جامع المدينة
مساء 12/ 11/ 1986، الذي أمضيناه في جامع (هيه لوه)، لم يشبه في تفاصيله وأحداثه، المساءات والأيام التي أمضيناها في جولاتنا المعتادة بين القرى والهضاب، خاصة بعد أن اتفقنا على البقاء في القرية حتى نهار اليوم التالي، مع الاستعداد لكل الاحتمالات، واولها مواجهة قوات السلطة في حال تقدمها. افترشنا بحذر وقلق وتعب، سجاجيد جامع القرية، ملتحفين بالبطانيات التي استعرناها من بيوت القرية التي قدمت لنا اللبن والخبز والشاي وما تيسر من ملح وزاد.
- ما أوصيك بعد، شدوا حيلكم (باجر)، احتمال تفرض علينا مواجهة...
تأملت قليلاً كلمات (أبو أحلام) قائد سريتنا العسكري، وهو يحثني على شد همم رفاق مجموعتنا، والاستعداد للمواجهة، فقلت بشيء من المزاح:
- يعني باجر انصير عسكر، مو كر وفر!...
فهم المعنى، وما اتذكره أن النعاس غلبنا قبل انتهاء الحديث، لكننا تطابقنا في الرأي، بان اهل القرى بحاجة الى قوة المثل (الشجاعة) التي يتمتع بها الانصار، لكي يكونوا مستعدين للدفاع عن بيوتهم.
جدار ترابي
كنت ومجموعة من رفاقي الأنصار من سرية قرجوغ، في دار أحد فلاحي قرية (هيه له وه) المواجه لقرية (جديدة لك) من جهة الشمال الشرقي. اتخذنا من جدار البيت المواجه للأرض السهلية المكشوفة، موقعا دفاعيا، بعد أن فتحنا فيه بواسطة الحراب ثقوبا لاطلاق النار. اشتدت في لحظة معينة، وبشكل هستيري، نيران القذائف والقصف، وهو ما يشي بنية التقدم. كنا نشاهدهم من فتحات الجدران، يهرولون متقدمين صوب مواقعنا. أقلقني الموقف، فهرعت متسلقاً السلم الطيني باتجاه سطح الدار، ومنه بدأت اقاوم، متمترساً خلف سياج السطح. لم تمض دقائق قصيرة على وجودي فوق سطح البيت، حتى وجدت نفسي والجدار الطيني، طائرين في الهواء، بعد أن استهدفتنا قذيفة مدفع. فقدت الرؤية، والتراب ملأ وجهي، ثم استجمعت قواي ونهضت لأجد رفيقي غسان، جاءني مسرعا بماء زمزميته.
ابراهيم (بله)، و سركوت
اشتد وطيس المعركة، وحاصرتنا قوات السلطة من اربع جهات، موجهة نيرانها نحو البيوت. وبحكم مسؤوليتي، ووجوب استمرار التنسيق واستلام الأوامر من قائد وحدتي الأنصارية، الذي حكمت الظروف في تلك اللحظات، ان يكون مسؤولا لجميع القوات، كان علي التنقل بين مجموعتنا ومركز القيادة، فتفطر قلبي لسماع أنين الرفيق ابراهيم، الذي اصيب في بداية المعركة بكاحل ساقه الايسر، اصابة بليغة. كنا نناديه بـ(بله) تصغيراً لأسمه ابراهيم، وهو ممدد في غرفة أحد الدور، التي صارت مكاناً لعلاج جرحانا، والى جانبه الشاب الجميل سركوت، ابن الشهيد القائد الأنصاري خضر كاكيل، الذي كانت جروحه بليغة، وأفقدته القدرة على الكلام بسبب النزف الداخلي.
ربطتني وشائج صداقة رفاقية مع الرفيق ابراهيم، وكان لتعاوننا الأثر الكبير في تذليل الكثير من الصعوبات، خاصة، وأن المهمات المكلفين بها، تحتم علينا التعاون، فهو مسؤول عسكري للفصيل الأول في سرية قرجوغ، وأنا المستشار السياسي. كان ابراهيم يتألم بشدة، لكنه يكظم وجعه، متحملاً ألم خياطة الجروح التي قام بها الدكتور عادل.
مع استمرار القتال، بدأ التفكير بانقاذ الجرحى، والاستعداد لمواجهة مخاطر الانسحاب. كانت المهمة التي كلفني بها آمر السرية صعبة وعسيرة التنفيذ، وهي أن أفتش سريعاً عن حمار بين بيوت القرية لنقل الجرحى. الصعوبة تكمن في ان نيران المعركة، لا تترك فرصة للحمير ولا لاي حيوان ان يبقى مكانه، فالطائرات لم تتوقف عن قذف صواريخها التي دمرت معظم بيوت القرية. هذه القذائف نشاهدها للمرة الأولى، فهي موجهة بأسلاك معدنية، ويمكن ملاحظتها بوضوح عند انفجارها في المكان الذي تسقط فيه، وقد كلفنا ذلك أثماناً كبيرة في استشهاد الرفاق عادل و سمكو و بيشرو.
انسحاب قتالي
بعد ان غابت الشمس، ونفذ القسم الاكبر من العتاد، واشتد التعب والانهاك نتيجة القتال الذي استمر من ساعات الفجر وحتى المساء، لابد من الانسحاب، لكن قوات السلطة والمرتزقة، ظلوا متمترسين في مواقعهم، وعززوها بالطائرات التي قامت بإنزال عدد من المظليين فوق مرتفعات (زركزراو) القريبة من القرية. ومثلما يقولون: (أن للمهمات الصعبة ناسها)، كان انسحابنا من طوق القوات عبارة عن مغامرة جنونية، تاركين قرية (هيه لوه) باتجاه قرية (أودلوك)، يرافقنا الرفيق محسن دشتي، وهو من اهل القرية، ومن كوادر الحزب المعروفة، اضافة الى النصير (زيرك)، الذي يعرف جيدا تضاريس المنطقة، حيث سبق وان كان يرعى ماشيته في مراعيها، كما ان في مفرزتنا عدد من ابناء قرية (هيه لوه)، ومنهم الرفيق سيار الذي ساعدنا كثيراً. لم يكن أمام المفرزة من بديل سوى الاشتباك مع كمائن القوات التي تطوق القرية، ومشاغلتهم بالنيران الكثيفة، لتأمين الانسحاب، وقد جن جنونهم، فهم يخططون لاقتحام القرية، وقتلنا او تأسيرنا جميعا. اثناء الانسحاب اصيب النصير (اسماعيل) بجروح بليغة.
في قرية (أودلوك) استرحنا قليلاً، وكان الجميع قد هدهم التعب والأعياء والألم لفقدان واستشهاد الرفاق، ولكن المصيبة الأكبر كانت في كيفية حل موضوع رفيقينا الجريحين إبراهيم وسركوت. كان المشهد حين توزعنا على عربات عدد من الجرارات الزراعية التي عبرت بنا طريق أربيل- مخمور، يشبه افلام الرعب السينمائية!. عند بزوغ الفجر وصلنا أطراف قرية (دو كه له)، استرحنا بحذر وقلق في مسجدها. في هذه الاثناء استشهد الرفيق سركوت، الذي اخفينا جثمانه في القرية.
شاحنة الأغنام
تبادلنا الافكار في ايجاد الحلول، وقررنا ان نترك قرية (دو كه له) مهما كان الثمن، خاصة بعد ان وصلتنا معلومات، تشير الى ان قوة عسكرية كبيرة بمساندة المرتزقة، سوف تقوم بتطويق المنطقة. الحظ، او الصدفة!، لعبت دورا في تقرير مصيرنا، لقد عثرنا في احد اطراف القرية، على سيارة شحن كبيرة مخصصة لنقل المواشي. شغلنا الطابق الاول من الشاحنة، نشارك بعض الاغنام مكانها، اما الطابق العلوي، فكان مكتظا بالاغنام. جلسنا القرفصاء، محتمين بعدد من الأغنام للتمويه، وبنادقنا جاهزة للرمي، بينما جلس الرفيقان جاسم الحلفي (ابو احلام)، وكانبي كجكه، الى جانب سائق الناقلة، كتاجري أغنام ومواشي، لكنهما في حالة استعداد قتالي. لم يكن أمام السائق من حلول سوى الاذعان لمطلبنا في ايصالنا الى منطقة آمنة، ولم يكن همنا بأي حال من الأحوال أذية السائق أو توريطه في قضية غير محسوبة، لكن الظروف هي التي اجبرتنا على اللجوء الى ناقلته.
فوق طريق أسفلتي على الشارع الرئيسي الواصل بين محافظتي أربيل وكركوك، سارت الشاحنة وسط الربايا العسكرية وسيطرات الجند والمرتزقة، أنفاسنا متوترة، وأصابعنا على الزناد في انتظار ما لا يحمد عقباه. بعد وهلة من الزمن، انعطفت الناقلة عن طريق الاسفلتي، وواصلت سيرها في طريق ترابي وسط حقول وبيوت الفلاحين المتناثرة. في قرية (سه ر به رزا) القريبة من منطقة (بستانه)، طلبنا من السائق التوقف, نزلنا منهكين متعبين بعد خوض غمار تلك الرحلة العجيبة.
ستبقى ملحمة (هيه له وه)، تذكرنا ببسالة وشجاعة وكفاح الأنصار الشيوعيين، ودفاعهم عن مصالح الفلاحين وحقهم في العيش الكريم.
المجد والخلود للشهداء علي نذير (عادل)، سركوت، بشرو، سمكو