غالبا ما كانت تسير مفرزة البيشمركة إلى القرى في الدروب الضيقة والملتوية، فوق الهضاب والتلال والوديان أو بمحاذاة سفوح الجبال، فالقرى متناثرة ومتباعدة، بينها تمتد مسافات غير قصيرة وتحتاج إلى ساعات حتى تصل قرية أخرى.

السائر في الدرب يسمع طرقات فأس قادمة إليه من سفح الجبل أو من عمق الغابة.. طرقات قوية فوق جذع شجرة تمزق لحاءها منذ سنوات وصدى من بعيد يرن في الوادي، إذ لا يخلو هذا الوادي أو ذاك من رنين تراكم أعواما فوق أعوام في زمن الحرب أو السلام، وتلك إشارة أزلية عن كدح الإنسان. انهار الجذع وسقط مع دويه على الأرض وقطعت أغصانه، الضربات قاسية وقوية على نفس الأثر، والجذع كما بقايا كل شجرة يجمع منه الحطب للتدفئة والطبخ ونار التنور. السائر يسرع في خطاه سواء تحت السماء الزرقاء أو بين الأشجار الوافرة أو فوق العشب الأصفر في الصيف الطويل، يسير تحت السماء الملبدة بالغيوم وتحت المطر فيتوحل حذائه وحافة سرواله، إنه يتحرك بين أزهار الربيع الرائعة ذات الألوان الجذابة حينما تشرق الشمس وتذوب الثلوج وتغوص أقدامه في شلالات السواقي. ينذهل السائر من وفرة الماء في باطن الأرض، حيث تزدهر عيناه بتنوع البيئة، فكل شيء ينمو برقة، وهو يسرع الخطى إلى القرى المضيفة المرصعة بيوتها البسيطة بأعمدة الجذوع، فالقرى هي مأوى مفارز البيشمركة نهارا، وفي الليل المظلم البارد يرى السائر أضواء الفوانيس تلوح له عن بعد، وترحب به ظلالها المرتعشة عبر النوافذ، بينما يتصاعد الى الاعلى دخان المدافئ المنبعث من الجمر المتوقد كضباب من تلك الجذوع المشتعلة التي جلبت من سفح الجبل او من الغابة، وحملت على ظهور البغال. هي القرى نفسها احتضنت أسلافا وأجيالا لتكون أسماء مشهورة خارجة من التاريخ، وكم دمرت قنابل الطغاة بعضها فشيدت على أكتاف أبنائها من جديد، وكم عام مضى على تدميرها واعادة تشييدها، ليدب فيها شريان الحياة؟. الفلاحون في مزارعهم مندمجون مع الأرض ويستخدمون سواعدهم  وأقدامهم، فينظفوها من الصخور حاملين إياها على أكتافهم، لكي يخلوها من الأحجار والحصى   والأدغال والأعشاب لتكون سياجا أو تلالا صغيرة، ثم يعثرون على التربة السوداء فيحرثوها ويبذروها مثلما فعل أجدادهم. يحنون قامتهم بنفس الهمة، وينز عرق الجبين، ثم ينظمون السواقي ويغمرونها بالمياه  لتثمر الأرض  وتحصد  ويكون لها مردودا سنويا.

أشياء كثيرة تغيرت في القرى، وأشياء كثيرة لم تتبدل، حب الأرض والتآلف معها ورعايتها رغم كل ما تحفره قنابل الطغاة، فالأرض لم تتبدل هي نفسها، والهمة والكدح كذلك لم يتبدلا، هذا هو رقي التكوين ما بين الإنسان والأرض، أما النساء فرؤوسهن معصوبات بالمناديل، وعليهن عبأ العمل في البيت، يحملن الحطب ويطبخن الطعام ويحملن على أكتافهن (تنكات) مملوءة بماء الينابيع، أما الأطفال فيلعبون فوق سطوح المنازل أو في ساحة القرية أو في مرحهم مع رعي المواشي، فيصيحون ويصرخون ويصفرون لئلا يحيد ماعز عن القطيع الذي يسير وراء قائده (التيس) الذي يعلق في عنقه جرس يدندن اينما سار وأينما قفز، فيتبعه القطيع فوق الأعشاب التي جفت من قطرات الندى، وتطارد الكلاب نابحة أي ماعز حاد عن القطيع، حتى الحيوان يدب في حركته في القرية سواء حصان يصهل أو بغل ينهق أو بقرة تخور أو ديك يصفق بجناحيه. القرية فيها  رائحة عنب جاف وطين وحطب مشتعل ودخان متصاعد وخرير ماء رقراق وندى دقيق من حفيف أوراق الأشجار وشذى نسيم، إنها عالم في شريان الحياة.

  وحينما يقترب السائر من مدخلها ينتابه قلق شديد، ويلازمه إلى أن يخرج منها، تلك هي الكلاب النابحة تجاهه، ولولا صياح صاحبها لنهشت أنيابها الجسد، فكلاب القرية لها قصص كثيرة متداولة،  وبعض الفلاحين يتباهون بها حيث يرجعون السبب إلى قدرتهم في إعدادها بسلوك طبيعي يومي دون تكلفة، وهي ترافق المواشي، جرو كان أو أشبال تتمرغ في التراب، لتنشأ في السليقة مرتبطة بصاحبها مخلصة وفية مطيعة ومعتمدة على حاسة الشم الشديدة والبصر الحاد والذاكرة القوية،  لتكون على استعداد كامل أن تضحي بنفسها من أجل صاحبها ومواشيه وبيته، وعادة ما تستخدم الكلاب في القرى لحراسة المواشي، وقد سمعت ذات يوم من أحد القرويين، أن كلابه طاردت ذئبا وعادت بعد عدة أيام مثخنة بالجراح، وهذا يعني أن معركة شرسة دارت بينها وبين الذئب وانتهت بقتل الذئب، وأنا أتذكر ما قرأته عن القدماء المصريين الذين تركوا تماثيل وصور الكلاب في الأهرامات، والأغريق استخدموها في زمن السلم والحرب، والرومان علموها صيد الأسود والنمور. هي من الثديات ذات الذاكرة العجيبة، والتي يعود ظهورها إلى 60 مليون سنة، ودجنت قبل 14 مليون سنة. أما الكلاب في قرى كردستان، فتختلف في حجمها وشكلها وطولها ومظهرها ولونها.

ذات مرة دخلت قرية، فواجهني كلب ضخم، كشر عن أنيابه وأرخى أذنيه وانتصب ذيله وهو يزوم، فجفلت وتصلبت في مكاني، ولولا صاحبه لنهشني، لربما اعتبر دخولي إلى القرية غير مسموح به، وأنني أشكل خطرا عليه وعلى قريته، وقد كنا نتفادى القرية لمعرفتنا بشراسة كلابها، وإذا أردنا أن ندخل قرية في عمق سهل الموصل لغرض ما، كنا ندخلها في الفجر حيث تتعب الكلاب من النباح وتهدا، أنني أتذكر عندما دخلنا قرية قريبة من (مانكيش) في منتصف عام 1982، وتوزعنا في بيوتها، ثم ذهب الحرس إلى تل من أجل الحراسة، وتوزعنا أنا وأبو إيفان في بيت واحد، إلا أننا سمعنا فجأة إطلاق رصاص، فهرعنا خارج البيت واقتربنا من الحرس، وتبين لنا أن كلب هجم عليه  وعضه، فاضطر أن يطلق عليه النار دفاعا عن نفسه، وكانت الإصابة مميتة، فمشى الكلب إلى بيت صاحبه، الذي خرج غاضبا، ثم رجع إلى البيت وجاء ببندقيته، بينما الكلب يئن من الألم وينظر إلى صاحبه بحزن كما لو أنه يودعه، فسحب الرجل اقسام البندقية وواطلق عليه رصاصة الرحمة، وبالرغم من ان الموقف كان مؤلما لنا جميعا، الاّ ان الوضع اضطرب وتوتر، وقد حاول أبو إيفان بذكائه أن يهدئ الموقف ويعتذر لصاحب الكلب، فانسحبنا من القرية وأنا أفكر بهذا الارتباط الوثيق بين الإنسان والحيوان الوفي.