في الطريق نحو المؤتمر الوطني الرابع ... خطوة في الإتجاه السليم...!!
صار أمراً جلياً، أن حركة الأنصار للحزب الشيوعي العراقي، شكلت تجربة هي الأكثر نصاعةً، وصفحة من أهم وأبرز الصفحات في مسيرة نضال الشيوعيين العراقيين وحزبهم المجيد، لتحقيق هدفهم التاريخي بغدٍ أفضل للعراق ولشعبنا المضام.
وبات معروفاً أن طابع وأهداف المرحلة التي تلت الحملة الاجرامية المتجددة، أواسط سبعينات القرن الماضي، لتصفية الحزب قيادة وقاعدة، جسدياً وفكرياً، ومحو نضالاتهم التي شكلت تأريخا للعراق. مرحلة استوجبت اتخاذ الكفاح المسلح اسلوباً رئيسياً في النضال السياسي، بصيغة حركة الأنصار. وكان واضحاً، على الأقل للمتمكنين من معاني المنهج الماركسي الجدلي، أن اعتبار الكفاح المسلح اسلوباً رئيسياً لا يعني أبداً نفي أساليب ووسائل الكفاح السياسي والجماهيري بأوسع معانيهما، بل كان يعني الترابط الجدلي بين كل أساليب النضال لبلوغ الهدف الموضوع، وهو عودة الحزب بقوة إلى ارض الوطن وعرقنه الكفاح بكل سبله في كل أرجائه، بإعادة تشكيل منظماته في الداخل، وتفعيلها للقيام بنشاطاتها المتنوعة الوسائل والأشكال.
ولكن، وعلى الرغم من وضوح تلك الاستراتيجية، وفي إطارها تحديد المسارات والممارسات التنظيمية، والكفاحية، التكتيكية والاستراتيجية، فإن الوجهة في التطبيق والتفكير، أخذت مناهج وسبل متباينة حتى صار واضحا تشكل وجهتين: وجهة تجييش أو عسكرة العمل والنشاط الحزبيين، والتقليل من شأن الأساليب والوسائل الأخرى وبينها الإعلامية الجماهيرية، والثقافية، والتقليل من شأن التنظيمات الحزبية في قيادة وريادة العمل الأنصاري، بوجهته الواسعة. فصار ملموسا وواضحا للعيان، الصراع الذي نشأ بين مهمتيّ المسؤول العسكري والمستشار السياسي. وكنا نعيش ونعايش يومياً حالات ومشاهد الاستهانة بعمل ونشاطات الأنصار الثقافية والفنية الإبداعية، وكان طبيعياً أن تلغى فعاليات أو استعدادات، وحتى تحضيرات لاحتفالات الحزب المركزية، خضوعا لنزوات المسؤولين العسكريين، أو لقصور في فهمهم لطابع الحركة الأنصارية، وهم حزبيون أيضا بطبيعة الحال. ولا أريد هنا ان اذكر حوادث واقعية وأنا أحد الذين تعرضوا للمساءلة العسكرية لمجرد حرصي على تحقيق انجازات هامة على صعيد الثقافة والاعلام، في قاطع بهدينان، وفي عموم مواقع الحركة.
وكان هنالك نهجٌ آخر، وهو منهج الاستيعاب الأوسع لمعاني خوض الكفاح المسلح، في تلك الظروف، بدءا بالاسباب والدوافع وثم ما كان يستلزم من أشكال للتنظيم والهياكل وللنشاط الحزبي، التنظيمي والسياسي الجماهيري. على اساس أن هدف الحركة هو الدفاع عن وجود الحزب وثبات الرفاق ومنظماتهم، وثم توسع العمل والكفاح في كل أنحاء البلاد، بهدف اضعاف قوى النظام وخلق أوضاع جديدة تسمح للحزب والقوى الوطنية، في العمل على تغيير موازين القوى في طريق اسقاط الدكتاتورية وإقامة البدبل الديمقراطي.
وبعد فترةٍ من الصراع المحتدم في داخل الهيئات الحزبية، وفي العلن ضمن تشكيلات الأنصار، وخلاله فقد الحزب عدداً من كوادره الجيدة المخلصة، وحجمت أدوار كوادر أخرى، حتى بدأت التحضيرات للمؤتمر الوطني الرابع للحزب عام 1985. وفي التحضير له، برز الصراع أيضاً في أسلوب اختيار المندوبين لحضوره في وقت لم يك فيه مبدأ الانتخاب سائداً آنذاك، في اختيار مندوبي المؤتمر.
في الطريق نحو عقد المؤتمر بدأت مفارز الأنصار تتحرك بسرية دون اعلان للوجهة أو للمواعيد. وفي مسيرة المفرزة التي ضمت مندوبي منطقة قاطع بهدينان، كان لي شرف الذهاب باعتباري نصير في فصيل حماية المقر للقاطع. وفي الطريق اقتربت من الرفيق مستشار القاطع السياسي حينها، عضو اللجنة المركزية للحزب، الرفيق أبو عباس ( مهدي عبد الكريم) وكنت مبتهجا بالتوجه والوجهة، فهمست بأننا نسير بالاتجاه الصحيح، فابتسم، وصحح لي بأنها "خطوة في الاتجاه السليم" ...!!. وحينها كنت أعتقد بأن المؤتمر سيتوصل لحل عقدة الصراع بين التوجهين المذكورين آنفاً، والخروج من عنق زجاجة الصراع الفكري والتنظيمي داخل تنظيمات الحزب وفي علاقتها بالتشكيلات الأنصارية.
في موقع التهيؤ لعقد المؤتمر، في منطقة خواكورك (مقر دجلة)، عند المثلث الحدودي مع تركيا وإيران، تواصل وصول مفارز المندوبين وبما فيهم مندوبي منظمات الحزب في الجنوب ...!!. وبدأنا العمل في قطع جذوع الأشجار وأغصانها، بهدف بناء قاعة المؤتمر بأشراف الرفيق أحمد الجبوري.
كنا في حراساتنا ودون قصد نستمع للحوارات الساخنة داخل آخر اجتماعات اللجنة المركزية وبين أعضائها، حيث ظهرت توجهات ما سمي حينها بوجهة "الدفاع عن الوطن"، اليمينية، بذريعة الدفاع عن البلاد في ظل الحرب بين العراق وإيران....!!.
أتذكر أنه وصلت معلومات عن تشديد النظام في رباياه وحراساته، وفي تحريك أعوانه ومندسيه للكشف عن مكان ومواعيد عقد المؤتمر. لذلك جرى تبليغي لكوني كنت أعد الأخبار الصباحية، استمرارا لمهمتي في مقر قاطع بهدينان، وثم القيام بقراءتها، بتضمين الأخبار خبر قرار اللجنة المركزية بتأجيل عقد المؤتمر لأسباب تنظيمية وفنية، إلى إشعارٍ آخر. وحين قراءتي للخبر والرفاق يتناولون طعام الغداء، اقترب حينها الرفيق طيب الذكر، أبو سعود (عزيز محمد)،وكان سكرتير ل.م للحزب، وهمس في أذني بلهجته اللطيفة، مازحاً: ( علييينه)، أي تبيع "كلاوات علينة".
وأثناء كل ذلك وفي أوقات الاستراحة أو عدم قيامي بواجباتي الأنصارية، كنت أراقب وأكتب نصاً يعكس المجريات. ومع قرب اختتام أعمال المؤتمر صار النص جاهزاً بعنوان ( نرنوه قرصاً للشمس). وفي يوم سبق الجلسة الختامية عرضته على الرفيقة الراحلة، لها المجد، زكية خيري (أم يحيى)، ففرحت وابتهجت وطالبتني بجمع نصوصي الانصارية في مجموعة شعرية تعهدت بالعمل على طبعها لاحقاً.
وبعد اختتام جلسات المؤتمر، جرى تنظيم أمسية احتفالية في نفس القاعة، بحضور كل الأنصار من الموقع ذاته، ومن حمايات الوفود، وكنت بينهم. وفوجئت بطلب الرفاق بقراءة النص أمام جمع الحضور. وهذا الذي حصل، وحين أكملت وبعد قراءة الخاتمة: " ولن يظل الطريق ... المسار، إلاّ المتزلفون ... تياسراً، والمنزلقون ... يمنةً ... ويسارُ ... ألخ"، صدر صوت جهوري من أواخر القاعة، وكان صوت الرفيق المذكور بالخير الراحل ابو سليم (كريم أحمد)، معلقاً كعادته اللطيفة، على حركة يديّ بالاشارة إلى اليمين واليسار، وقال "رفيق ... لقد وضعتنا جميعا في ......"!!.
وهكذا ولد نصي حول المؤتمر، ونشأت فكرة اعداد مجموعتي الأولى بعنوان (في ذاكرة نصير ... نصوص من سيرة انصارية) والتي تعرضت للفقدان بعد اكمالها في مقر قاطع بهدينان للأنصار بطباعة الرفيق العزيز أبو علي ( عامل خوري)، وضمت تخطيطات مناسبة للنصوص، ابدع فيها الرفيق النصير والفنان التشكيلي عباس العباس (ابو فائز). نعم ضاعت بعد ارسالها مع بريد اعلام القاطع إلى الرفاق في اعلام الحزب المركزي. وكنت قد بعثت دفتر النصوص مخطوطة إلى الرفيق والكاتب زهير الجزائري، طالبا منه الاحتفاظ بها في دمشق. وهذا ماحصل فعلاً. وبقي المشروع مجمدا حتى صدور المجموعة في العام 2012 بدعم من رابطة الأنصار، وأخص العزيز الفقيد آشتي الذي أصر على المساهمة في التكاليف.
واليكم النص كما هو منشور في المجموعة:
تقديم
في الظلام،
في دجى الليل المدلهم،
يبقى البصيصُ أملاً ...،
يكبرُ ...،
يمسي شعاعاً،
قرصاً للشمسِ،
يحمرُ ... يحمرُ ...،
يرنو افقاً.
*******
تهيـــؤ
مواكبُ توافدت،
تحدّت حواجز المخاطرِ.
تجمّعت ...،
تشكلت قزاعاً.
جحافلُ عزائم،
تشابكت مناهلُها
توحدت نسوغها
تحدّت سلاطين القمعِ،
كأمواجِ بحر ...
تلاطمت، مستقرها،
محيطٌ هادر.
سواعدٌ تماسكت،
والحناجرُ تناغمت،
تحدثُ الصدى،
في محطاتِ التقاطرِ.
كل شيءٍ إلى احتضارٍ،
وسماء الحزب،
رياضٌ ...،
عبيرها العبق.
******
لقـــاء
وجوهٌ تلاقت،
وأخرى على طريقِ التعارفِ.
أحاديثها،
تجلجلُ كالصدىً
تبسّمَ الإسبندارُ طرباً،
بمقدمِ الشامخين.
تمايلت الأشجارُ فرحاً،
بالخائضين أوارا ...،
وموجَ بحـــر.
********
شــــروع
على هدى التأريخِ،
وفي خضمِّ المصاعبِ،
شـــرع الرابعُ،
يحيطه فرسانٌ،
إيمانهم جذر.
تبسمل بالنشيد الأمميّ،
مؤذناً ساعةَ الإبحارِ،
والسفن للإبحار،
ترنو ... تنتظرُ.
علا صوتٌ،
ترددت أصواتٌ،
كأنها السيوفُ،
لدجى الوهن ...،
تبتترُ.
منافحُ شررٍ
مناهلُ للآفاقِ ...،
تنفجرُ.
شبابٌ،
حماسهم جمرٌ،
وشيبٌ،
بالسنواتِ الجمرِ ... تعتمرُ.
والنساء، بينهم زخمٌ،
جمعتهم قيمٌ فكرٍ يتقدُ.
*******
الختـــام
إنتهى المجمعُ،
مداه ما انتهى ...،
فالخير بمن يستنهضُ،
واقعاً يستجارُ.
الأوراقُ بيضٌ،
والكلمات حبرٌ،
إن لم تلها ...،
ميادينُ غمارٍ تستعرُ.
ولن يضل الطريقَ ...،
المسار،
إلاّ المتزلفونَ تياسراً،
المنزلقون ...،
يمنةً ... ويســار ...!
كردستان العراق- خواكورك (مقر دجلة)
15 . تشرين الثاني/ أكتوبر. 1985