كان الشهيد أبو يحيى (الفنان شهيد عبد الرضا 1951 - 1983)، مصورا فوتوغرافيا بالإضافة الى كونه مخرج وممثل مسرحي، وغالبا ما يحمل معه منظار المفرزة (دوربين)، ويقول ان الدوربين ضروري مثل البندقية، فقد كان بالنسبة اليه مثل الكاميرا، وقد التقط الكثير من الصور التي كان يفكر في ارشفتها وعرضها لكنها ضاعت بعد استشهاده.
ولمن لا يعرف الا القليل عن الشهيد ابو يحيى، فانه قد كرس حياته القصيرة (33 سنة) كلها وبكل شجاعة الى قضية الحزب، كان فنانا وثائراً مثقفا، ومع انتمائه الى الكفاح المسلح اصبح فنه سياسيا بشكل كامل، وقد تجلى ذلك في الاعمال المسرحية القليلة الرائعة التي اخرجها في قاعدة (نوكان) ثم (بشتاشان)، حيث اراد ان يضع مواهبه كلها في خدمة الثورة، وكان يطمح الى المساهمة في اعادة تشكيل الحياة المسرحية بالعراق بعد اسقاط النظام وانقاذها من الشوفينية البعثية ومخلفاتها الفاسدة، ورفع المستوى الثقافي والشعور الانساني بالمجتمع العراقي بالتربية عن طريق الفن الهادف، لكنه لم يستطع في نهاية المطاف تحقيق احلامه الكبيرة، فاختطفته منا رصاصات الغدر الوحشية في پشتاشان الى جانب واحد وستين شهيدا كانوا قد ادركوا مثله منذ الصبا الحاجة الى التنظيم والنضال في سبيل الثورة.
وقبل ان يلتحق بقوات الانصار وهروبه قبلها الى اليمن، كان يعمل ضمن طاقم التصوير الخارجي في المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون، الذي كان مسؤولا على تغطية اجتماعات وزيارات الوزراء والمسؤولين الكبار بالدولة وتصويرها وبثها في نشرات الاخبار ولم يكن مكشوفا الى اجهزة الامن والاستخبارات، وكان مصورا مهما في هذا الطاقم، لذلك كان قد اشترك لعدة مرات في تصوير اجتماعات خاصة وافلام وثائقية لمجلس قيادة الثورة ورئاسة الجمهورية ومؤسسات القيادة القومية والقطرية وغيرها.
وتقدم باقتراح للحزب سنة 1978 وكان مايزال يعمل هناك، لاغتيال مسؤوليين بعثيين ووزراء بالدولة بمن فيهم صدام حسين، في عملية كان قد شرحها للمكتب الحزبي لمنظمته في بغداد بالتفصيل، وقد رفضتها اللجنة بشدة جملة وتفصيلا، اما هو فلم يقتنع وطالب بان يرفع اقتراحه الى اللجنة المركزية للبت بالموضوع، وتم له ما أراد، وتلقى الجواب منهم بالرفض أيضا، وتأييد قرار لجنته الحزبية.
ومختصر فكرته، ان يقوم باخفاء مسدس وقنبلة يدوية داخل اغلفة كاميرات التصوير لانها لا تفتش من قبل الحراس المسؤولين على حماية المكان، ثم يقوم بتنفيذ العملية، وكان على اتم الاستعداد للاستشهاد اذا تطلب الامر، وقد بقي الى اخر يوم من حياته مقتنعا بانه كان قادرا على قتل صدام بهذه الطريقة، لكن المسؤولين بالحزب قد خذلوه واضاعوا علينا فرصة القصاص من هذا المجرم.
وكان هذا الرفض الذي جعله مستاءً من بعض هؤلاء المسؤولين هو موضوع سجال بيني وبينه بعد انتهاء فترة حراستنا مساء يوم في اواخر كانون الثاني سنة 1982 عندما كنا في مفرزة بمنطقة السليمانية وقره داغ.
لقد اعتبرت قرار منظمته صحيحا تماما، واعتبرت مقترحه في تلك السنة (مغامرة وتطرف) لو كان قد حدث فعلا سواءً بنجاح او فشل، فكان سيؤدي الى كوارث تفوق ما نحن به الان، خاصة وان سياسة الكفاح المسلح لم يتم تبنيها الا بعد عام على مجزرة أيار 1978، ولم يقتنع ولم اقتنع انا أيضا بحججه، لأننا كنا نتحدث وكاننا نشاهد فلما عن ماضينا المفقود، ونتحدث عن خسائرنا المشتركة، وذكرياتنا كانت صورا وافكارا مفككة غير مترابطة مع مضمون حديثنا.
الان وبعد مرور أربعين سنة على استشهاده البطولي اتساءل: ماذا لو كان الشهيد أبو يحيى قد نجح فعلا في تنفيذ خطته وقتل صدام؟ أين كان العراق سيتجه؟.
اتخيله اليوم وصورته امامي، وهو يرفض كل الآراء الحزبية ويقرر تنفيذ العملية بمفرده وعلى مسؤوليته الشخصية، ودون العودة الى آليات اتخاذ القرارات بالحزب، ويحمل مسدسا وقنبلة ويضعهما بعناية في حقائب الكاميرات، واثقا من نفسه ومن استعداداته وقدرته على تنفيذ المهمة.
في المساء، يترك عالم النهار خلفه وهو يخطو إلى غرفة واسعة مليئة بالضباط والعقداء وبالأحاديث ودخان السجائر، يسير بين الطاولات، والكاميرات وجهاز تسجيل الصوت في حقيبة معلقة على كتفه الأيمن ويمسكها تحت ذراعه وبينهما قنبلة ومسدس، ويراقب رجل الاستخبارات الذي كان يراقبه.
يثبت الكاميرا على الحامل ذو الأرجل الثلاث ويبدأ بتشغيل جهاز التصوير والاستماع إلى دقة الصوت، وفي نفس الوقت يسمع ضجيج الأصوات من جميع الجوانب، يمشي ببطء مع الكاميرا وهو يصور هدفه (صدام)، الذي كان يرتدي سترة داكنة ويجلس بغطرسة امام طاولة خشبية داكنة مصقولة ويحدق بمن حوله ويزم فمه ويغمز للحماية بعين واحدة متجعدة، وقد كان ابو يحيى حريصًا على التحدث اليه بخفوت كلما اقترب منه اثناء التصوير كما وصلته الأوامر من حرس الحماية.
وفي لحظة خاطفة يطلق أربعة رصاصات على رأس صدام ويفجر القنبلة على الاخرين، بينما الكاميرا المثبتة على الحامل تصور كل شيء وهي تبث مباشرة على الهواء.
الخلود لرفيقي الشجاع الشهيد الفنان أبو يحيى