الزمن: الحادي والعشرين من أب 1981
المكان: مدينة شقلاوة – كردستان/ أربيل.
أتفق على تسمية فصيلنا بفصيل خوشناوتي، كان ذلك أعقاب أعادة تشكيل سرية أربيل في أذار 1981 بوصفها أحد سرايا الفوج الخامس، الى جانب سرية ملكان وروست.. كانت خطة السرية، هي ان تحتفظ بفصيل واحد في مقر السرية ويكون في نفس الوقت مقرا للفوج في قرية ورته، اما الفصيلان الاخران فيذهبان كمفارز متجولة كل الى منطقته.
كنا لا نزيد على الخمسة عشر نصير نجوب قرى ومناطق خوشناوتي، وتحديدا ارياف شقلاوة وحرير. المفرزة تحت آمرة الرفيقين ئازاد (سرسور) الابن البار لمدينة شقلاوة، وكانبي شوان، والذي يطلق عليه أحيانا كانبي (كجكة) أي الصغير تميزا له عن الرفيق كانبي صالح (كورة) أي الكبير، مع ان الوزن الحقيقي لكانبي (كجكة) ضعف الوزن لكانبي (كورة). اما انا فقد كنت إداريا للفصيل، وتلك كانت باكورة المهام التي كلفت بها.
كنا ندور ونجول في عشرات القرى في المنطقة منها (بركدكة، روزكريان، سرنوس، سردة، قرى وادي ملكان، رزكة، وبعض من قرى باني خيلان، ئاقووبان، جنيران، تركارة، بركة، كولكة رةش، وادي باليسان، وغيرها). كانت اغلب نشاطاتنا تأخذ طابعا سياسيا ينصب على التعريف بمواقف الحزب وسياسته الجديدة تجاه النظام، لان الكثير من الناس مازال غير مصدق بسياستنا الجديدة. الكثير من الناس يذكرنا بسياسة الحزب القديمة والتعاون مع السلطة أيام الجبهة الوطنية. لم تكن مهماتنا بتغيير وجهات نظر الناس باليسيرة، وكنت اتحدث بالعربية، وعقدت بعض من الندوات الصغيرة في المساجد للذين يفهمون العربية، وكانت استجابتهم جيدة جدا. وفي المحصلة النهائية بدأت الناس تصدق وتدرك سياستنا الجديدة.
كان الشهيد سرسور القلب النابض للمفرزة، يعرف المناطق والقرى وناسها ووجهائها وجغرافيتها. وهو من يحدد في الكثير من الأحيان نوعية النشاط العسكري والسياسي للمفرزة. كان يقول لنا ان أفضل السبل لأقناع الناس بسياسة الحزب هو القيام بالعمليات العسكرية وتوجيه اقوى الضربات لقوات السلطة.
في مساء 21 اب 1981، قرر قادة المفرزة القيام بعملية نوعية داخل مدينة شقلاوة. العملية هي نصب كمين لقوة الطوارئ والتي يسميها النظام قوات التأديب، والتي أذاقت الناس المر، لذا أقتضى تأديبها من قبل أنصار الحزب الشيوعي العراقي. وهذه القوة تجوب مدينة شقلاوة ليل نهار وحسبما تشاء، وتتوقف في المنعطفات أيضا..
في أطراف واحد من بساتين الرمان والكروم، على سفح جبل سفين الشرقي توقفنا، وعتمنا على حركتنا بالتمام، خاصة من طرف القرية الأخيرة (اسبيندارة) التي ضيفتنا للعشاء. أوهمنا الناس وقتها ان اتجاهنا القادم هو (هيران)، وفعلا ولٌينا وجوهنا صوب هيران مودعين سبيندارة. لكن آزاد يعرف كل تفاصيل السفح وحجارته، قادنا بحركة إلتفافية بعيدا عن عيون قرية اسبيندارة وبدأنا نتسلق السفح ثانية نحو شقلاوة.
في السابعة مساء شرح آزاد (سرسور) العملية لنا، وطريقة التنفيذ ومهمة كل واحد منا. كانت القاذفة سلاحي الشخصي، حرص سرسور على عدم استخدام هذا السلاح الا بأمر منه، لان طبيعة العملية ربما لا تحتاج لذلك. اما الخطة فقد كانت تقليدية وبسيطة، يقوم ستة منا بنصب الكمين على الشارع الرئيسي، في حين تقوم مجموعة الستة الباقية بالإسناد وتأمين طريق الانسحاب.
اخترقنا البساتين ووصلنا الى داخل المدينة بالوقت المثالي للتنفيذ تحت عتمة الليل وكثافة البساتين. كنت ضمن الستة ألانصار المتقدمين على رصيف الشارع، لكن آزاد حبّذ ان أبقى في الخلف وان لا أتقدم الا بأمر منه. وهذا التزام وطاعة عسكرية. وكان الالتزام الشيء الأول والمهم الذي تعلمته من الأنصار.
في تمام السابعة والنصف، وفي طريق عودتها الى المعسكر، وقعت قوات الطوارئ في الكمين المحكم. كانت ثلاث سيارات وناقلة جنود محملة بالأفراد من الجحوش وافراد الاستخبارات العسكرية وقوات التأديب كما كان يطلق عليها آنذاك. بدأنا برماية كثيفة ومركزة على العجلات الثلاث الأولى، وشكلت نيراننا لهم صدمة، شلت بنادقهم بالتمام ولم يرد أحد. كانت مباغتة سريعة وغير متوقعة لهم، وسرعان ما دمرنا السيارات بالكامل. لم يرد أي احد منهم، ولا حتى صوت. الصوت الوحيد كان صوتنا، حيث آزاد وكذلك سمير وهما يهتفان بحياة الحزب الشيوعي.
ثم جاء امر الانسحاب، فانسحبنا من الشارع وبدأنا النزول وسط البساتين التي عتمت كثافتها على حركتنا. بعد دقائق من الانسحاب تخلف الرفيق سمير عينكاوة. توقفنا نحن جميعا، ثم رجع ازاد مع بشدار للبحث عنه واستبيان الأمر. (فردة حذائي ضاعت بهذي الطينة وهذا الميّ)، صاح سمير غاضبا وهو يبحث وسط مستنقع من مياه اسنة وسط البستان. الغريب لم يرَ احد منا نحن الستة هدا المستنقع، فكيف وقع سمير به!. راح الرفاق يبحثون عن فردة الحذاء، والوقت يمضي، وسمير يصر على ضرورة إيجاد فردة حذاءه قبل ان ينسحب. ولكن لا جدوى. ضحكت مع سمير، بان هذا حذاء أبو القاسم الطنبوري وليس حذاءك. شاط سمير غضبا. وحدث هناك ضحك وبدأت اصواتنا ترتفع، وهناك من ينادي من طرف البستان بضرورة الانسحاب السريع. وهنا صاح سمير بصوت عالي (شلون امشي بدون حذاء ما أكدر)، وكان عصبيا. ولا اتذكر من الذي مازحه وأثقل عليه (عيوني سمير حذائك بلعه مثلث برمودا، وبعد حتى الله ما يلكاه) وهنا شاط غضبا سمير (والله ما اروح الا الكه الحذاء).
اكتشف العدو وجودنا في بستان الرمان. خليط من الجيش الشعبي والشرطة. كان صوتنا كافيا لهم لتحديد مكاننا. بدأ العدو يمطرنا بزخات متواصلة من الرصاص مستخدما سطوح المنازل المطلة على السفح. كانت الرماية عشوائية لكنها كثيفة ومؤثرة، لذا طلب منا عدم الرد، والتحصن الجيد وحماية النفس حتى يخف الرمي. وحقيقة لم يخف الرمي، بل أخذت شقلاوة جميعها ترمي، حتى البعيدة جدا من مكان العملية.
أخيرا تقبل البطل سمير الموقف واستجاب لأمر الانسحاب. وأدرك الخطأ الذي اوقًعنا به مثلث برمودا عندما ابتلع حذاء سمير. عندما خرجنا سالمين، وعند اول أستراحة للمفرزة، بدأت التعليقات، وبدأ سمير يتقبلها ويبتسم، ولكن في الحقيقة كان سمير محقا تماما في البحث عن فردة الحذاء، فقد حصل عليه توا من ناس أعزاء لم يشأ ان يفصح عنهم.
اشترك بهذه العملية الأنصار: كانبي شوان، سرسور، بشدار، نريمان، سمير عينكاوة، ريبوار، تحسين عشيرة، أبو احرار، نوزاد، وشيار، توانا وآخرين..