بعد أن تزودنا بالماء وقبل أن تبدأ خيوط الفجر الأولى بالظهور، بدأنا في تسلق جبل شيرين عبر طرق غير مطروقة، كانت الرحلة شاقة وكنا نتقدم خطوة للأمام وثلاثة للخلف!. تحت حرارة آب اللهاب، بدأ مخزون الماء ينضب، ولم نكن قد تذكرنا أن نحضر طعامًا. كنا نحمل أسلحتنا ونتناوب على حمل الطفلة إيوان. وبعد مسافة، اكتشفنا أن أحد رفاقنا قد تراجع ولم يتمكن من التواصل معنا، نزل وسلم نفسه، لكنه لم يدلِ بأية معلومات للسلطة.
مع بلوغ النهار منتصفه، كنا ما زلنا في منتصف الطريق. بحثنا عن ماء، وكانت علاماتنا المعتادة أشجار الحور والاسبندار. لمحنا من بعيد ما يشي بوجود الماء، لكن المسافة كانت بعيدة ونحن عطشى وجوعى. إرادة الحياة كانت ما تزال تنبض في عروقنا. وصلنا أخيرا بعد مسيرة أكثر من ساعة. أطفأنا عطشنا وغسلنا وجوهنا وأجسامنا، لكننا كنا ندرك أن هذا المكان سيكون معروفًا لمن يلاحقنا. حاولنا الابتعاد والتخفي بين الصخور، ثم بدأنا بإكمال الصعود نحو القمة. من هناك، راقبنا حركة الجيش والجحوش في الوادي أسفلنا. كان الجحوش ينزلون من الجبل المواجه لشيرين ويحرقون بيوت القرى، لكن قبل الحرق كانوا ينهبون محتويات البيوت.
تعلمنا من تجارب الفلاحين طرقًا لإخفاء الطحين والمواد الغذائية الجافة في الكهوف لتواصل الحياة بعد العودة إلى القرى. هذا التكتيك المقاوم أنقذنا عدة مرات. وجدنا علامات تشير إلى أماكن إخفاء الأرزاق. شاهدنا قرية غير محروقة بالكامل على الجانب الآخر من الجبل، فنزلنا باتجاهها. كانت بيوتها لم تُحرق بعد رغم أن الوادي تحت سيطرة النظام منذ أيام، ولكن الجيش لم يدخل الوادي بعد، هذه كانت مهمة الجحوش.
وصلنا القرية ووجدنا طاحونة مائية تحتوي على طحين، دهن، برغل، رز، وقدور طبخ وحتى الحطب كان جاهزًا. دخلنا البيوت وأغلقنا النوافذ الصغيرة والأبواب لمنع خروج ضوء النار المستخدمة في الطبخ. بعد الحرمان الطويل، كان الأرز المطبوخ لذيذًا بشكل لا يوصف، وحتى أننا تفننّا في قلي الخبز بالدهن. أعددنا كميات كبيرة تكفينا لأيام.
بعد أن شبعت بطوننا، بدأنا بالبحث عن رفاقنا التسعة، لكن لم نجد لهم أثرا. لم نفقد الأمل تماما، لكننا وجدنا مكان اختباء جيد رغم قربه من الجيش. أرسلنا أربعة من رفاقنا لاستطلاع الطريق إلى الحدود التركية، وتبادلنا الصعود لجمع المعلومات. كنا في بداية أيلول وفوق قمة جبل جرداء بملابسنا الصيفية، ولم نستطع إشعال النيران، فالنار هي صديقة للأنصار وعدو لهم في نفس الوقت.
كنا أربعة أشخاص، كل واحد منا من منطقة مختلفة من البلاد. في تلك الليلة الباردة، حاولنا حماية أنفسنا بالاختباء بين الصخور، وتناوبنا على الحراسة والاستطلاع بانتظار بزوغ الفجر. لكن مع خيوط الفجر الأولى، جاءنا الرفيق الحارس مرتبكًا قائلاً:
التقيت بشخص مسلح وكلانا خشينا من بعضنا، فهرب كل منا في اتجاه معاكس.
ناقشنا الأمر بسرعة وقررنا الانسحاب قبل أن يُكشف أمرنا. وبينما كنا ننزل باتجاه الوادي، سمعنا صوتا قويا من أعلى مع صوت سحب أسلحة البنادق، وصاح أحدهم بلهجة كردية بهدينانية:
من أنتم؟
كانوا أكثر من 20 مسلحا يوجهون أسلحتهم نحونا ونحن على مرمى حجر منهم. استعد أحدنا للقتال خلف صخرة، لكنهم لم يطلقوا النار وكرروا السؤال:
من أنتم؟، فقلنا: نحن بيشمركة!
قالوا:
نحن فرسان ولا نريد قتالكم، فقلنا: نحن ايضا لا نريد القتال!
بعد مفاوضات قصيرة، اتفقنا أن يتقدم منهم اثنان غير مسلحين. تعرفنا عليهم، إذ كانوا من سكان المنطقة ولم يكونوا معروفين بولائهم المطلق للنظام. نزلوا معنا إلى الوادي وأعلمونا أنهم متفقون مع الجيش على إشارات خاصة ليثبتوا لطائرات الهليكوبتر أنهم أصدقاء وليسوا أعداء.
التقوا بالرفيق الذي يعرفونه وجرى التفاوض معهم على كيفية إيصال الطفلة إيوان إلى بيت خالتها في زاخو. اتفقنا معهم على إيصالنا إلى الحدود التركية مقابل مبلغ من المال. وهنا بدأت المأساة الحقيقية. الطفلة إيوان، التي اعتادت أن تكون بيننا، رفضت بشدة أن تتركنا. تشبثت بأحد رفاقنا الذي كان يحملها وكأنه والدها الحقيقي، وصرخت بحرقة، وكلماتها المتقطعة وصوتها الحزين يمزقان قلوبنا. كانت تقول:
لا تتركوني! لا أريد الذهاب مع الغرباء!
كنا نشعر بالعجز أمام مشاعرها القوية. الحزن والاضطراب غمرا وجوهنا ونحن عاجزون عن فعل أي شيء سوى الوقوف ومراقبة هذا الفراق القاسي. الدموع انهمرت من عيوننا بلا إرادة، كنا نشعر وكأننا نخونها، نتركها مع الغرباء رغم أنها كانت جزءا منا، قطعة من حياتنا في هذه اللحظات الصعبة.
وسط صراخها وبكائها، شاهدنا الجحوش يأخذونها بعيدا. كانت تتشبث بالدابة التي حملوها عليها وتنظر إلينا بعينيها الباكيتين، وكأنها تسألنا لماذا نتركها. مشاعر الحزن والألم كانت تتزايد بداخلنا، ونحن نعلم أن هذا القرار هو لصالحها، لكي نضمن وصولها إلى بر الأمان بعيدا عن المخاطر التي تحيط بنا.
مع مغيب الشمس، اختفت إيوان عن أنظارنا وراء الجبل. تلك اللحظة كأنها انتزعت جزءا من أرواحنا. شعور بالخسارة والفقدان كان يغمرنا. كنا نعلم أننا نحاول أن نمنحها فرصة لحياة أفضل، بعيدا عن هذا الجحيم الذي نعيشه. الفراق مؤلم، والدموع لا تتوقف. نحاول أن نتماسك، نعلم أن علينا المضي قدمًا، لكننا جميعًا كنا نشعر بأن جزءا منا قد انكسر مع رحيل إيوان.
بينما أختفت مع المغيب، حملنا في قلوبنا أملًا بأن تصل إلى بر الأمان، وأن تجد حياة أفضل بعيدا عن هذا الجحيم الذي نعيشه. ومع كل خطوة نخطوها بعيدا عن تلك اللحظة، كانت ذكراها تظل عالقة في ذاكرتنا، تذكرنا بأن هناك دائمًا من يدفع الثمن في سبيل البقاء والحرية.