حصلت المعركة في منتصف حزيران 1983م، ولها خصوصية بالنسبة لبعض الرفاق، وهي مناسبة للتذكير بالأبطال من رفاقنا الأنصار في مفرزة الطريق.
كان صيف كردستان سنة 1983 ملتهباً بعد أحداث بشت آشان، وكنا نستحث الخطى للوصول إلى الوطن، رفاق جاءوا من أماكن مختلفة من العالم، منهم العربي والكردي والآشوري والتركماني والمسلم والمسيحي والايزيدي والمندائي، يمثلون فسيفساء الشعب العراقي، هدفهم المساهمة الجادة في النضال ضد الدكتاتورية، تاركين وراءهم جامعاتهم ووظائفهم وعوائلهم وأصدقائهم ومقتنياتهم واهلهم واشيائهم الجميلة، حالمين بمستقبل سعيد للعراق،ومستعدين للتضحية من اجله.
سارت المفرزة بسرعة، يتقدمها رفاق مفرزة الطريق الذين كانوا يستطلعونه ويعطون الإشارات ويتابعون الرفاق الذين تقع عليهم مهمة إيصالهم بسلام الى القواعد الأنصارية في كردستان العراق. يمكن القول أن المرحلة الأولى من الرحلة خلال الليل، كانت ناجحة، حيث عبرنا الأماكن الخطرة وسط قوات النظام، وأصبحنا خلفها متوجهين إلى أماكن آمنة للاستراحة بعد عناء من مسيرة طويلة خطرة، لكن بعض الرفاق الذين لم يعتادوا على المشي لمسافات طويلة، أصابهم التعب والإرهاق، ولم يقوُا على مواصلة الطريق، وسقط بعضهم مغشياً عليه، بمن فيهم الطبيب الوحيد القادم لمساعدة رفاقه، مما عرقل المسيرة وشتتها، فاضطر رفاق الطريق على البقاء مع هؤلاء، والبقية أكملت السير باتجاه (جبل بي خير).
خلال لحظات بزوغ الفجر، شاهد بعض عناصر النظام المنتشرين في المنطقة الرفاق المتأخرين، فحصلت مواجهة إجبارية، جعلت رفاقنا ينسحبون مع الرفاق المرهقين بشكل سريع واضطراري، ولكن ذلك زاد من ارهاقهم. لحظات قبل وصولهم إلى المكان المحدد، وإذا بعناصر النظام تتقدم بقوة عسكرية لملاحقتنا، وتطويق المنطقة، وهنا كان لرفاق مفرزة الطريق الأبطال دورهم البطولي والكفء، فسارعوا لسحب كافة رفاقهم، وتوزعوا في أماكن استراتيجية لإحباط هجوم القوات المهاجمة، وجرت معركة طيلة نهارٍ كامل، كنا فيها دون ماء ولا طعام، مرهقين بسبب المسير الصعب والسريع طوال الليل، وكانت بعض أسلحتنا قد تبللت، وبحاجة إلى التنظيف والادامة قبل استخدامها، لكن ذلك لم يمنع المفرزة من المواجهة والقتال والصمود وتكبيد أفراد النظام خسائر بشرية ومادية، حيث اضطرت مدرعاته على التراجع قبل الغروب، تاركين إحدى الجثث في منطقة المعركة. بعدها تقرر أن تنزل مجموعة صغيرة من الرفاق إلى الوادي لجلب الماء للرفاق، فلم نعد نتحمل العطش، وعاد الرفاق فعلاً بالماء، وكذلك ببندقية أحد أفراد النظام القتلى، وبعد أن استطلعنا الوضع، تقرر أن ننزل جميعاً إلى العين (عين الماء- النبع) بسرعة، ثم نرتاح ونأكل ما يتيسر، ونتوجه إلى مكان أكثر أمناً، ولكننا بعد أن شربنا وأكلنا، لم نكن بوضع يسمح لنا في الحركة بسبب التعب الشديد، لذا تقرر أن يبقى بعض رفاق الطريق للحراسة، وينام الباقون. وفي لحظةٍ من اللحظات استيقظت مفزوعاً، ووجدت الرفاق يغطون بالنوم، ماعدا الشهيد البطل أبو هديل كان يحرسنا لوحده، اما بقية رفاقه، فاتخذوا من نقاط متقدمة ككمائن لصد أي هجومٍ محتمل.
طلبت من الرفيق أن أساعده بالحراسة، فقال لي: عد إلى نومك لكي ترتاح وتستعد لمسيرة شاقة، فلا احتاج إلى النوم (متعود على السهر مو مثلكم ...). عدت إلى نومي أتأبط بندقيتي، وعيني ترنو له حتى غفوت. بعد فترة أيقظونا لنتابع المسيرة إلى مكان آمن، فبدأنا بالصعود على جبل (بي خير)، ورغم التعب، وصلنا، وتخندقنا في الأماكن التي تعتبر آمنة. لحظات مرت بعد بزوغ الفجر، وإذا بالطيران الحربي يقوم بتمشيط المنطقة، ويحرق جبل بي خير بالكامل بقنابل النابالم والقنابل العنقودية والصواريخ، فاندلعت النيران في الأشجار، وتصاعدت سحب الدخان، وكنا هناك وسط تلك الحرائق. ولشدة إرهاقنا، كنا لا نستطيع أن نحرك أجسادنا وننتقل الى مكان بعيد عن النيران. تصوروا كان الى جانبي الشهيد (علي قامشلي)، اتفقنا ان نغير مكاننا، لكننا بسبب التعب، وبالرغم من الحرائق وحرارة ذلك النهار الحزيراني، لم نستطع الحركة، وتسمرنا في مكاننا!.
هكذا استقبلنا العراق الذي أحببناه، وعدنا من أجله لتخليصه من المجرمين الطغاة... هذه الساعات الأولى بعد أن وطأت أقدامنا أرض الوطن. كنا محملين بالآمال الجميلة والأحلام الزاهية والوفاء والطيبة والإخلاص. بعد أن هدأت النيران، وتحول الجبل الضخم إلى اللون الأسود بكاملهِ، تحركنا من جديد، ووصلنا إلى الأماكن الآمنة، وبدأت مسيرتنا تنتظم، ووفرت لنا القرى المأكل ومكان المبيت، ولكن بقينا نعاني من التعب والإجهاد، خصوصاً نحن القادمون من حياة الرخاء النسبي، وكثيرة هي الإشكاليات التي مررنا بها، ولا أنسى أحد الرفاق الأبطال الذي كان يحمل سلاحاً ثقيلاً (الرفيق النصير أبو حسنة)، وكنت أتألم له ولن أنسى عطشنا واضطرارنا إلى شرب المياه الوسخة، وما حصل للنصير سامر الذي كان مجهداً جداً، ولا أنسى أسئلتنا المتكررة لرفاق الطريق متى نصل؟، فيجيبون: قريبا جدا!، وكانت هذه الاجابة تزعجنا، لأن هذا القريب جدا، يستغرق ساعات وساعات، وكنا نزعل منهم، لكننا بعد سنوات من تواجدنا في الجبل، أدركنا مغزى جوابهم!!.
بعد سبعة أيام، وصلنا مقر قاطع بهدينان المؤقت، والذي كان في (كلي هصبة- وادي الخيول). هناك، وبعد أن نزعنا أحذيتنا، وجدت كافة أظافر قدمي قد سقطت، وبقيت بلا أظافر، وكنت اعالجها بالمرهم الذي أعطاه لي الطبيب، تجنبا لتلوث الجروح، ولم أكن أنا الوحيد الذي فقد أظافر قدميه، بل عدد اخر من الرفاق.
من هناك بدأت رحلة جديدة، بل رحلات، امتدت سنوات وسنوات بين جبال وطننا الشماء. في السنة التالية 1984، وفي هذا الكلي، فجعت، كما فجع غيري من الرفاق، بكارثة حلت بنا، وهي تعرض رفاق مفرزة الطريق إلى كمين مميت، أدى إلى استشهاد الرفاق الأبطال ((أبو هديل، أبو سحر، أبو جهاد، ناهل، أبو ظفر، وأبو إيمان)). أن خسارة هؤلاء الابطال، لم تكن هينة علينا، خصوصاً نحن من عشنا معهم أياماً صعبة، ولربما من أصعب ما مررنا به في حياتنا... لهم المجد والخلود، فهم عينة أبناء شعبنا الشرفاء، ولهم دينٌ علينا، هو الوفاء لهم، ان نحيي ذكراهم بالكتابة عنهم وعن بطولاتهم. وعلى جمعيات الأنصار في الخارج وداخل الوطن، أن تتذكر مآثرهم البطولية، كما أهيب برفاق الحزب أن يلعبوا دوراً في ذلك، فأنهم نجوم حزبنا المضيئة أبداً.
أود التنويه: أن بعض الرفاق الذين قدموا للوطن مع هذه المفرزة، قد رووا بدمائهم الطاهرة أرض الوطن، واستشهدوا بمعارك مختلفة في كردستان منهم حسبما أتذكر: الشهيد درويش (من أهالي السليمانية)، والشهيد سعيد ره ش (من أهالي البصرة)، والشهيد علي قامشلي، والشهيد ياسين (جماهير أمين الخيون) مواليد 1961 ابن المناضل الشيوعي الشهيد أمين خيون الذي اغتيل في سبعينيات القرن الماضي من قبل النظام الديكتاتوري البعثي.