كان يوما باردا، والريح تعبث بكل شيء في طريق رحلتي فجر يوم 1/ 1/ 1979 من بيتنا في بغداد إلى بيروت عاصمة لبنان الشقيق. حينها لم أكن أعلم أنها رحلة الابتعاد عن وطن الأهل والأجداد إلى غير رجعة. رحلة إلى عالم أخر، عالم الغربة الصعب. لكني لا أنكر أني تنفست الأحساس بالحرية وتخلصت من كل شيء كان يؤرقني ليلا نهارا وهو الخوف من جلاوزة النظام، فان مسكوا بي لن أرى النور مجددا.

وصلت الى بيروت، وكنت على يقين تام، انّ عودتي الى بيتي وأهلي قريبة وقريبة جدا، وانها لن تطول، لكن ما تلاها من أحداث وسنوات، أصبحت متيقنة أن حياتي قد تغيرت وألى ألابد وربما لن أعود يوما ما الى داري.

في بيروت، وبعد فترة وجيزة، بدأت الاستعدادات لتهيئة العديد من الرفيقات والرفاق للعودة الى أرض الوطن، لكن ليس بالطريق المعتاد وإنما التسلل عبر المناطق المحرمة والجبال شديدة الوعورة وعبر دول مثل لبنان وسوريا وتركيا وايران. كنت سعيدة وسعيدة جدا لموافقة الرفاق على قبولي كنصيرة  بين الرفاق والمساهمة بالعمل النضالي في كردستان العراق من اجل دحر النظام البائد وتحرير العراق منه والعيش بحرية وسلام، ومن أجل تحقيق شعارنا (وطن حر وشعب سعيد).

والآن، وبعد ان مضى ما يقرب من 45 عام على تلك الرحلة بكل تفاصيلها الحلوة والمرة، فإنها مرت ولم تحقق لنا ما أردناه ونتمناه لا لشعبنا ولا لأنفسنا، لكننا وبالرغم من ذلك الوجع، علينا ان نبقى إيجابيين، لانّ التغيير حتما سيحصل ولو بعد حين.

اخيرا تحققت غاية الكثير من الرفيقات في العودة والنضال جنبا الى جنب مع الرفاق الانصار. كنت من ضمن المجموعة الاولى من الرفيقات اللواتي تم اختيارهن للتوجه الى جبال كردستان العراق، وهذا ما ضاعف من سعادتي ومنحني طاقة كبيرة.

في منتصف شهر حزيران بدأت خطوتنا الاولى من بيروت الى دمشق، وبعد اقامة قصيرة فيها توجهنا الى حلب ثم الى القامشلي ومنها الى حدود تركيا، وكانت هذه هي خطوتنا الثانية. اما الخطوة الثالثة والاصعب والاشق، فكان علينا المسير ليلا باراضي جبلية غاية في الوعورة، وعلينا التخفي  لنتجنب نيران الجيش والجندرمة المنتشرة على قمم الجبال المطلة على طريقنا في كل من تركيا وايران والعراق وسوريا. كنّا نتحرك اثناء الظلام ونختفي بين الصخور والاشجار في النهار.

مسيرتنا الليلية الطويلة كانت بحماية جيدة من قبل رفاق الطريق الشجعان وادلاء من نفس المنطقة لهم خبرة ومعرفة في جميع مسالك الطرق تقريبا. بعد مسير استمر لعدة ايام وليالي وصلنا الى موقع تجمع واستراحة لمجاميع اخرى من الرفاق الذين سبقونا. هذا الموقع كان عبارة عن كهف في جبال شاهقة العلو وكانت تدعى ((شكفتة ابو حربي)) الذكر الطيب له.

بعد مرور عدة أيام مكثنا خلالها في هذه الشكفتة، بدأنا بالمسير من جديد وبنفس الطريقة، نتحرك اثناء الظلام ونستريح مختبئين في النهار.  كانت احدى استراحاتنا داخل زريبة لقطيع الغنم، وهو مكان مظلم جدا وممتلئ بفضلات الحيوانات، كان ذلك صعبا ومقرفا، لكننا من شدة الإرهاق نمنا وكأنما نمنا على فراش وثير.

واصلنا المسير وتحملنا الجوع والعطش والخوف والقلق حتى وصلنا الى اول موقع لرفاقنا (يك مالة)، وذلك في منتصف شهر أب  من عام 1980، جلسنا للاستراحة والاكل  ثم توجهنا الى الموقع الاخر (كلي كوماته) حيث سيكون مركز استقرارنا ولقاءاتنا ونقطة الانطلاق منه إلى مواقع قتالية أخرى في عمق الوطن.

في ربيع 1981 توجهت أول مفرزة قتالية مشتركة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الى منطقة الدشت بقيادة المناضل الباسل توما توماس الذكر الطيب له، ونفذنا عملية مشتركة ناجحة. ونتيجة لما قامت به النصيرات من قتال واستطلاع وتحمل وصبر تمت الموافقة على مشاركتهن بمختلف المفارز القتالية. مفرزتنا كانت في الدشت بقيادة النصير ابو سربست والنصير ابو رؤوف طيب الله ثراه. امضيت في مفرزة الدشت حوالي السنتين مع النصيرات دروك وام عصام وام امجد، بعدها انتقلت الى سوران (بشتاشان)، وفي الطريق الى بشتاشان الذي استغرق عدة ايام مررنا بمقراتنا (هيركي، وروست). في موقع بشتاشان كانت لنا مساهمات كثيرة مع الأنصار جميعا، وفي ربيع 1983 بدأت معارك بشتاشان الأولى.

كنت في طاقم المدفعية المتقدم قليلا من موقع الفصيل. المعارك كانت شديدة ومباغتة وغير متوقعة، مما ادى الى انسحاب أغلب قطعاتنا المقاتلة. بقينا نقاتل حتى 4 ايار، ثم جاءنا امر بالانسحاب باتجاه القمم العالية من جبل قنديل الحدودية مع ايران. في طريق انسحابنا التقينا بالمجاميع الأخرى من أنصارنا المقاتلين وأصبح عددنا ما يقارب ال 150 نصيرة ونصير، وبعد يومين من الانسحاب وقعنا في كمين مسلح على حين غرة، ففقدنا عددا كبيرا من الرفاق، منهم من استشهد ومنهم من وقع في الأسر. وحين بزغ الفجر بعد قتال شرس بيننا وبين (اوك) وجدنا ان عدد الناجين من الكمين وانا ضمنهم  لايتجاوز 33 نصيرا.

 

بدأنا بالانسحاب الى اعالي القمم ولم يكن احد منا يعرف الى اين ننسحب وبأي اتجاه، نسير  في النهارات ونستريح في الليالي. جبل قنديل كان شديد الوعورة وتغطيه الثلوج الحولية دائما. لم نأكل شيئا طوال ايام سوى اكل الثلج المتوفر بكثرة. وبعد معاناة يعجز الإنسان عن وصفها ولكننا تجاوزناها لأيماننا بقضيتنا العادلة ووصلنا إلى الجانب الأكثر أمانا في سفح قنديل المطل على إيران. هناك التقينا بكل الأنصار الذين وصلوا من قبل وبدأنا بنصب الخيم في السفح في منطقة (خانة أو خانكة) على ما اعتقد. امتدت اقامتنا هناك حتى شهر أيلول، وحينها بدأت فصائلنا للانتقال من جديد الى داخل الاراضي العراقية لبدء تشكيل قواعد ثابتة هناك في منطقة لولان لمواصلة الكفاح المسلح.

امضيت فترة في لولان ثم انتقلت للعمل من جديد في قاطع بهدينان. هكذا كانت المسيرة شاقة وموجعة، لكنها اكسبتني شخصيتي واكسبتني علاقات وثيقة وصادقة ولا زلت احتفظ بهذه العلاقات حتى يومنا هذا.