المشهد الأول
في مساء صيفي من عام 1978، اضطررنا أنا ووالدتي وخالتي لارتقاء سلّم القسم الداخلي لطلاب الهندسة، في مدينة براتسلافا بجمهورية سلوفاكيا، حينما وجدنا المصعد قد تعطل.
تتحول الاقسام الداخلية خلال العطلة الصيفية، إلى سكن للسياح القادمين من جميع أنحاء العالم. لكي أبدد ضجرهن جراء صعود تلك السلالم المملة، بدأت أغني لهن أغاني عراقية قديمة! على ما يبدو أن صوتي كان مرتفعاً ومسموعاً، حيث رأيت أحد الشباب يظهر فجأة من أحد الممرات، وبالكاد كان يلتقط أنفاسه وهو يسألنا:" انتم عراقيون؟" أجبنا بنعم.
أصر على دعوتنا لشرب شاي والاستراحة في غرفته، فشكرنا دعوته لأننا كنا متعبين، ثم عرض علينا بحياء وصوته بالكاد يسمع، أن يساعدنا في الترجمة إذا ما احتجنا لذلك!، اخبرته بأني أدرس في تلك المدينة واستطيع التفاهم بلغتهم، استغرب لأننا لم نكن قد اجتمعنا أو تعارفنا سابقا!.
هكذا التقيت الشهيد نعمة عباس لأول مرة.
المشهد الثاني
ربما مر يومان، حينما رأينا نعمة ينتظرنا عند الاستعلامات، ما أن لمحنا حتى دنا منا وبلهجته الجنوبية المحببة، قال لوالدتي وهو يخفض بصره إلى الأرض:"خالة لازم تتفضلون عندي تشربون چاي"!
لم نستطع إلا أن نلبي دعوته. عندما كنا نحتسي الشاي معه وبحضور طلبة عراقيين آخرين، أثناء تبادل مختلف الأحاديث سألته والدتي :"من أي مدينة انتَ؟" أجابها:"الكوت"، ثم سرح بعيداً، لعله عاد يمشي في شوارعها وازقتها ويقف أمام سدتها، ويسبح في مياه دجلة ويلتقط رغيفاً ساخناً من يد أمه!.
المشهد الثالث
صباح أحد أيام السبت من ربيع عام 1980، سمعت طرقاً خفيفاً على باب غرفتي، لما فتحته رأيت نعمة امامي وعيناه الى الأرض (كما هي عادته دائماً)! وقتئذ كان هو مسؤولي الحزبي وقد استغربت مجيئه المبكر! شعرت خلال الوقت الذي امضاه في ضيافتي أنه أتى لأمر ما، استبد بي القلق والريبة بعد أن طال وقت زيارته. راودتني هواجس عديدة، من المحتمل أن هناك تكليفاً ما، أو توجيهاً حزبياً وهو محرج من طرحه! أو لعل شيئا ما حدث في الحزب والتنظيم! حينما أخذت الظنون مأخذها مني، بادرتـه قائلة: "لم لم تقل ما جئت من أجله؟" بعد قليل وهو يستنشق الهواء بعمق قال لي: "أحد زملائنا عمل عملية جراحية كبيرة ويرقد الآن في المستشفى، حبذا لو تكونين معنا لتقديم باقة ورد له بمناسبة سلامته "!.
المشهد الرابع
التقيته بالصدفة، وأنا في طريق عودتي للبيت بعد انتهاء يوم العمل بمكتب الجريدة التي كنت أتمرن فيها. دعاني لكي نذهب معاً الى مطعم قريب من هناك. كان سخياً وكريماً جداً ومحباً لزميلاته ويعتبرهن شقيقاته مازحته قائلة " لو أن"عزيمتك" كانت على سمك كوتاوي، لن أرفضها ابداً"! نظر لي مستغرباً وسألني ان كنت يوما في مدينته؟ فأخبرته بأن والدتي ذهبت للإشراف على عمل رابطة المرأة هناك، يومها كنت طفلة صغيرة فاصطحبتني معها، ولما أصابني الملل بادرت احدى الرابطيات لأخذي إلى سدة الكوت للنزهة، حينئذ كان الماء يتدفق كشلال هادر من بين أبواب السدة التي فتحت مغالقها، رأيت كيف تقافزت مئات الأسماك في النهر كأنها ترقص طرباً.. منظر لن انساه ما حييت.
لا أزال اتذكر رغم مرور الزمن تلك الدموع التي ترقرقت حينها في مقلتيه!.
المشهد الخامس
مرت الأيام مسرعةً وتوالت فصول السنة، وحل ربيع عام 1982، وقتها دعاني نعمة إلى حفلة تخرجه، وحصوله على شهادة الماجستير في هندسة البناء. غمره الفرح والبهجة، ونحن نحتفي به. سألته عن وجهته، تطلع إليّ بتعجب ومن دون أن يفكر ولو للحظة واحدة أجاب"انا شيوعي وسوف انفذ شعار الحزب (التفوق العلمي والعودة إلى الوطن)!.
المشهد السادس
قبل سفره الى كردستان نظم الطلاب العراقيون سفرة إلى إحد المنتجعات القريبة، كان نعمة حاضراً فيها، اتذكر اننا خرجنا جميعا في نزهة بين تلال وغابات المنطقة، تعب بسرعة ولم يستطع مواصلة السير، من صعود وهبوط التلال والروابي التي صادفتنا، علق أحدهم مناكفةً "كيف سيكون الحال في كردستان وهناك الجبال والوديان" لم يرد عليه سوى بكلمة "اتعود"!.
المشهد السابع
مع بداية العطلة الصيفية عام 1983، جلسنا في الحفل التأبيني الذي أعدته ودعت له المنظمة الحزبية في مدينة براتسلافا.
تصدرت القاعة صورة الشهيد نعمة موشحة بالسواد ومؤطرة بالزهور الحمراء، لقد استشهد في (بشت ئاشان).