الخطاط المهووس بحروف اللغة العربية، والذي وجد باباً للهروب من الواقع .. سألته مرةً لماذا اجدك محنياً دوماً لكي ترسم الحروف؟، لماذا لا تجد في الحياة متعة أخرى؟، قال: لقد كنت محظوظاً في نجاحاتي وتفوقي المدرسي، ولكن خالي الذي أعيش في كنفه وبخني مرةً وقال لي حسِّن خطك ياهذا.. لم يقتنع بكل درجاتي المدرسية واكتفى بانني يتوجب ان احسٍّن خطي.. لذا ولكي اثبت له قدراتي، وضعت كل ثقلي كي أحاول الابداع فيه رغم قواعده الثابته ومحدودية مجالات الابداع فيه.. ولكنك مبدع حقاً ومجتهد في التواصل رغم الإمكانيات المحدودة ورغم كل شيء.. اجابني اعتبرها وسيلةً للهروب من الواقع.. نعم انت محظوظ حقاً فلقد وجدت وسيلتك وعلينا ان نجد وسائلنا بهذا الفراغ وهذا الواقع الثقيل رغماً عنا.. في الحفلات الانصارية وفي المناسبات الوطنية وجدته يعزف على البزق بقدرة فنان موهوب وبصوته الجميل يغني وباللغة السريانية عن غزال عاشق هرب ولن يعود.. الريح تلعب بكذلته الجميلة.. واصابعه تتجول بين الاوتار دون تردد، وصوته الجميل تعيد صداه جبال الوادي الذي نحن فيه وحينها كم يغدو الغزال جاحداً حين يهاجر محبوبه دون وداع.. متعدد المواهب.. حين يعزف ويغني.. حين يخط أجمل الحروف.. وحين يشغل نفسه حطاباً يهيء الطبر قبل ليلة، يشذبه بأتقان وكأنه حطاب ماهر ولكي يقطع الأشجار بكل كفاءة دون تكرار الضربات بلاجدوى ويهيء حطب للشتاء القادم.. افترقنا بعد هجوم الأنفال الغادر صيف عام 1988 وابتعدنا ولم نعرف اين غدونا.. وأين عبثت بنا الحياة.. ولكنني وبعد خمسة عشر عام وبالتحديد بعد سقوط الطاغية عام 2003 وبعد عودتي لبغداد وتجولي في شارع السعدون.. وجدت محلاً للخط يخطون به لوحات للمراثي او الدعايات الاعلانية او الاعراس.. وجدت يوسف كما تركته بالضبط ولم يتغير الا ببدلته التي تحولت من البدلة الكردية الانصارية الى بدلة العمل البغدادية وبملابس لوثتها الوان اللوحات الاعلانية التي غدت وسيلة العيش الكريم.. قلت له لقد عرف خالك بان الشهادة المدرسية سوف لن تنقذك وتجد لك وسيلة للعيش ولذا جعل منك فناناً يتمتع الجميع بحروف خطه الجميل.. احتضنني بكل قوة شعرت بان يداه ترتجفان من شدّة الشوق والذكريات التي انهالت عليه في تلك اللحظة.. التفت اليه بعد ذلك العناق الطويل وجدت عيونه الدامعه الحمراء قد تاهت بين الواقع المر والماضي الجميل رغم كل شيء.. قال لي هاجر جميع افراد عائلتي بأركان الكون ولكني لا استطيع حتى التفكير بالهجرة وترك العراق.. لم اتزوج حتى الآن واعيش في بيت اختي وأعمل بهذا المحل اعرف بان المستقبل مجهول جداً واعرف بان البلاد على حافة الهاوية وأعرف بان العالم كله يتكالب علينا ولايريد الاستقرار لبلدنا ولكني لا أستطيع حتى التفكير بترك العراق .. فكل شيء يربطني بهذا الوطن وسأموت حالاً ان تركته دون رحمة.. أعانك الله رفيقي العزيز سازورك في زياراتي القادمة للعراق علني اجدك قد خلقت بيتاً وعائلة وحيث استطيع ان ادخل بيتك واسمع اغنيتك عن ذلك الغزال الذي هاجر دون عودة.. ضحك وقال لي اوعدك بذلك ولكن لاتنسى ان تزورني فلي معك ذكريات لا تنسى.. اودعته على أمل اللقاء.. تلك الروح الطيبة تلك النفس البهية تستحق عودة اللقاء.. بعد بضع سنوات وصلني خبر وفاة رفيقي العزيز يوسف برواري حين كان في سفرة الى كردستان للاحتفاء به بعد حصوله على جائزة للخط العربي من الحكومة الكردستانية.. وفي حادثة طريق بين الجبال بين دهوك التي ولد فيها واربيل التي ارادت الاحتفاء بانجازاته وبنضاله بين صفوف البيشمرگة الأنصار ولكنه رحل.... رحل دون عودة..
الخطاط الذي لايستريح ولايهدأ، الرفيق النصير يوسف يوخنا ايشو البرواري
