تعرفت على الشهيد عمر، من خلال عملنا الديمقراطي، عندما كنّا طلابا، هو في المعهد الزراعي الفني في (ابو غريب) للعام الدراسي 1971 –1972، وانا في كلية الزراعة.
كانت ظروف تعارفنا وعملنا في غاية الصعوبة، فقد انعكست آثار الضربة التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي والمنظمات الديمقراطية عام 1970، على طبيعة عملنا الشديد السرية، وكنا حذرين جدا في تحركاتنا. آنذاك لك يكن هناك تنظيم بمعناه المعروف، ولا عملنا منظم، بل كنا نجري لقاءات فردية سريعة، نتابع خلالها توزيع ادبيات اتحاد الطلبة العام، والدعاية له، وتوزيع طريق الشعب السرية، وأدبيات الحزب التي نحصل عليها.
في هذه الظروف الصعبة، نشط الشهيد عمر في المعهد الزراعي، خاصة في الاقسام الداخلية التابعة الى المعهد. ومع تطور واستقرار التنظيم، تباعدت لقاءاتنا. وبعد أن انهى الشهيد دراسته في المعهد، عاد الى مدينته السليمانية .
لم تمضِ سوى ايام قليلة على إلتحاقنا في قاعدة (بلبزان) صيف عام 1979، حتى فوجئت برؤية الرفيق عمر، وقد وصل تواً من مهمة نقل البريد الحزبي الى رفاقنا.
كان مرحا كالعادة، وفرحَ كثيرا عندما رأى رفاقا من العرب معي. تكلمنا عن فترة تواجدنا في المعهد الزراعي، وعن كيفية التحاقه مبكراً في الجبل مع بيشمركة (الكوملة) في بداية عملها المسلح (عام 1975)، مع اصراره على ان تواجده بينهم مؤقت، فهو (شيوعي وسيلتحق بالحزب عند صعوده الى الجبل)، وكأنه يحدس بما سيحدث وصدق حدسه..
كان تواجد الرفيق عمر بيننا في القاعدة نادرا، لان المهام التي يُكلف بها، تفرض عليه الحركة والتنقل. بعد انتقالنا من قاعدة (بلبزان)، بسبب تقدم الجيش الايراني الى المنطقة، استقر الانصار في قاعدة (هزار به س)، وهي منطقة صخرية وعرة وتحتوي على كهوف. وبسبب الظروف الطبيعية المعقدة، وصعوبة توفير التموين الكافي، وشحة السلاح (اغلب الانصار كانوا من دون سلاح)، استغل الرفاق فترة العفو الذي اصدره البعث في تموز 1979 لأرسال مجموعة غير قليلة من الانصار الى قاعدة (نوزنك)، وذلك لتخفيف العدد في قاعدة (هزار به س).
وهكذا شُكلت مفرزة من عدد كبير من الانصار الغير مسلحين، من ضمنها نحن الرفاق العرب، للتحرك الى (نوزنك)، وكانت المفرزة بحماية (ان لم تخني الذاكرة) خمسة انصار مسلحين فقط، احدهم هو الرفيق عمر علي حلبجي الذي تميز بنشاطه وحيويته ومتابعته لكل نصير، خاصة وانّ معظمنا ملتحقين جدد، ولم نتأقلم بعد مع الصعوبات.
كان على المفرزة ان تخترق سهل (شهرزور) الخطر بفترة زمنية قصيرة، ثم تسير باتجاه جبل (سورين) للوصول الى كهوف (هه زار ئه ستون)، لذلك قطعنا المسافة الطويلة هرولة ومن دون توقف، مستغلين الظلام، وكان الشهيد عمر يتحرك من اخر المفرزة الى مقدمتها وبالعكس لكي يطمأن على كل الرفاق ويبث الحماس فينا، ويقلل باسلوبه المرح من التعب والارهاق والعطش الذي اصابنا. وعندما يفرض الطريق على المفرزة المرور باحدى القرى، يسرع النصير عمر مصطحبا احد الرفاق ليدخلا الى القرية قبل المفرزة، ويقوما باطفاء الفوانيس والانارة حتى تعبر المفرزة بكاملها، كما يشيع بين الاهالي بان هذه مفرزة الحزب الشيوعي العراقي وذاهبة لجلب السلاح، لكي يبرر عدم تسلحنا). وبالفعل انتشرت الاشاعة وبسرعة في القرى والمناطق الاخرى، ووصلت (بطريقة مبالغ فيها) الى بعض المناطق قبل ان نصلها (بأن الشيوعيين، وبالمئات ذهبوا لنقل السلاح!)، فحولوا عدد مفرزتنا من خمسين الى مئات...
للشهيد عمر دور بطولي في معركة ((قزلر (24-3 -1980)) التي خاضها انصار حزبنا ضد الاعداد الكبيرة من الجحوش وقوات النظام المدججة بأحدث الاسلحة والمسنودة بطائرات الهليكوبتر، فقد بادر بسرعة وشجاعة بقيادة بعض الرفاق القريبين منه، والاسراع بتوزيعهم على المرتفعات المطلة على القرية لمشاغلة الطائرات ولمساعدة الرفاق الآخرين، وبعد ان أمّن مواقع الرفاق، اسرع الى قرية (جوخماخ) القريبة لقرية (قزلر)، وتحت وابل من الرصاص والقصف الشديد، لحث مفرزة تابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، كانت متواجدة هناك، بالقدوم والمشاركة بالمعركة مع الانصار الشيوعيين، وكانت لكلماته المؤثرة والحماسية، امام أهالي القرية، عن كيف يقاتل الشيوعيون عرباّ وكرداَ جحافل الجحوش وقوات النظام ببطولة وشجاعة وبأسلحة بسيطة، اثرا كبيرا في بث الحماس عند بيشمركة مفرزة الاتحاد الوطني للقدوم الى قرية (قزلر) والمشاركة بالمعركة الى جانب الشيوعيين.
في النصف الثاني من آذار 1981، تحرك الشهيد عمر علي، متوجها من منطقة (شارباژير) الى منطقة (سوران) بمفرده، وكان البرد لا يطاق، والامطار غزيرة ومتواصلة، وعلى الرغم من تحذير الاهالي: بانه لا يمكنه في هذا الوقت عبور نهر (سوره بان) الهائج بسبب السيول والامطار، وخاصة ان الشهيد لا يعرف نقاط العبور، لكنه اصر على ان يعبر النهر الى الجهة الثانية، وللاسف لم يستطع أثناء عبوره مقاومة هيجان النهر واستشهد الرفيق غرقاً.
انتشر الخبر بسرعة في القرى التي كانت مفرزتنا تمر بها ونحن في شارباژير في طريقنا الى سوران، ولكننا لم نتأكد من اسم الشهيد الاّ بعد ان توقفت الامطار وعبرنا نهر (سوره بان)، حيث عرفنا من اهالي قرية (جاله خه زينه)، أن الشهيد هو (عمر علي حلبجي)، فقد انتشلوا جثمانه من النهر، ودفنوه في مقبرة القرية، بأنتظار نقل رفاته من قبل اهله، كما قاموا بركن سلاحه وعتاده وقمصلته في زاوية من زوايا المسجد كأمانة.
خيم الحزن علينا جميعا، وقرر الرفيق (الشهيد علي كلاشنكوف) آمر المفرزة، المبيت في القرية الى اليوم الثاني بعد ان علمنا ان اهالي الشهيد سيصلون صباحاً، حيث السلطات هناك، سمحت لهم بنقل جثمان الشهيد الى مقبرة العائلة. في الصباح الباكر وبعد ان وصل والد الشهيد مع عدد من اقاربه، تجمعنا في مقبرة القرية وباجواء مهيبة، اخرجنا جثمان الشهيد من قبره المؤقت، وكانت لحظات حزينة وصعبة ومؤثرة علينا جميعاً. القى آمر المفرزة كلمة الوداع، معاهدا الشهيد على مواصلة الدرب (كان الحزب في حينها يسعى لايقاف القتال بين بيشمركة الاتحاد الوطني وبيشمركة الحزب الاشتراكي الكردستاني).
((لا يمكن ان تغيب عن ذاكرتي، كيف أحتضن والد الشهيد الجثمان، وكيف عبّر بكلمات قوية عن غضب الناس من الاقتتال والفرقة ما بين الاحزاب، ثم أطلقنا أطلاقات الوداع تأبيناً لشهيدنا الخالد)).