دقائق ونواصل الطريق بعد ذالك. المكان كان مفتوحا ومغطى بالثلج، بدأ الرفيقان بإزالة الثلج في الوسط، ثم جمعا كمية من الحطب اليابس واشعلا النار بطريقة بدائية. يشعرالانسان انه يعيش في عصور غابرة، تجمعنا حول النار، كانت لي رغبة وانا ممدد على الثلج ان تكون النار في حضني.

(خوية صباح الخير اشلون نومتك زينة، الليلة الأخيرة في بيت اختي كانت ثقيلة جدا على جفوني وانا محشور مع ابناء وبنات اختي، خوية اكلك شي قبل لا اتروح لآصدقائك لو اتمر على أمك تودعها، وبحسرة وبنفس عميق من القلب الذي توقف برهة وبصوت مكتوم اخ......يا امي... اجبت لا أستطيع، لا احتمل بكائها وهي تودعني الافضل ان لا اذهب).

رفيق اكعد … ماسكا يدي، نريد ان نوصل بأسرع وقت ممكن للمقر، لم اجب بشيء.

(امي امرأة طيبة وبسيطة جدا لها جذور سومرية جنوبية، ملامح الحزن ترافقها اينما حلت كبقية النساء الجنوبيات، ان هؤلاء النساء ومنهن امي عشن ظروفا صعبة وقاسية جدا، تشعر انهن كن يمزجن الحزن مع الاكل والشرب).

الثلج كان يغطي الجبال والوديان، بين حين واخر يسأل الرفيق: هل تستطيع ان تواصل السير!؟. ولكي يخفف عني التعب يضيف: سنصل قريبا الى المقر. واصلنا الطريق المتعرج صعودا ونزولا والثلج يصل الى الركبتين. ونحن نسير لمحت ساقية (روبار) ليست ببعيدة عنا وتنحدر جنوبا. قال مسؤول المجموعة قريبا نصل المقر. كنت اشعر بالإرهاق جدا، لكنني لم اظهر ذلك امامهما. سرنا مسافة خمسة الى عشرة دقائق صعودا تاركين الساقية خلفنا، لمحت غرفة صغيرة بجانب الطريق من جهة اليسار وغرفة كبيرة الى جانب اليمين. هذا هو مقر الحزب، لكن ليس هنا مبيتنا، واضاف: سوف نواصل لمسافة قليلة لكي نصل مقر فصيل الحراسة. دخلنا، رحّب أحد الرفاق بنا: (تكدرون ترتاحون هنا). جلست كأي شخص جديد يأتي الى مكان لأول مرة. كان يوجد عدد قليل يتحدثون مع الرفاق الذين كانوا معي، رحب بي أحد الرفاق: تستطيع ان ترتاح وتنام هنا. تمددت.

(سألتها اسمك قالت وبقليل من الخجل زاهدة. قلت لها وقليل من الخجل الغير ظاهر عليَ اسمك جميل وحزين وغير مألوف كثيرا، اجابت انا لست من بغداد انا من السليمانية).

للحكاية بقية

النصير الشيوعي العدد 18 السنة الثالثة كانون الثاني 2024