في احد الايام، من صيف عام 1986، كنا ثلاثة رفاق من سريتنا (قرجوغ)، في ضيافة فلاح كوردي من قرية (يدي قزلر) في سهل أربيل، حيث المألوف ان نتوزع في بيوت الفلاحين عند زيارتنا لهذه القرى في جولاتنا المعتادة، التي غالبا ما تكون بواسطة سيارات التيوتا النصف بيكب البيضاء.
كانت لمضيفنا الشاب، صلة قرابة ونسب مع احد رفاق سريتنا، هو النصير شيرزاد (بولا)، الذي كان معنا في هذه الزيارة، وهو فتى يافع، في عنفوان شبابه وحماسه، ويتمتع بقدرات ذهنية وعسكرية، مكنته أن ينال ثقتنا، فصار قائداً لأحدى فصائل سرية (قرجوغ).
في تلك الليلة، قررنا ان نمكث في قرية (يدي قزلر)، على ان نغادرها فجرا، وفي هذه الساعات، أُتيحت لنا فرصة الاسترخاء قليلاً وسط احاديث عن الزرع، وسبل العيش، وتهديدات السلطة وأخبار الحرب.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بذلك الفلاح صاحب الدار، فقد سبق وأن إلتقيته أثناء زياراتنا كأنصار شيوعيين لقريتهم التي تبدو مقارنة بقرى المنطقة كبيرة، وبيوتها كثيرة ومترامية، وتتنوع مهن سكانها بين الزراعة والرعي والتجارة. كما تتميز بنشاط عدد من فلاحيها في تنظيمات الحزب الشيوعي المحلية والسرية، وكان مضيفنا احدهم، بل أنشطهم وأكثرهم حركة، وخصوصاً في الخدمات الكثيرة الجليلة، التي كان يقدمها لمفارزنا الأنصارية. لقد أغدق علينا من كرمه وضيافته، فأكثر من أقداح الشاي، وزاد في ذلك، حين أحضر علب سجائر سومر، وأصرّ على قبولها، وهي هدية لها طعمها في تلك الظروف، وخاصة للمدخنين من أمثالي. كان الفلاح الشاب يبدي تعاطفاً معنا، خاصة: (نحن القادمين من المدن والمحافظات البعيدة)، فيتحسر ويتألم لمصائرنا وسط الجبال والوديان، بعيداً عن أهالينا، حسب وصفه وتعبيره عن أحاسيسه تلك...
- كاك رياز... أريد أن أقدم لك خدمة إنسانية ويا ليت أن تتقبلها...
فاجأتني كلماته في ذلك المساء، وهو يلفظ الضاد زاء في نطق اسمي في البيشمركه (رياض). كنا نهمّ بالخلود الى النوم، بعد ان فرش لثلاثتنا في نفس الغرفة، خصوصاً وأن أجسادنا قد هدّها التعب بسبب الجولات الطويلة وسط القرى والسهل...
- الشكر لك مقدماً كاك...
قلتها مع بعض الاستغراب، مستفسراً عن تلك الخدمة!!
- أنت تعلم بعملي في التجارة، وكسائق سيارة بين أربيل والمحافظات، وأزاول المهنة منذ زمن، وأعرف الكثير من مدن العراق وطرقها، وقد زرتها كلها تقريباً، فأريد الوصول لأهلك واللقاء بهم، لإخبارهم بسلامتك وصحتك، ولطمأنتهم بعد سنوات طويلة من جهلهم لظروفك وحالتك...
قالها بثقة العارف، وبملامح النيات الصادقة، التي بانت على وجهه، مع الإصرار على تحمله وحده ما يترتب على ذلك، (لا سامح الله).. هكذا ختم جملته الأخيرة، حتى بدا وكأنه يتوسلني قبول مقترحه. قلت: سأفكر بالأمر وأخبرك لاحقاً.
تركنا نحن الثلاثة نخلد الى النوم، وذهب لعائلته في الغرفة المجاورة. شخير رفيقي اللذين غطا في نوم عميق، طاف في كل أرجاء الغرفة، وبقيت ساهراً حتى انبلاج الفجر، أفكر بأهلي الذين لم أرهم منذ ثمان سنوات، وبمدينتي الكوت، وشوارعها، ونهر دجلة والسدة، وهذا العرض السخي والمقلق الذي قدمه صاحب الدار...
غادرنا قرية (يدي قزلر) مبكرا، وتفاصيل حديث صاحبنا الفلاح، (لعبت برأسي شاطي باطي)، كما يقولون. استشرت رفاقي في الأمر، فشجعوني على قبول الفكرة، وخصوصاً انّ الشاب من جماعتنا، ومن الذين يوثق بهم.
لم يمضِ وقت طويل، حتى حللنا ضيوفا في تلك القرية مرة اخرى، وما ان إلتقيت بذلك الشاب الفلاح، حتى بادر يستفسر عن رأيي بفكرته التي عرضها علي في المرة السابقة، فأخذت ورقة وقلم، ورسمت له شوارع منطقة سكنانا (الحاوي) في مدينة الكوت، وحددت له موقع دارنا، في بداية الشارع الفرعي، وقبل الأخير بالنسبة للمتجه من ملعب المدينة الرياضي. طمأنني بكلماته الموثوقة، بأنه سبق وأن زار مدينة الكوت ولأكثر من مرة، وهو يتذكر سوقها ومركزها التجاري، حيث كان ينقل بعض المواد الغذائية ويبيعها هناك.
كنت احتفظ بهوية طلابية قديمة من أيام دراستي في مدينة براغ العاصمة التشيكية، انتزعت منها بعناية وتأني صورتي الفوتوغرافية. كانت غير واضحة، لكنّ ملامحي كانت ظاهرة للذي يعرفني ويتمعن بها جيدا. طلبت منه ان يحتفظ بها بطريقة جيدة، فيمكن أن تفيده وتعينه في اللقاء القادم مع أهلي، وأوصيته بكثير من الحذر.
مرت أيام، وربما شهور، لا أتذكر ذلك، لكنها فترة كادت تنسيني الموضوع، خصوصاً وسط زحمة العمل الانصاري، والمهمات الكبيرة والحذرة والصعبة ونحن نتجول بعلنية وبالسيارات وسط السهول والقرى، وغالباً ما نكون عرضة لطائرات الهليكوبتر ولكمائن المرتزقة.
وحكمت الظروف، أن نزور قرية (يدي قزلر)، وكانت المناسبة، لتقديم التعازي والمواساة باستشهاد نصير شيوعي من أبناء القرية، وكنت برفقة آمر سريتنا رفيقي ابو احلام ورفيقين اخرين من السرية، فإلتقيت بصاحبي الفلاح الشاب في مسجد القرية، وكان يتحدث اليّ بألم وحرقة وشعور بالخيبة....
- وصلت داركم في الكوت دون عناء. أهلك استقبلوني وضيفوني بالشاي والكليجة وبأحسن الكلام، لكنهم أنكروا أن يكون لهم ابنا خارج الوطن او في الجبال، وحين أريتهم الصورة، قالوا لا نعرف شخصاً بهذه الملامح، وهو ما دعاني لمغادرة بيتكم بعد وقت قصير من الزيارة، خصوصاً بعد سماعي لبكاء ونحيب الوالدة وأخواتك في الغرفة المجاورة. أعاد لي الصورة، مع كثير من كلمات الإعتذار والحسرة والألم. لم أستغرب ما حصل، في ظل ظروف تلك الأيام. على كل حال، شكرته على مبادرته التي لا تقدر بثمن..
الذي حدث في بيت اهلي، اثناء زيارة صديقي الفلاح الطيب، ابن قرية (يدي قزلر)، ((وهذا ما علمته بالتفاصيل المملة بعد 9 نيسان 2003 واندحار نظام العصابة، حيث سنحت لي فرصة زيارة اهلي ومدينتي بعد ربع قرن من الزمن، ومنذ تركي الدراسة في الجامعة 1978، ومغادرتي الوطن في 1979، وحتى عودتي في حزيران 2003))، كان كالتالي:
الشمس لازالت في اوج حرارتها، حين اقتربت من دارنا في منطقة (الحاوي)، سيارة تيوتا بيضاء نصف قمارة كما يسمونها. نزل منها شاب بملابس مدنية، لا يبدو عليه ما يثير الشكك والريبة. ضغط زر جرس الباب بحذر وترقب... كان أخي لم يزل يغفو على الاريكة المقابلة لهواء المبردة، وأبي قد نهض للتو بعد قيلولة الظهيرة، وهو في انتظار شاي العصر الذي بدأت أمي في إعداده وتخديره، وقد فاحت منه رائحة الهيل... هرعت أختي لاستبيان الأمر، متطلعة من فتحة أسفل ستارة القماش القصيرة التي تغطي أعلى الباب، مستفسرة عن هوية الطارق......
- هل هذا بيت العم أبو نجم؟؟.. أنا احد أقاربكم من بغداد، وجئت لزيارة الوالد.... فاستقبله أهلي بالترحاب والسلام والشاي والكليجة والكعك. جلس والدي على الأريكة المقابلة لمكان جلوس الضيف، متفرساً في ملامح وجهه، مراقبا كل حركاته، وحتى طريقة نطقه للكلمات والحروف...
قال الضيف:
- انا اسمي (.....)، من أربيل، وبالتحديد من قرية (يدي قزلر)، وأنا رسول من طرف ابنكم، الذي حمّلني السلام والتحيات والاشواق والرغبة في طمأنتكم على صحته وسلامته، وأتمنى أن لا تذهب بكم الظنون لغير هذا الأمر، فأنا صادق في ما اقول، وإذا أردتم التأكد، فهذه صورته التي تثبت كلامي.
قبل أقل من أسبوع، كانوا قد استدعوا أخي نبراس الى مديرية أمن مدينة الكوت. لقد اعتادوا على طلب حضور أحد أفراد العائلة، وبشكل دوري، لمراقبتي وتقصي المعلومات عني، وفي كل عملية استدعاء، تعيش العائلة في حالة انذار، ويكون يومها جحيما، وخصوصاً أن هذه الاستدعاءات، تكون طويلة، ومهينة بأسئلتها واجوبتها، وشتائمها وتهديدها ووعيدها، ويبدو أن العائلة قد اعتقدت متوهمة، أن في الأمر ريبة في تلك الظهيرة الحارة، فربطت ما بين استدعاء أخي لمديرية الأمن، وبين زيارة الضيف الفلاح القادم من أربيل الى دارنا...
اخرج الضيف من جيب سترته صورة صغيرة، كان قد احتفظ بها في محفظة صغيرة، سوية مع صور عائلته وأصدقاءه، وناولها الى والدي، الذي راح يتطلع فيها من دون أن يبدي تعليقا او ينطق حرفا، ثم اقترب أخي، وراح يتطلع في الصورة هو الاخر، بعدها اقتربت أمي واخواتي، وتطلعن في الصورة بعجالة... مرت لحظات قاسية من الصمت والحيرة، ثم ارتفع صوت بكاء ونحيب أمي وأخواتي، ولاذ أبي بالصمت والخشوع، وكأنه قد تيبس وتجمد في مكانه... حسم أخي الموضوع قائلا:
- نحن نعتذر منك يا أخي، فليس لدينا ابنا بهذه المواصفات التي ذكرتها، ولا بهذه الملامح التي في الصورة، ويبدو أنك قد أخطأت العنوان والقصد...
تناول الضيف الشاب الصورة بألم وحرقة، ولم يعلق كثيراً، مستأذنا بالخروج، ومن دون أن يكمل شرب شايه، ولا حتى تناول الكعك، خرج مسرعا خوفاً من تطور الأمر وحدوث ما لا يحمد عقباه، خصوصاً بعد ان تعالى بكاء ونحيب أمي وأخواتي..
بعد انجلاء الغمة وهزيمة الدكتاتور وعصابته في نيسان 2003، كان والدي يتألم كثيرا، وهو يقص عليّ المشاهد الدراماتيكية لأحداث تلك الظهيرة، طالبا مني وبإلحاح أن أزور هذا الفلاح الكوردي والشيوعي الشهم، وادعوه لزيارتهم في الكوت، ليقدموا له الاعتذار، طالبين الصفح والمعذرة عما جرى في ذلك النهار..
المجد والخلود لك ما شرقت شمس وما غربت، رفيقي شيرزاد صابر أحمد ( بولا) ابن قرية (يدي قزلر) ...محبة وسلام وورود للذي خاطر في تلك الظروف بالمهمة الصعبة، صديقنا الشهم الفلاح ابن قرية (يدي قزلر)...