ـ ألو… ابو يسار، يؤسفني ان اخبرك ان الرفيق ابو سيروان توفى قبل قليل بنوبة قلبية حادة، ونحن الان في مستشفى ابن النفيس..!!.
- مسافة الطريق وساكون عندكم...
هكذا تلقيت خبر وفاته المفاجيء والمفجع عبر التلفون يوم كنت في زيارة قصيرة الى دمشق نهاية عام 1995.
لم اصدق وانا اتطلع الى سكون وجهه وهو في غفوته الابدية واتحسس دفء جسده المسجى امامي على الطاولة في مستشفى ابن النفيس في دمشق عند سفح قاسيون، لم أصدق بانه سيغيب عنا؟!. وكيف لي ان اصدق ونحن كنا نتحدث سوية قبل أقل من ساعتين في مقر الحزب وأنا اودعه مصافحا ومعانقا ومهنئا، كونه سيغادر غدا الى السويد للقاء بعائلته التي افترق عنها قبل 4 سنوات؟.
كيف لي ان اصدق وماتزال الصورة الاخيرة له في ذاكرتي تشع بالطيبة والفرح وفيض بلا حدود من براءة الطفولة وصدقها مؤطرة بابتسامة ملازمة لملامحه ميزته بين اقرانه ورفاقه منذ نشأته الاولى في مدينة شقلاوه، وتركت اثرها في قلوب وذاكرة كل من عرفه وإلتقاه.
ووسط الذهول الذي كنت فيه والسكون الموحش الذي ملأ الغرفة عادت بي الذاكرة الى بدايات تعارفي به، الى خريف عام 1985 وخيمة المؤتمر الوطني الرابع في وادي ((خواكورك)) في جبال كردستان، حيث جُدد انتخابه عضوا للجنة المركزية بعد ان كان قد انتخب اول مرة فيها في خيمة المؤتمر الثالث في بغداد عام 1976.
عدت الى اجتماع اللجنة المركزية عام 1986 في احضان جبال ((خواكورك))، الذي عمق من تعارفنا ببعضنا وسمح لي ان اتعرف على سجايا ابو سيروان النضالية والانسانية الاصيلة. وتذكرت اهتمامه الخاص بنا، نحن الرفاق الجدد على العمل القيادي.
مر امامي شريط طويل عن لقاءاتنا وحواراتنا في اربيل وشقلاوة والاجتماعات والمؤتمرات التي التقينا فيها في سنوات لاحقة لتعارفنا، خصوصا بعد انتفاضة آذار 1991 وانسحاب الادارات الحكومية من اقليم كردستان واجواء الحريات العامة التي بدأت تعيشها المدن الكردستانية، شريط سجل مسيرته النضالية المشرقة التي بدأت منذ اوائل الخمسينيات حين كان ناشطا طلابيا في المدرسة المتوسطة في شقلاوة وتعرضه للاعتقال والمضايقات، ثم شده الرحال والتوجه للعمل في بغداد بعد صدور امر إلقاء القبض عليه.
في بغداد واصل نشاطه السياسي بين صفوف العمال وصار واحدا منهم .
بعد ثورة تموز كرس ابو سيروان جل نشاطه وامكاناته للدفاع عن الثورة وصيانة الجمهورية الفتية، لكن ذلك، وياللمفارقة المرة، لم يَحمِه من الاعتقال عامي 1961 / 1962 وطرده من وظيفته .
صبيحة يوم 8 شباط المشؤوم كان ابو سيروان يقف امام وزارة الدفاع مع الاف المواطنين، وهم يطالبون الزعيم بالسلاح لحماية الجمهورية. وفي مقالة كتبها عن تلك الساعات الحاسمة من تاريخ العراق، يصف ابو سيروان طريقَه في الوصول الى وزارة الدفاع من شارع الكفاح، ومجيء قاسم بسيارته ودخوله الى مبنى الوزارة باسما محييا الجماهير ومطمئنا لها، ويتحدث عن مطالبة هذه الجماهير له لتزويدها بالسلاح، المطالبة التي ذهبت ادراج الرياح، وخلقت حالة من الانزعاج والتململ بين صفوف المحتشدين، الذين كانوا هدفا لقصف طائرات الانقلابيين. ويورد تعليقات ذات مغزى عميق عبر فيها بعضهم عن خيبة امله: الاول ؛ (لا اظن ان الزعيم سيعطينا السلاح لافشال المؤامرة)، الثاني ؛ ( يمعود ماكو فايده حتى لو قضينا على المؤامرة، بعدين يعاقبنا قاسم كما فعل في الموصل).
اصدر الانقلابيون حكما غيابا بحق ابو سيروان، الذي كان قبل ذلك قد تمكن من الاختفاء والتسلل للالتحاق بصفوف بيشمرگة الحزب الشيوعي العراقي.
في السبعينيات عمل في بغداد و تسلم مسؤولية المنطقة الوسطى في تنظيمات الحزب. عاد بعد الهجمة عام 1978 والتحق بحركة الانصار، مسؤولا عن قاطع اربيل، وكان وافراد عائلته من ضمن الرفاق الذين تعرضوا للضربة الكيمياوية صيف 1987.
ـ ابو يسار استلمنا شهادة الوفاة، والمطلوب الان ترتيب ارسال الجثمان الى القامشلي، والاتصال بالرفاق في شقلاوة ليرتبوا امر نقله عبر نهر دجلة الى هناك.
بعد اسبوعين حين عدت الى شقلاوة، حيث كنا نقيم حينها، ذهبت الى مقبرة المدينة وزرت الفقيد ابو سيروان وهو راقد في ضريحه هناك عند سفح جبل سفين.