غادرنا مبكرا وبشكل مفاجئ الرفيق النصير أبو صباح (أحمد كريم غفور)، الرفيق الأممي الرائع، الذي قدم الكثير لوطنه ولشعبه، وحينها كان لي أمل أن نكمل اللقاء الذي بدأناه معه ولم تعطنا الحياة فرصة لإكماله، وها نحن نفي بالوعد واحياءً لذكراه العطرة نلتقي مع رفيقة دربه أم تارا، وهي مناضلة قدمت الكثير من التضحيات المشهودة، وتعرضت للحرمانات المختلفة وتحملت فراق الزوج والأبناء مكرهة، وقصتها هي حكاية المئات من الرفيقات اللواتي مررن بتلك المعاناة. لقد تأخر هذا اللقاء كثيرا لظروف خارجة عن الإرادة لكنه كان لقاءً مليئا بالشجن والذكريات الحلوة والمرة، كانت رحلة صعبة اليكم بعضاً من صفحاتها.

وللتعريف بالرفيقة أم تارا، اسمها (نسرين عزيز مصطفى) من مواليد السليمانية 1956، عاشت في كنف عائلة شيوعية، أبوها وخالها كانا معرضين للاعتقال والاختفاء دوما في مدينة فيها العديد من الأغوات والإقطاعيين. لم تستطع اكمال الدراسة بسبب مضايقات المجتمع آنذاك، فتفرغت لمساعدة أمها في شؤون المنزل، ومرّتْ في حياتها الكثير من المصاعب والعذابات.

تقول أم تارا: كنت نشطة في مجال جمع التبرعات والفعاليات ومساعدة عوائل الشهداء والمرضى. في حزيران 1978 تم أعدام رفاقنا في الموصل وأعتقل عدد آخر فشعرنا بدنو نهاية الجبهة الوطنية. بعدها بأشهر أخبرني زوجي بأنه سيلتحق بالرفاق بالجبل، وأنهم ثلاثة رفاق ويحتاجون الى مساعدتي للتمويه، فخرجنا صباحا الى قلعة ديزه متوجهين الى بيت حزبي، لكننا وجدنا البيت مهدماً، فذهبنا الى بيت أهلي، ومن هناك انطلقنا الى منطقة (زلي)، وفيها مقر للحزب، وعدت أنا لأولادي في السليمانية. وفي ايلول 1979 التحقت بالحركة الانصارية في منطقة زلي. وكان الوضع سيئا جدا، فلا يوجد أكل ولا ملابس، ولا سلاح، والوضع حرج جداَ خصوصا لرفاقنا العرب. بنينا (كبرة)، وعشنا فيها ونقوم بالحراسة والخفارة والمساهمة في كل الواجبات، كانت هناك معنا زوجة الرفيق محسن من أربيل أسمها (كافية)، وبخشان زنكنه، والشاعرة خوشكا فرشته، والتحق العديد من الرفاق والرفيقات بعد الهجمة الشرسة والجبانة للبعث الفاشي على حزبنا، وكان هناك العديد من مقرات الأحزاب في نوزنك ونوكان، فسمي بوادي الأحزاب.

وحصلت تطورات دراماتيكية، حيث بدأ قصف وهجوم شديد بالطيران على هذه المواقع التي نقيم فيها، ولم تكن هنالك ملاجئ للأختباء، فقط هنالك خندق كان فيه عدد من الجرحى، وكان هناك رفيق مجروح جرحا عميقا في بطنه، وهذه أول مرة أشاهد فيها جريحا، فقال لهم أخرجوني ودعو تارا وأمها في المكان، لكنني رفضت، وبعد ليلة اجتمعت الأحزاب وقرروا أن يفرغوا هذا الوادي من المقرات، والعوائل تنتقل الى سردشت.

وبسبب الهجمات العسكرية من الجيش والجحوش أنتقلت الى منطقة (بنوخه له)، وهي قرية حدودية. ثم أنتقلنا الى (بيتوش) مع عوائل شيوعية، وبعد ذلك انتقلنا بصعوبة الى (شاربازيو)، ثم (بشتاشان)، وبعدها كان الانتقال الى (قه راخ).

ونتيجة لتدهور الأوضاع قررنا المغادرة مشياً، رغم البرد وصعوبة الطريق وطول المسافة، لكننا كنا مجبرين على ذلك، وكان هنالك شاب بالقرية عنده حمار يستخدمه لبيع الأخشاب، فطلبنا منه الحمار لنقل الأطفال الأربعة الذين كانوا معنا، رفض في البداية خوفا من (أوك)، لكنه أقتنع في النهاية وجاء معنا. في الفجر وصلنا الى الشارع العام، فجاءت سيارة (بيك اب) لنقل الخضروات، فركبنا ووصلنا الى (جوارتا) ثم الى السليمانية، وكان الكثير من رفاقنا أنتقلوا الى منطقة (هزارستون) في هورمان.

كانت الحياة في (هزارستون) صعبة جدا، تأذيت كثيراً، فتم فتح مقر في (سيل وي) في تشرين الاول 1983 ومقر آخر في (خواكورك) وفي (جويزة).

وأنا سكنت في (آلوه تان)، من سنة 1983 حتى 1989 وكان منزلي كمقر للرفاق وللجرحى، ومركز للبريد وجمع الأدوية والأرزاق، وكانت أعداد الرفاق كبيرة وكذلك الجرحى والمرضى الذين يأتون للعلاج في أيران، أقوم أنا بتوفير الأكل وكل الخدمات لهم، وفي هذه الفترة كنت كذلك أساعد في الطبابة كزرق الأبر والولادة وحل مشاكل أهل القرية في سبيل الاستمرار في مساعدتنا من قبلهم، وكان يعيش معنا ثلاثة رفاق.

في سنة 1987 جلبت الأولاد تارا ودانا، وبعد الأنفال سنة 1988 تحولت فرق الأنصار والبيشمركة للعمل بمفارز صغيرة، وتم أفراغ المقرات.

وهكذا بعدها بدأ موسم الهجرة الى أوربا فذهبنا مع الأولاد الى السويد بعد معاناة وعذابات رهيبة.

في نهاية هذا اللقاء ما عسانا أن نقول.. كم من الحسرات نلفظها ونحن نقرأ كل تلك التضحيات، تلك الرواية قصة عراقية بل قصة عشرات المناضلات والمناضلين الذين ما زالوا لم يأخذوا حقهم في التعريف بهم، ولعلنا عكسنا جزءاً يسيرا من سيرة الفقيد أبو صباح النضالية المجيدة، وللأسف ان هؤلاء الناس نفتقدهم بعيدا عن وطنهم الذي ضحوا من أجله بكل ما يملكون، والأحياء منهم لم يسمح لهم حتى اليوم بممارسة دورهم الوطني في عملية بناء العراق، لهم المجد جميعا.

النصير الشيوعي العدد 19 السنة الثالثة شباط 2024