اسمع صوتا قريبا الى اذني، (رفيق اكعد، تريد تشوف اخوك لو لا؟). شعرت بشيءً ما يهز كتفي، قمت ورجلاي ممددتان، فشاهدت امامي اخي ابو رضية، وبدون ان انطق بكلمة تعانقنا بلهفة كبيرة صعب وصفها. وبالطبع بعد ثلاث الى أربع سنوات، قد تغيرت ملامحي، كبرت وصارت لي شوارب. لدينا الكثير مانتحدث عنه، بدأ يسال عن الاهل والاقارب والاصدقاء ومن بقي على قيد الحياة، وهناك اسئلة غير مألوفة نضحك بعفوية عليها. واصلنا الحديث بكثير من التفاصيل لعدة ساعات، لقد كانت لدي العديد من الاسئلة، فقلت لنفسي (اجلها لوقت اخر). غادر اخي فصيل الحراسة (فصيل السجن)، فعدت بعد هذا اللقاء الحميم وواصلت النوم.

جاءني أحد الرفاق وأبلغني، رفيق ابو زاهدة غدا تذهب الى فصيل الادارة وموقعه في الاسفل، وسوف يكون معك أحد الرفاق، لكن قبل ذلك تذهب الى رفيق (أ) تلتقي به لفترة خمسة الى عشرة دقائق لديه بعض الاسئلة واعطاء بعض المعلومات.

(جسمي تعرق وأصبح لزج ممسكا برسالة يطلبون مني ان اذهب الى منطقة السراديب كذلك اكون عندهم لفترة عشرة دقائق . كيف اذهب الى منطقة السراديب وانا لا اعرف شيئا عنها وانا ليست لديً تجربة وخبرة في السراديب قط. لقد سمعت من الناس ان السراديب منطقة مخيفة ومظلمة، قلت لابد ان اسال صديق لي في المنطقة التي اعيش فيها، التقيت به وسألته انهم يريدون مني ان اذهب الى السراديب، فقال مثل ماتريد، تكدر تروح وتجرب. ذهبت الى هناك، دخلت الى غرفة صغيرة يوجد فيها شخصان، سالت أحدهما، تريدون مني ان اذهب الى السراديب؟. وبابتسامة خبيثة وعيون قاسية راح يوشوش مع صديقه وطرف عينيه باتجاهي، اظن انه كان يقول، هذا غبي وساذج او انه مجنون والاّ كيف ياتي بنفسه الى منطقة السراديب).

صباح الخير رفيق، اجبت صباح الخير، ثم قال لي: مر على الرفيق (فلان). قبل الذهاب لفصيل الادارة ذهبت الى غرفة صغيرة تبعد ثلاث الى أربع دقائق عن فصيل الحراسة صعودا، طرقت الباب ودخلت. مرحبا انا ابو زاهدة جماعة فصيل الحراسة ارسلوني اليك، رد علي بلطف تفضل اجلس هنا. كان نحيف الجسم قصير القامة شعره ابيض مع نظارات طبية يتسم بالوقار جالسا على فراش بسيط اسفنج مغطى ببطانية وبجانبه عدد من الكتب. سمعت لديك اخ هنا، لم يذكر الاسم، اجبت بنعم. قال تحدث عن ما تعرف من معلومات لديك. قبل ان ابدا الحديث توقفت برهة، لأتحدث مع الطير الواقف على راسي دون ان ينتبه الرفيق لذلك، طلبت من الطير ان ينتقل الى كتفي لكي اتحدث بحرية عن كل شيء اتذكره. بدأت الحديث كيف تعلمت النطق بحرف الالف... ودار ودور... وكيف حبيت بنت الجيران وكيف احببت الشعر والقصص والمسرح... وعشقي لزاهدة… وذهابي الى السراديب المظلمة... وانتهيت بحرف الياء بوصولي الى هنا. قال لي: رفيق تكدر تروح الان. لم يضف شيئا اخرا. توجهت بعد ذلك الى فصيل الحراسة حيث كان بانتظاري رفيق للذهاب سوية الى فصيل الادارة، واصلنا الطريق لمسافة خمسة الى عشرة دقائق. قال الرفيق الذي معي دعنا نمر بدكان ابو محمود الذي كان بجانب الطريق، اجبت بحركة من رأسي موافق. ابومحمود، متوسط القامة وكرش ظاهر يعمل بنشاط وهمة عالية في غرفة صغيرة مليئة بالبضائع.....

بعد ذلك توجهنا الى فصيل الادارة الذي يبعد مسافة قريبة نزولا، كان الباب قطعة قماش طويلة، عندما دخلنا، وجدنا عدد من الرفاق متجمعين حول (الصوبة) وآخرين نيام. عرفني الرفيق إليهم، هذا الرفيق سيكون معكم في الفصيل. القاعة كبيرة تتسع لأكثر من خمسة عشر فردا تقريبا. على عمود وسط القاعة معلق فانوس، وبتلقائية دعاني الرفيق (ابو إلهام) الذي كاد يحتضن الصوبة الى التقرب اليها، حيث كان الجو باردا في الخارج، وخلال الحديث، عرفت ماهي الواجبات التي سوف اقوم بها من حراسة وقطع حطب وجلب مؤن. وحين ذكرنا اهمية ملأ الصوبة بالحطب، علق الرفيق ابو الهام: (لايحتاج أحد منكم ان يملأ الصوبة انا أستطيع ان اقوم بهذا العمل لأني لاأستطيع النوم في الليل، واضاف: رفيق جيد ان تعرف ان في زاوية القاعة تنام عائلتان من رفاقنا، وأشار بيده الى المكان الذي كان مرتفعا قليلا عن ارضية القاعة).

ابو الهام شخصية منفتحة وتلقائية بالحديث، تحدث قليلا عن وجوده في الخارج، كان راغبا في الاسترسال، لكن رفيقا من النائمين نادى رفيق ابو الهام اريد انام، وبعفوية قال العفو رفيق. أصبح الصمت مطبق تماما. تأملت قليلا، ان ظروفنا ليست متشابهة بالمجيء الى هنا، لكن لدينا احلام وامال مشتركة بان تشرق الشمس على بلادنا وناسنا التي افتقدناها في هذا الوادي (كلي كوماته) تاركين الحياة المدنية ودفء العائلة والأحبة، جسدي ونصف روحي في (كوماته) والنصف الاخر لا تزال في بغداد. 

(صباح الخير زاهدة هذا الكتاب الذي طلبته مني كانت داخل الكتاب رسالة صغيرة انا انتظرك في منطقة الباص البعيدة عن الدائرة بعد الدوام، بعد دقائق جاءت مبتسمة، بدأ القلب يخفق كغير عادته، وقفنا برهة، من اين ابدأ الحديث، بينت لها اعجابي واحترامي الكبير لكي ابعد الخجل الذي بيننا، بادرت بالسؤال اشعر إنك حزينة دائما؟ قالت اخي الذي أكبر مني أعدم قبل فترة، لمت نفسي على السؤال، ولكي اغير الموقف، بادرت بسؤال اخر يمكن ان يدخل الفرح الى قلبها، ما رأيك ان نكون عائلة أنا وياك؟ اجابت، الان الوضع صعب ممكن بعد فترة، سألنا  بعضنا  اين وصلنا!، مشينا ثلاثة مناطق لم نشعر بالتعب، ضحكنا قليلا، بداية الحب تنسينا التعب، لابد ان نرجع بالباص عسى ان نلتقي غدا)*.

رفيق ابو زاهدة جاء دور حراستك. عدلت (البشتين) استلمت القابوريات، (شديتهم) على بطني، استلمت البندقية وكلمة السر المتفق عليها مع الاخرين مع حفظ كلمة (تو كي) التي تعني من انت؟، وهذه ثاني كلمة تعلمتها باللغة الكردية بعد كلمة (جاواني) التي تعني كيف حالك. ليس غريبا ان احمل البندقية لأني خدمت سنة ونصف في الجيش. الجميع نائم عدا الحرس والرفيق ابو الهام الذي لا يزال  يحتضن الصوبة. وقفت خارجا، قريب الى الطريق الذي يأتي منه المهربون. وقوفي لفترة ساعتين تشعرك بمسؤولية كبيرة بالرغم من إني اشعر ان المكان معزول عن العالم. نهضت صباحا مع الرفاق الاخرين عدا الرفيق ابو الهام الذي بقي نائم. الجو كان مشمس، كان الفطور شوربة عدس، وبعد الفطور بدا بعض الرفاق بالأعمال اليومية التي اعتادوا عليها من طبخ وجمع حطب وحراسة، لم يكن معتاد ان يسال الرفاق بعضهم الاخر من اي مكان اتيت او من اي محافظة. كنا ننادي بعضنا البعض باللقب المعرف به. جاء أحد الرفاق من فصيل الحراسة قال رفاق انا ذاهب لصيد السمك في الروبار (النهر) الذي يفصل الحدود بين العراق وتركيا ويبعد بحدود عشرة دقائق نزولا. اثنان من الرفاق قالا نذهب الى قمة الجبل لنتشمس، لابد ان الكثير من الرفاق شعروا بان الشمس سوف لن تأتيهم الى هنا ولابد ان ننتقل الى مكان اخر تكون الشمس قريبة الينا. كنت اشعر بالألفة مع الاخرين. جاء مسؤول فصيل الادارة قال لي: انت ورفيق اخر تذهبا لجلب الارزاق من مكان يبعد ساعة ونصف. فكرت مع نفسي كيف اجلب هذه الارزاق؟!. قدم لنا (عليجتين وهي عبارة عن كيس يحمل على الظهر) سوف تحملان عشرين كيلوغرام، لم اعلق بشيء، ذهبنا ورجعنا بالأرزاق (تمن مع بعض المعلبات) مرورا بفصيل الحراسة وغرفة الرفيق الذي التقى بي لطلب المعلومات.....

(احد الشخصين الذي كان ينظر لي بسخرية قال هسة نوديك يم الحجي يشوفك وين السراديب، نادى احد الاشخاص، وديه يم الحجي. في داخلي رعب. سحبني من يدي، نزل راسك، ارفع رجلك، يوجد درج ونبرة حادة اجلس هنا امام الحجي، رجل متوسط القامة كرشه يكاد يلامس المنضدة التي امامه وبيده مسبحة يتكلم بحدة سوف اريك جميع الاموات التي في السراديب، قلت مع نفسي لابد اني في سراديب النجف التي لم اراها ابدا).

وصلنا فصيل الادارة، مضت فترة شهر الى شهرين، انتقلنا الى مقر اخر فيه الشمس تشرق علينا أكثر...

قصة حب لم تكتمل-*