بعد ستة أعوام قضيتها في العاصمة السوفيتية موسكو (1975- 1981)، أصدر الحزب الشيوعي العراقي قراراً ملزماً لخريجي المعاهد والجامعات في الإتحاد السوفييتي للإلتحاق بحركة الأنصار الشيوعيين، التي كانت قد بدأت بالتشكّل وتستقبل الملتحقين بها من داخل العراق وخارجه، وتقوم بتجميع القوى المناهضة للنظام في بغداد.

حصلتُ على وثائق التخرج (ماجستير في هندسة تكنولوجيا الطباعة ودبلوم عال في الفلسفة)، واقتنيتُ تذكرة السفر إلى دمشق وحزمتُ حقيبتي وودعتُ صديقتي الروسية وأصدقائي الكُثر. فقد كنت على عجالة من أمري، تواقاً ومتلهفاً للدخول إلى الوطن، وإن بطريقة مغايرة، ليست كما غادرتُه، في أيلول 1975 عبر مطار بغداد الدولي.

في 22 أيلول 1981 تركتُ موسكو إلى دمشق، وبعد شهر واحد قضيتُه فيها، حان موعد السفر إلى القامشلي. استقللتُ الحافلة المتوجهة إلى المدينة الحدودية الواقعة في جهة الشمال الشرقي من سوريا وتتبع إدارياً لمحافظة الحسكة. وفيها انتظرتُ، مع رفاق آخرين، 27 يوماً ليطلع القمر وينير ضوءه دربنا، المحفوف بالمخاطر. وبطلوعه مُنحنا الأمل، في أن وقت الدخول الى بوابة الوطن، قد حان.

في القامشلي، سكنتُ مع عدد من الرفاق في بيت سري. تقاسمنا الرغيف والخفارات، وتناوبنا على الحراسات الليلية، وقمنا بتهيئة أنفسنا لمواجهة الصعاب، بالتّدرب على حمل الأثقال على ظهورنا، التي ألفت الراحة ايام الدراسة واعترى أجسادنا الخمول.

وعندما حانت ساعة الانطلاق الى الوطن، نقلتنا السيارات من القامشلي إلى منطقة مفتوحة باتجاه الحدود العراقية، كان القمرُ بدراً. وهناك ارتدينا الملابس الكردية، وتم تزويدنا ببندقية وبريد وأدوية وزمزمية ومصابيح يدوية وماء ورغيف خبز. ثم سرنا الواحد خلف الآخر باتجاه النقطة الحدودية للعبور الى العراق.

عند اقترابنا من محطة العبور، سمعنا هدير النهر وتلاطم الأمواج ببعضها، وهي تصطدم بالحجارة. كان نهر دجلة (50 كيلومترا)، الذي ينبع من جبال طوروس بتركيا ويعبر الأراضي السورية إلى الأراضي العراقية، هائجاً.

عبرنا نهر دجلة إلى الضفة الآخرى بمشقة كبيرة، ساعدنا الأدلاء وإطارات سيارات وحبال سميكة. وهناك قمنا بترتيب ملابسنا، وشّددنا (البشدّين: عبارة عن قطعة قماش طولها بضعة أمتار. وهو جزء لا يتجزأ من الشروال الكردي ويستخدم بمثابة حزام يتم لفه على منطقة الخصر) وتفقدنا محتويات حقيبة الظهر الثقيلة، وبنادقنا، مخافة أن تكون قد تبللت أو طالتها أمواج النهر العاتية. وتم تبليغنا بعدم إشعال السكائر أو استعمال المصابيح اليدوية.

سرنا خلف الأدلاء إلى أن وصلنا إلى الطريق الدولي، الذي يربط تركيا والعراق، وتسير فيه المركبات وشاحنات النقل البري مسرعة، وتجوب فيه دوريات شرطة الحدود والجندرمة التركية (قوات الدرك). والطريق عبارة عن شريط حدودي بين البلدين يبلغ طوله 367 كيلومتراً ويمتد من النقطة الثلاثية مع سوريا في الغرب إلى النقطة الثلاثية مع إيران في الشرق، عند التقاء نهر دجلة ونهر الخابور الصغير.

اجتزنا الشارع العريض بسرعة، وسرنا على أرض متعرجة، تؤدي إلى تل مرتفع يطل على الطريق الدولي، تربض فوق قمته ربيئة عسكرية للجيش العراقي. كان علينا العبور إلى الطرف الثاني من التل وتجاوز الربيئة، والسير من تحتها بهدوء وحذر، مخافة أن يتعثّر أحدنا بحجارة فيحدث صوتا يسمعه الجنود، وتتعرض حياتنا للخطر، خاصة ونحن في مرمى الجنود المباشر وتحت رحمتهم.

عندما تسلقنا التلة، كان الوقت مساء وضوء القمر يفرش الأرض. سمعنا صوت الجنود، وهم يتحدثون معا ويتسامرون فيما بينهم ويستمعون إلى إذاعة عراقية ويتهيأون لوجبة العشاء.

بعد ساعتين من عبور مفرزتنا الطريق الدولي وتجاوز الربيئة العسكرية، اصطدمنا بعدد من قوات الجندرمة التركية، التي أطلقت علينا النار وطاردتنا إلى أن دخلنا منطقة سلوبي (جنوب شرقي تركيا على الحدود العراقية السورية). وواصلنا طريقنا لساعات طويلة نطبق الليل بالنهار. وبعد أن قطعنا مسافات كبيرة وأصابنا الأعياء، قرر آمر المفرزة أن نخلد إلى قسط من الراحة.

في الطريق كان أدلاء المفرزة، قد حصلوا على معزة، ذبحوها وسلخوها وأشعلوا النيران لشوي اللحم. افترشنا الأرض، وبينما كنا ننتظر الشواء بفارغ الصبر، وتناول طعام يسد رمقنا، بعد تعب وإرهاق وخوف وجوع، وصلتنا معلومات عاجلة عن نية الجندرمة التركية بالهجوم علينا، فتركنا النيران مشتعلة ونحن نعّجل الخطى ونجرّ أقدامنا. كانت معنا امرأة كردية، قيل إنها مطلوبة للسلطات التركية ومحكومة بالإعدام.

وعلى مدار عدة أيام واصلنا السير، أغلبه في جنح الليل، تصل ساعاته أحيانا الى 16 ساعة. وفي النهار نلتجئ إلى كهوف تشبه أديرة مهجورة. وبعد عشرة أيام، التقينا بمفرزة القائد الأنصاري توما توماس (أبو جوزيف) وأعضاء في قيادة الحزب (أبو فاروق وأبو يوسف) وآخرين، قادمة من مقر كوماته في طريقها إلى دمشق للمشاركة في اجتماع اللجنة المركزية للحزب.

وبينما كنا معهم نتبادل التحايا، وصلت معلومات عن انتشار الجندرمة في المنطقة، وقامت بالسيطرة على الطريق الذي جئنا منه، والمؤدي إلى القامشلي. فقررت مفرزة "أبو جوزيف" العودة أدراجها إلى مقر كَوماته في منطقة بهدينان، والذي كان يبعد مسافة ثلاثة أيام مشياً، من الموقع الذي كنّا فيه.

سرنا باتجاه مقر (كوماته)، وقبل أن نصل إلى المقر، عبرنا قرية (يك ماله- بيت واحد). وبذلك تكون مسيرتنا من القامشلي إلى مقر (كوماته)، الذي يفصله عن الحدود التركية نهر صغير، قد استغرقت 13 يوما.

بعدها بأيام تحركتُ مع مفرزة صغيرة باتجاه مقر (هيركي) ومشينا أكثر من يومين في ظروف مناخية صعبة وقاسية، حيث فصل الشتاء القارس البرودة والثلوج الكثيفة والعواصف الثلجية.

بعد أيام تركنا مقر (هيركي) باتجاه مقر (روست) وسرنا ساعات طويلة. في الطريق بدأ الثلج يتساقط بكثافة، وأصبحت حركتنا صعبة وانعدمت الرؤية، وأضحت حياتنا في كف عفريت. فقرر آمر المفرزة، أن نقضي ليلة في بيوت القرية القادمة. فقد كان الوصول إلى مقر (روست) يتطلب مشياً متواصلاً لأكثر من يومين.

في طريقنا إلى القرية الصغيرة النائية في خاصرة الجبل، والمتكونة من ثلاثة بيوت طينية، وجدنا مقابر رأسية مبعثرة دون اعتناء، مكتظة بالأحراش، يفترشها الصقيع وحدود من الثلج لا ينتهي وبياض لا تخالطه مسحة من الألوان. داهمنا الليل وحل الظلام وبقي المتاح من الرؤية قليلاً. ولم تعد حركتنا في الثلج كما كانت قبل ساعات.

وصلنا إلى القرية، وبعد أن حّل أعضاء المفرزة ضيوفاً في بيتين من بيوت القرية، بقيت أنا دون مأوى. فطرق آمر المفرزة باب البيت الثالث طالباً من صاحبه أن يأويني لليلة واحدة، إلا أنه رفض وأراد أن يوصد الباب بوجهينا، لكننا حاولنا إقناعه، فلم يكن قد بقي لدينا خيار آخر، بعد أن بدأت العاصفة الثلجية تشتد.

وأخيراً ولجتُ إلى داخل البيت، ودلّني صاحبه إلى غرفة صغيرة مظلمة، وهو يحمل فانوساً ضوءه يحتضر. قلت له بالكردية: هل تعرف إنها ليلة رأس السنة 1981/ 1982؟ أجاب: لا إنها ليست ليلة رأس السنة لأن نوروز (رأس السنة الكردية) يأتي في الربيع وليس في موسم الشتاء، وذهب مع فانوسه وتركني وحيداً في العتمة. كنتُ مرهقاً وجائعاً وملابسي مبللة وارتعدُ من البرد.

بعد قليل جاءني برغيف من الخبز وبعض الجبن المحلي وطاسة ماء، وذهب لينام. كانت ملابسي مبللة وأنا أبحثُ عن شيء يجعلني يقظاً إلى منتصف الليل، حيث تتحول عقارب الساعة إلى سنة جديدة. فقد تعودتُ على حفلات رأس السنة الصاخبة قي موسكو، المليئة بالرقص والغناء، وأصناف من الأكل والشرب والفتيات الجميلات.

بقيتُ متمدداً في العتمة. تمنيتُ أن تكون عندي شمعة تضيء ليلتي، ومذياعاً يشغلني وينقل لي احتفالات شعوب العالم في مثل هذه الليلة. لفنّي سكون مطبق وظلام دامس، لم أقدر على التخلص منهما. وبدأ هواء بارد يتسلل من إطار نافذة الغرفة. بقيتُ في الصمت وحدي أرنو للنافذة الصغيرة. وجدتُ نفسي قابعاً في لجّة الحلم إلى دفء الوطن وأنا في مكان لا أمان فيه ولا أريج شراب وفي خلاء بلا حدود.

تذكرتُ حكايات ألف ليلة وليلة، ووالدتي عندما كانت تقصّ علينا الحكايات في ليالي الشتاء الباردة، ونحن صغار ونخاف من الظلام. جلستُ القرفصاء ولفني البرد، وذهبتُ بمخيلتي بعيداً الى سنواتي الماضية في موسكو، حيث طقوس الاحتفالات برأس السنة ومواعيدها ثابتة لا تتغير.

تركتني الظلمة مثل ذبيحة مقطعة الأوصال، وساعة محطمة، كعائدٍ لم يلق له المفتاح. كنتُ ضيفاً غير مرحبٍ به في تلك الليلة الشتوية الحالكة السواد، بلا قنديل زيت، كالذي انطفأ منذ زمن بعيد. شعرتُ بالبرد في ليلة بلا قمر ولا نجوم، وفي غرفة طينية بقرية منعزلة، فقيرة وبسيطة من قرى كردستان. حاولتُ أن أسد عينّي في جنح الظلام. لكنْ من فرط التعب والبرد والجوع لم تغمض جفوني

قبل انبلاج فجر اليوم الأول من السنة الجديدة تركنا القرية وانطلقنا لنعبر نهر الزاب الأسفل، الذي ينبع من الجبال الإيرانية القريبة من الحدود العراقية- الأيرانية في محافظة السليمانية ويدخل إلى الأراضي العراقية، واجتزنا الربايا العسكرية، وولجنا في الأراضي التركية. وبعد مسيرة يومين صعدنا جبل حصاروست، المطل على قرية (كَوندا زور) بمحافظة أربيل، ونزلنا من الطرف الثاني إلى مقر (روست).

بعد أيام تركنا مقر(روست) ومشينا يوماً كاملا لنصل إلى قرية بشتئاشان (خلف الطواحين) وهي قرية صغيرة تابعة إلى محافظة أربيل وتقع على سفح جبل قنديل، ومنها مشينا يوماً آخر وعبرنا نهر (مارديو)، لنصل إلى ناوزنك، وهي القرية الحدودية التابعة إلى محافظة السليمانية على الحدود العراقية الإيرانية.

في موسم تساقط الثلوج تهاجر الطيور وتذهب الحيوانات إلى سباتها الشتوي. بينما نحن، في طريقنا الطويل عبر القرى الجبلية، كنا نرى أشباح جبال سامقة وبطون وديان سحيقة وتكوينات حجرية غريبة، وقد أسكن الجليد ينابيع المياه، فنقوم بإذابة الثلج لنشرب الماء. كانت الأشجار بحفيف أوراقها الهزيلة أشبه بألغاز ترهبنا. فلم تعد دروب الجبال مكتظة بالأشجار، بعد أن أُحرقت غالبيتها أو قتلتها عوامل الطبيعة القاسية.