جاء قرار عبور مفرزة الطريق مع مفرزة من بيشمركة الحزب الأشتراكي الكردستاني بعد أنتظار طويل، ولكني من الممكن أن أسرد بعض الذكريات عن بعض الرفاق، وعن المفرزة بشكل عام.
ما اتذكره، اننا كنا في أجازة قبل عبور المفرزة بعشرة أيام، وصادف أن رافقنا في هذه الأجازة الرفيق العزيز الشهيد أبو سحر، حيث كان في زيارة لوالديه المسنين الساكنين في منطقة (السيدة زينب) في دمشق، حيث مكث معهما عدة ايام. هناك التقيت بالشهيد ابو سحر، يومئذ قال لي، أنه يريد العودة معنا ألى القامشلي بأسرع وقت، فقلت له: لماذا هذا الاستعجال، بامكانك ان تبقى مع والديك لايام اخرى، فقال لي أن والدته تلح عليّ بالزواج من فتاة والبقاء معهم في (السيدة زينب) حيث أن والديّ لم يبق لهما معيل غيري، بعد ان استشهد شقيقاي على يد النظام الدكتاتوري.
نعم كان أبو سحر في صراع مع نفسه ومع ضميره الطاهر النقي، حيث وضعته الظروف بين معادلة صعبة كان قطباها أبوين عجوزين لا يملكان غيره، وحزب تربى في أحضانه على قيم جعلت من هذا القادم من مدينة النجف ان يدفع ضريبة ومستحقات الأبوين في بوتقة قضية الشعب والوطن ويعود ألى أحضان مفرزة الطريق هاربا من حنان أمه التي لم تسعفها الدعوات في حضرة (السيدة زينب) لتبقي ولدها وتهديه الى الطريق الصحيح.
وكان ما كان لأبي سحر في ليلة العبور. حدثني بعض رفاقه عنه وعن بطولة هذا الجسد النحيل ومقاومته الباسلة والتي كانت سببا في نجات الكثير من رفاقه في تلك الليلة، حيث رمى الكمين الغادر بقذيفة (أر بي جي7) أدت الى انقلاب من على ظهر الكلك، وتفرق أفراد الكمين مما وفر الفرصة لرفاقه أن ينظموا أنفسهم لمقاومة الكمين والانسحاب بسلام الى موقع آمن. بعد ذلك كان للمفرزة أن تتبين خسائرها نتيجة هذا الكمين الغادر، فظهر أن أبو سحر كان من أول الرفاق الذين أصيب بجرح بليغ على طول الصدر وذلك بعد أطلاقه تلك القذيفة التي غيرت موازين المعركة مع الكمين الغادر.
حدثني رفاق أبو سحر عن تلك الليلة، حيث كان أبو سحر يصارع مع جرحه النازف ويوصي الرفاق أن لا يتركوه. لم يكن خائفا، ولكنه كان يريد أن يوارى الثرى بين رفاقه، وأن يتمكن أن يوصل وصيته لأبويه، ولكن لم يتحقق ماتمناه أبو سحر رغم أنه كان قرارا صعبا على رفاقه ان يتركوه أمانة عند ضفاف النهر في تلك الليلة، أذ أن الحساب العسكري كان له شأن آخر في ترك أبو سحر ومسدس شخصي، فخاطبه النهر:
أو لم أقل لك أن تسمع نصيحة الأم، وتصغي لها. عبثا حاولت أمك ترويض هذا الجسد النحيل الذي تركها أسيرة التفكير، أنه سيلتحق بأخوته على يد النظام، عاتبه النهر وظلت الأم حزينة تدعو له في حضرة (السيدة زينب)، أما أبو سحر فقد تدفقت دموعه وقبّل الأرض وأودع وصيته:
((أماه كنت تريدين تزويجي، ولكن كانت لي حبيبة، أحببتها وقدمت مهرها غاليا، أنها الحبيبة التي أحبها كل الشيوعيين وأولهم الأنصار، ولك في رفاقي من بعدي آلاف الأبناء، ومنهم من سيروي للأجيال القادمة حكايتي مع النهر)).
بعد أشهر من أستشهاد أبو سحر، كانت أم نادية حامل، وكنا نروم أن نسمي المولود الجديد كفاح، ألا أن أستشهاد أبو سحر أجبرنا أن نخلد أسمه، فكان صالح أجمل الأسماء، وبعد مرور عام على ذكرى أستشهاد الرفيق صالح حسين (أبو سحر)، كنا في زيارة الى دمشق، وقررنا أن نزور أم الشهيد في ذلك اليوم، وبعد السؤال عنها، وجدناها في حضرة (السيدة زينب)، قدمنا صالح الصغير فأجهشت المرأة بالبكاء وأحتضنت صالح، وكأنها تشكر (السيدة زينب)، بالوفاء لنذرها. تركتها مع أم نادية علني أجد فسحة لأمسح دموعي.. فنم قرير العين على ضفاف النهر فرفاقك قادمون.
النصير الشيوعي العدد 27 السنة الرابعة تشرين الأول 2024