عن دار أهوار للنشر والتوزيع صدرت سنة ٢٠٢٣ عمل ادبي ( سيرة ذاتية) او يمكن تسميتها ( أدب السجون)  للكاتب النصير جورج منصور (أبو أمل) طبعة ثانية والطبعة الأولى أصدرتها دار الرواق للنشر والتوزيع.

  من مقتطفات بداية الرواية …

  • قل كلمتك قبل ان تموت فانها ستعرف حتماً، طريقها.  لا يهم ما ستؤول اليه. الاهم هو ان تشغل عاطفة او حزنا او نزوة غاضبة.. ان تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات.ص١١ محمد شكري في روايته ( الخبز الحافي).
  • اولى علامات الشيخوخة ان تتحول من انسان يحلم إلى انسان يتذكر.  أنطوان تشيخوف ص١١.
  • - الحياة ليست ما يعيشه احدنا ، وانما ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه.. غابرييل غارسيا ماركيز-  ص١٣..

   قراءة السيرة الممتعة ( ايفين ، حفر في الذاكرة) قراءة حفر في أغوار النفس الإنسانية المليئة بالقسوة والوداعة، بالحب والكراهة، رواية كشفت من خلال التجربة الشخصية والنضالية بشكل عاري ما يمور في داخل الشخصية الرئيسة في الرواية ( الكاتب للسيرة الذاتية له) الإنسان -المناضل في سبيل حياة افضل واجمل-.

   في مجتمعاتنا الشرقية  المنقسمة في مواقفها، المنقادة بسبب الخوف والاضطهاد الى غطرسة وعسف وعنف  السلطات والحكام، وبنفس الوقت ما يتمناه الانسان و المجتمعات من تطلعات نحو السلام والحريات والكرامة والمحبة والطمأنينة … 

      أجاد النصير جورج منصور  بشكل ذكي وبارع في وضع الصراع والثيمة الادبية العالية في متن الرواية .. اذ ابتدأت حركة الرواية كإمتداد لما عاناه والده وجده ووالدته وجدته- ليقول اننا جميعا امتداد لمن سبقونا بكل شيء وليس فقط بالولادة - وتثبت الحياة ان ( الميت يمسك بالحي ، كما يقول ماركس) وبان البشر بفطرتهم رافضون للغطرسة والقسوة ومحاولات تحطيم الارادة الخيرة وللقيم والمثل الجميلة التي يحملونها .. وضعت الرواية و احداثها المناضل الايجابي في غمرة الحياة .. امام سلطة غاشمة وما هو واضحاً فيها ان موازين القوة والتحطيم له كمياً هي اكبر بما لا يقاس من قدرات المناضل، و الذي أعاد التوازن لروحه كانت في الارادة والوفاء للرفاق والمثل التي اشتغلت في داخله كعوامل منع تحطيم وتكسير الذات.. 

     يستنتج القاريء للرواية في شخصية "جيرمين" تلك المساحة من التفكير في الحرية والوطن والسعادة الذي يحلم  المناضلين لاجل تحقيقها للناس .. نكتشف ان هناك من يمنح المناضل السعادة بنفس المقدار الذي يتمناه  … والطريق الى ذلك هو ما اكتشفه في طريق النضال .. لتلتقي في النهاية تلك الارادة ممزوجة بذلك الحلم الإنساني للمناضل. 

   انتقالات واحداث الرواية عديده وممتعة وتشد القاريء .. ركز فيها المؤلف بدراسة وتروي على اهم الاحداث وبشكل سردي ومتسلسل لا ملل فيها وكل مرحلة تحوي عالماً غريباً وقاسياً احياناً وعالماً انسانياً في مراحل اخرى و تتواصل الانتقالات بشكل عذب ومشوّق رغم المعاناة والالام والعذابات التي تواجه البطل…وهو في سجن ايفين ..

مرحلة البدايات فيها معلومات جيدة عن تاريخ الكنيسة والأديرة وعنكاوا واهاليها … وكذلك مرحلة التعريف بالعائلة والاهل والكدح المستمر لهم لرعاية وتربية الابناء والبنات.. وبعدها مرحلة النضج السياسي والإحساس بالمظالم المرتكبة من قبل السلطات.. والملاحقات المستمرة للشيوعيين والانخراط معهم ونضالهم واعتقالهم وإعدامهم .. ثم مرحلة التحدي والاختفاء والمقاومة للنظام وتوزيع المهام والأدوار وحسب الظروف المحيطة بالجميع .. ثم مرحلة الجبل وتحمل طبيعته ومناخه وتضاريسه وقسوته ثم مرحلة ايران وطهران والسجن الشهير فيها ( ايفين) ثم مرحلة الانعتاق والتفكير في الخاص والذات والزواج وظروف الحرب والقصف الخوف ومعاناة المخاض لولادة الابن ريناد/ت.. ولادة في ظروف شاذة واستثنائية وكانت رمزيتها تكمن في ان الحياة دوما نحو الأفضل وأكثر سعادة مهما كانت الظروف المحيطة بالإنسان …

  ثم تاتي مرحلة الاستقرار في كندا .. ومرحلة الانشغال بهموم الوطن والناس في ظروف اخرى واحوال اخرى .. اهمها في الاولى انهاء الحرب مع ايران ١٩٨٨ وتوجيه ضربة إلى النظام ١٩٩١ وانهزامه من الكويت التي اختلها مستخفاً بالقوانين الدولية ومصالح الدول.. وسقوطه في الثانية في ٢٠٠٣ باجتياح امريكي ودولي للعراق احدثت تغييرا هائلاً في البلد على كل الأصعدة واهمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والاخلاقية والنفسية …. وفي كل هذه الانتقالات كان الانسان وأوضاعه في العراق  فيها يتغير من حال الى حال…

 وصلت الاحداث إلى التاسيس للنظام الجديد ومن ضمن مستلزماته، الاعلام، والبدء في تأسيس قناة "العراقية" ٢٠٠٣، ومن ثم قناة "عشتار" ٢٠٠٧ وتحقق فيهما نجاح نسبي مقارنة بغيرها والسبب كان هو الادارة الاحترافية والنزاهة والمرونة وفهم الاخر دون منغصات وعقد… لكن للأسف لم يدم ذلك لان المجتمع وقواه السياسية لا زالت تعمل بمنطق الريبة السلبية والاستحواذ على ما يمكن استحواذه مهما كانت النتائج من سوء التصرف او التعامل…

  رواية وسيرة ذاتية وعمل ادبي ناجح .. ولغة مشوقة رشيقة سلسة الهضم وغير عسيرة .. كلها عوامل مهمة في جودة العمل …. وقبل هذا كله … الظروف القاسية التي مسّت الكاتب وظروف السجن اللانسانية وخاصة الزنزانات الانفرادية التي تمسخ البشر ..  قوة المباديء والأفكار وجيرمين الخطيبة كانت الدواء والزاد له لمقاومة وحشة وفراغ وعذاب الزنزانة الانفرادية والتعذيب الجسدي والنفسي التي لازم البطل … طيلة فترة الاعتقال.

   تجربة مؤلمة خرج منها الكاتب بنظافة روح واخلاق وسيرة.

  يبقى هناك سؤال مهم، لاحظنا في احداث الرواية تجنب الكاتب ذكر طريقةً ومهام عمله النضالي الحزبي، فقط اشارات بسيطة هنا وهناك، علماً كان السجن والتعذيب سبب ذلك النضال الالتزام والعمل السري، لماذا عدم لم يتم تسليط الضوء على ذلك؟.

اربيل / عينكاوه