أحياناً كثيرة يغفلُ المرء، عن قدرات عظيمة يمتلكها، لكنها تظهر في المواقف الصعبة، وما أكثر تلك المواقف التي مر بها الأنصار، خلال فترة تواجدهم  في  جبال كردستان...   

في الأيام الأخيرة من صيف عام 1982، حيث كان فصل الخريف يطرق على الباب، كانت المفرزة الأنصارية تجوب في المنطقة الواقعة بين قرية سينا وگلي كورتك... وكان الوقت  يقترب من الظهيرة، الشمسُ ساطعةٌ، تغسلُ بأشعتها وتكشف المنطقة بكل تفاصيلها. سمعنا صوت إطلاق نار كثيف من صوب گلي كورتك والذي هو ممر ضيق إعتاد الأنصار العبور منه  الى منطقة الده شت، كان صوت الرصاص سبباً بتوجه المفرزة الى الگلي، حيث تبين لاحقاً، وقوع  رفاقنا الأنصار في كمين نفذه عملاء السلطة في المنطقة، أصيب على أثرها أحد الأنصار (النصير هشام)، بجروح بليغة في قدميه، وإستطاع النصير الأخر (أبو خدر) النجاة من الكمين وسحب رفيقه الجريح الى إحدى زوايا تلك الفجوة الجبلية التي كان العملاء يستهدفونها، بعد أن تبين الوضع، كان لزاماً إخلاء النصير الجريح، والذهاب به الى المقر الخلفي، وكان آنذاك مقر كوماتا الأول، وعلينا السير لأربعة  أوخمسة أيام.

كلفت مجموعة من الأنصار بهذه المهمة وكانت مكونة من خمسة رفاق على ما أذكر* ، وبدأ المسير وحمل الرفيق الجريح على ظهر بغل أستعير من القرويين. بعد مسير لعدة ساعات، وصلنا الى گلي رمان، الذي كان الوصول اليه أمنية الأنصار في الأيام العادية، حيث يعد مكاناً آمناً نسبياً، ومناسباً للإستراحة، رغم أنه لا مكان آمن في تلك الفترة ..

بعد الوصول الى گلي رمان، لم تكن هناك شمسٌ تضيئ، فقد غربت ودخلنا في مساء مظلم، وكان لزاماً علينا الحذر، وتجنب الطرق المألوفة، فدخلنا في قلب الوادي، وفي طريق فرعية، لكنها على مايبدو متروكة، فالأشجار كثيفة، وكذلك الأشواك التي إنتشرت بكثافة، ولم تبخل علينا بقساوتها ..

وهنا بدأ عذاب جديد، فالرفيق الجريح كان بطبيعة الحال يعاني من شدة آلام الجروح، أخذ يصرخ من الألم الإضافي الناتج من ملامسة قدميه لأغصان الأشجار الكثيفة القاسية، وفي ذات الوقت، كان علينا فتح الطريق أمام البغل ليمر دون أن تلامس الأشواك الرفيق الجريح، فما كان أمامنا في أحيان كثيرة، الا إعطاء ظهورنا الى الأشواك، وإزاحتها، ونحن نحس بالوجع الرهيب حين تنغرز في إجسادنا التي أنهكها المسير والخوف على حياة الرفيق الجريح ..

إستمر المسير وسط هذه الأشواك الكثيفة، ولم تبخل علينا أشجار التوت البري بأشواكها أيضاً، وكان كذلك يقلقنا التوجس والخوف من الوقوع في أفخاخ الصيادين التي ينصبونها للحيوانات في ذاك الوادي. إستمر  هذا الوضع الصعب الى حين إنتهينا من عبور الوادي، وبقي أمامنا أن نتوجه الى قرية ديزى، وهي قرية يمتاز أهلها بالطيبة والكرم، وصلنا القرية وتنفسنا الصعداء، ولكن الوضع لايخلو من الخطورة على كل حال، ويجب الوصول الى كوماتا  الأول بأسرع وقت ممكن، ولكن في حال أن يكون هناك جريح يزيد من صعوبة الحركة بسرعة..

في صباح اليوم التالي، إستمر المسير نحو قرية بينارينكى، حيث بعد تجاوزها تكون المنطقة آمنة نسبياً. بعد أن أسترحنا تلك الليلة في القرية، توجهنا الى إحدى القرى للأسف لاأتذكر إسمها، وهناك أفرز لنا أهل القرية كوخاً، وقاموا بضيافتنا، ولكن الكوخ الذي وضعنا فيه الرفيق الجريح، كان قريبا الى بركة ماء كبيرة نسبياً، والمفارقة أن هذه القرية كانت منتجعاً للبراغيث، حيث هاجمتنا بشراسة أين منها شراسة الكلاب المسعورة.. وفي عز النهار أيضاً... وهنا سمعنا صيحات النجدة من الرفيق الجريح، وهو يشير الى قدمة وساقه التي تكاثف عليها البرغوث، مما إضطرنا الى إنزاله في بركة المياه القريبة من الكوخ، لتخليصه من البراغيث التي لم تكن أقل  قسوةً من أشواك گلي رمان! .

• هامش

كان رفاق المفرزة على مأذكر النصير ابوكاظم، النصير أبو براء (طبيب المفرزة)، النصير أبو ناصر، النصير أبو صارم،  النصير سهيل (لست متأكداً)، والنصير أبو طالب.