كان في استقبالنا عند وصولنا فصيل اسبندارة قادمين من بهدينان رفاق الفصيل وقدموا كل ما يمكن تقديمه لراحتنا بعد رحلتنا الطويلة. يتكون الفصيل من النصير (ماموستا هه زار) كمسؤول عسكري، والنصير (ابو زينب) أداريا". والنصير (ابوأسيل) كمسؤول سياسي والمعروف بحدة الطباع والوجه الذي لا يعرف الأبتسامة.

يقع فصيل سبندارة في بيت قديم بني من الحجر والطين يعود الى احد الفلاحين الذين تم تهجيرهم من المنطقة كبقية الفلاحين بعد ان تحولت الى ساحة عمليات عسكرية محرمة. يتكون البيت من غرفتين صغيرتين قسمت كل منها بالبطانيات والنايلون الى قسمين لنوم عوائل الأنصار وهناك صالة كبيرة حولتها ادارة الفصيل الى قاعة لنوم الأنصار والضيوف وهم في طريقهم الى مقرات اخرى، اما اصطبل الحيوانات فقد تم تنظيفه وتغليفه بالبلاستك وحول الى مخزن للتموين وحولت احدى اقسامه المفتوحة الى مطبخ .

مقر الفصيل محاط بجبال شاهقة قليلة الأشجار وتنبت هنا وهناك بعض الشجيرات الصغيرة، من الأمام وعلى بعد عدة كيلومترات هناك الأراضي العراقية المحتلة من قبل القوات الأيرانية ويفصلها عن موقع الفصيل وادي عميق جدا" يمر فيه نهر سريع الجريان وفوق هذا النهر وعلى أرتفاع منخفض تحلق دائما" طائرات الهليكوبتر الأيرانية يوميا" وهي تنقل الجنود والتعزيزات الى خطوط الجبهة ومن مواقعنا فوق الجبل نشاهد هذه الطائرات وكأنها لعب أطفال وهي تطير امامنا في الوادي تاركة ورائها صدى كبير لمحركاتها بين الجبال، اما الجهة اليمنى من الموقع فهناك عيون الماء العذبة على حافة جبل شاهق تطفوا فوقها بعض النباتات المائية التي نتناولها في وجبات الغداء عندما يصبح طولها مناسبا" للقطع. أما الجانب الخلفي للفصيل فهو محمي بجبل شاهق نلجأ أليه في حالة ملاحظة تحركات عسكرية مريبة وغير عادية للطيران العراقي او الأيراني خوفا" من القصف أو الأنزال الجوي ومن فوق هذا الجبل كنا نسمع على شبكة FM التوجيهات الصادرة للطيارين العراقين من قبل مركز القيادة لقصف اهداف محددة .

اما من الغرب فهناك الطريق الملتوي في هذه السلسلة الجبلية الذي يؤدي الى بقية مقراتنا مثل بيربنان، موسلوك، ولولان، وغيرها .

كنا نجلس فوق صخرة كبيرة على هذا الطريق في حراساتنا النهارية لمراقبة الطريق ويرافقني بعض الرفاق في فترة الراحة ونبدأ بقراءة مجموعة من ابيات الشعر بما يناسب وضعنا في كردستان واتذكر منها :

حمامة الفرت من ايدي ولاجت

وعليها الروح تتعـذب ولاجت

من امس لليوم لاحطت ولاجت

ولا ألها جدم بــرض الوطية

ليس هناك شيء جديد في عمل الفصيل سوى الروتين اليومي والذي يشمل الحراسات النهارية والليلية والطبخ وازالة الثلوج من سطح قاعة النوم واستقبال الضيوف سواء من رفاقـنا القادمين من مواقع عديـدة اخرى متوجهين الى قاطع بهدينان او بالعكس الى مواقع عمل جديـدة او الى ايران للعلاج او ضيـوف من الحـزب الديمقراطي الكردستاني الأيـراني ( جماعة قاسملو) الذين يمرون على فصيل الضيافة وهم في طريقهم الى مواقع أخرى واحيانا" يدفعنا الفضول بالنزول الى أسفل الوادي نبحث عن المجهول .

من فصيل الضيافة تمت دعوتي وام سوزان الى فصيل (موسلوك) وهو على بعد اكثر من ساعتين مشيا في سلسلة جبلية متفاوتة الأرتفاع لحضور حفلة زواج الرفيق النصير (بولا) والرفيقة النصيرة (نادية) وكانت حفلة أنصارية جميلة رغم عدم توفر اي شيء يدل على الزواج سوى بعض البالونات الملونة التي علقت في القاعة ورقصات بعض الأنصار للترفيه عن النفس وسهر كافة الرفاق حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي. ومن فصيل الضيافة تمت زيارتنا لفصيل (سبيكـا) للقاء اخي الفقيد النصير سلام (د. ابو تانيا) هذا الفصيل الواقع على قمة جبل عالي وعلى بعد ساعتين من فصيل موسلوك في بيت هجره احد الفلاحين، وعادة ما يشعر القادم الى هذا الفصيل بالتعب والأنهاك قبل ان يصل قمته حيث موقع الفصيل .

كان القصف المدفعي بين القوات العراقية والأيرانية التي تحتل بعض المواقع العراقية على الشريط الحدودي مستمرة كل يوم واحيانا تقوم الطائرات العراقية القاذفة بقصف المواقع الأيرانية وهي على ارتفاع شاهق وكنا نلتقط احاديث الطيارين العراقيين المتبادلة مع مركز القيادة بقصف اهداف محددة وتكرار قصفها عدة مرات .

في أثناء حراستي الليلية وفي الساعة الثالثة والنصف فجر يوم 23 / نيسان / 1986 وانا في دوامة تصارع الذكريات وحب لقاء الأهل وما حل بهم بعد سنوات طويلة من الغربة وما هو مستقبلنا ومستقبل الحركة الأنصارية وتأثيرها في تحريك الشعور الوطني المعادي للنظام الدكتاتوري، تذكرت أغاني فيروز الصباحية عن الحب في الصيف والحب في الشتاء والكتابة على الرمل، ففيروز ليس عندليب الصباح فقط ونسمعها كل يوم بل هي مطربة كل ساعة، صباحا ومساء، في الأوقات الصعبة، فهي دواء لكل الجروح بأغانيها الخفيفة القصيرة، قصص الحب والغرام والشوق والفرح والأمل وحب الوطن والمرأة والنضال والثورة والحبيبة والأم وهموم العمل والتعب وفراق الأهل والأحبة... واصبحنا نلقب بأبو فلان... ونسينا اسامينا ...واصبحنا لا نعرف حتى اسامينا... معقول الفراق يمحي اسامينا ... ونحن سوا ربينا... سوا حكينا... سوا قضينا ليالينا .

قطعت تفكيري أصوات جاءت عن بعد حيث بدأت المدفعية العراقية ترمي بعض قذائفها على المواقع الأيرانية ونحن ندرك ان هذا القصف ليس بجديد وتعودنا عليه يوميا، ومن جانبها اخذت المدفعية الأيرانية ترد بالمقابل على المدفعية العراقية ألا ان القصف اخذ يزداد تدريجيا ووصل الى ذروته بعد نصف ساعة تقريبا وتحولت السماء الى كتلة من نار من شدة القصف العراقي وتحول الليل الى نهار بسبب الأضواء الكاشفة وأنفجارات القذائف، شيء ما غير طبيعي يدور بالقرب من مواقعنا وعلينا الحذر، أنه هجوم الربيع كما أعتقد وقد استعدت القوات العراقية منذ فترة لهذا الهجوم ووصلت الى الحزب اخبار عنه منذ فترة، سارعت لأيقاض كافة الرفاق من النوم وتم الأتصال بالقيادة لاسلكيا وجاءت التوجيهات بالأستعداد العسكري وانتظار التعليمات، كان رد القوات الأيرانية متقطع ويبدوا انهم فوجئوا بالهجوم العراقي والقوة النارية المستعملة فيه، بعض قذائف المدفعية سقطت على أماكن قريبة من مقرنا ومحيطه وهذا ينطبق على حال بقية الفصائل ولا نعرف هل جاءت بشكل عفوي او مقصود، اخذ الفصيل الحيطة والحذر وبأنتظار التوجيهات من القيادة فلربما يتم قصف مقر الفصيل ايضا.

عند بزوغ شمس الصباح توقف القصف المدفعي واخذت الطائرات العراقية بالتحليق والسيطرة على خط الجبهة وبدأت بتصوير المواقع الأيرانية وقصفها من جديد دون اية مقاومة من القوات الأيرانية التي انسحبت من مواقعها ثم بدأ الهدوء يخيم على المنطقة .

في الساعة التاسعة صباحا من يوم 24 نيسان وصلت برقية من القيادة تؤكد على الحذر والأستعداد لترك الفصيل في حالة حصول أي تطورات جديدة وتوجهي وام سوزان الى موقع موسلوك الخلفي، ودعنا الرفاق وغادرنا الفصيل الى موسلوك وبعد اربع وعشرين ساعة غادرنا موسلوك الى فصيل بيربينان .