الكتابة عن تجربة الاطباء في حركة الانصار الشيوعيين، بتصوري مهمة صعبة، فحياة الانصار كانت مزيجا من الحماس الثوري، والالتزام الايديولوجي والرومانسية الثورية مع تراكمات التعب والاجهاد عبر سنين النضال الطويلة وظروف الحياة الصعبة (احيانا لا انسانية)، فتظهر بلا شك حالات الضعف الانساني، كما تبرز ايضا البطولات الشخصية.
النصير الطبيب كان يتوجب عليه التعامل مع كل الحالات بشكل احترافي. فهل كان الاطباء الانصار وانا احدهم بمستوى هذه المسئولية....؟، لست بصدد التقييم والاجابة على هذا السؤال، لكن المجال مفتوح للرفاق الذين عانوا من الامراض والاصابات ولم يجدوا معينا لدى اطبائنا الانصار.
كنت طبيبا في الفوج الاول/ قاطع بهدينان، مهمتي كما باقي الاطباء في الافواج والقواطع الاخرى، اولا معالجة الجرحى والمرضى من رفاقنا الانصار بالدرجة الاولى، وايضا المشاركة في المفارز الجوالة بغرض توعية الفلاحين، اذ كان وجود الطبيب في المفرزة يجلب انتباه الفلاحين وعوائلهم مما يتيح المجال للحديث عن الحزب وسياسته في المنطقة، كما يقوم الطبيب بمعاينة المرضى في القرية ومحاولة تشخيص امراضهم ومعالجتها.
اول مهمة (حقيقية) تم تكليفي بها، كانت استدعائي على وجه السرعة لمعالجة اصابة الرفيق ابو حياة في احدى العمليات العسكرية، ولتسريع وصولنا الى القرية التي تم سحب الرفيق اليها، تقرر استعارة تراكتور من احدى القرى القريبة لنستقله الى هدفنا. تحركنا في بداية الليل بعد ان حزمت حقيبتي الطبية بادواتها البسيطة البدائية. وصلنا بعد ان اكمل رفاقنا انسحابهم من مكان العملية (الذاكرة لا تسعفني بآسماء القرى والمواقع، لابد ان الرفيق ابو حياة يتذكرها).
كانت اصابة الرفيق ابو حياة في الكتف مع نزيف في المنطقة. ولكنه كان بمعنويات عالية، ويرغب بمعالجة الجرح بسرعة والعودة الى القتال. وعلى قدر الادوات البسيطة وخبرتي غير الكبيرة في التعامل مع جروح الحرب، تمكنا من ايقاف النزف، واستطعنا نقله الى المقر بعد استقرار حالته. (ولا داعي الى التذكير بان كل العلاج كان خاليا من المسكنات والمخدر لاننا كنا نفتقده).
المرحلة الثانية كانت منع الالتهاب بما توفر لدينا من مضادات حيوية، وتنظيف يومي للجرح، وكذلك تقدير مدى العطب في مفصل الكتف، ومقدار تلف المفصل والعظام والعضلات. لاتوجد لدينا اي وسيلة للتشخيص سوى ملاحظتنا للمريض والخبرة الشخصية.
في مقر الفوج الاول، تم ادخال ابو حياة الى (المستشفى)، وهي عبارة عن قاعة صغيرة ملحقة بالعيادة وسكن الطبيب. وحاولنا (د.واثق الذي كان في الفوج وأنا) ان نتعامل مع المفصل باعتباره خلع ناتج عن قوة المقذوف، ولكن بعد عدة محاولات ونقاشات توصلنا الى ان المفصل تم تهشيمه بفعل المقذوف، وسينتج عن ذلك عوق دائم في حال تآخر العلاج (وهذا ما حصل). قمنا بما نستطيع (د.واثق وانا) ليلتئم الجرح. عندما استعيد ذكرى هذه الحالة وطرق علاجنا للرفيق، لا يسعني الا ان اقف احتراما واعجابا بالرفيق ابو حياة لتحمله الالام وتفهمه لنقص الامكانيات التي بتصرفنا ولمعنوياته العالية خلال فترة العلاج.
تنويه: المعركة كانت في ربيع 1986، والرفيق حاليا يعاني من ضعف (انعدام) الحركة في مفصل الكتف،على الرغم من مختلف العلاجات لاحقا. تحية كبيرة للرفيق ابو حياة.