وصلت مفرزتنا بقيادة الرفيق أبو وليد إلى القامشلي. بتنا ليلتنا فيها، وفي الصباح توجهنا نحو الحدود السورية التركية. قدمنا جوازاتنا الى شرطة الحدود، وبعد برهة قصيرة، نادى علينا احدهم بأسمائنا الصريحة، التي كانت تعد من الأسرار!، فتحول هذا الموقف المفاجيء الى مناسبة للضحك والمزاح اللطيف فيما بيننا، فنحن لم نكن نعرف بعضنا إلاّ بالاسماء المستعاره (أبو فلان وأبو علان)!.
وصلنا إلى (نصيبين المحاذية للحدود)، حيث موعدنا مع مرشدينا الذين لم يكن يعرفهم سوى مسؤول المفرزة. ذهبنا إلى أحد المطاعم، وفيه علمنا بأن هذه هي آخر وجبة نتناولها في مطعم، وأن بإمكاننا أن نطلب ما نريد وبحرية كاملة. بعد وجبة الطعام، جلسنا في مقهى بجانب المطعم، وشربنا الشاي لاربع مرات.
تأخر دليلنا وهو من حزب كوك (الحزب الديمقراطي الكردستاني التركي) عن الموعد، بسبب خطأ في مكان اللقاء وكلمة السر التي كتبها الرفيق بهاء الدين نوري على ورقة وطلب من مسؤول المفرزة تمزيقها قبل ان نصل الى الحدود، وهذا ما حصل فعلا. المكان كان محل تلفزيونات بالقرب من محل بيع ساعات، لكن الرفيق ابو وليد ذهب الى صاحب محل بيع الساعات وقال له بعد ان ألقى التحية: (يابة الجماعة يسلمون عليك)!، فأندهش صاحب المحل ثم قال لصاحبنا (أخي اذا عندك ساعات تهريب خليني أشوفها)!، فاستدرك صاحبنا الموقف وعرف أن الاشارة خاطئة، وأن أبو الساعات ليس هوالشخص المعني. بعد أخذ ورد إستطاع رفيقنا أن يتخلص منه، وذهب إلى المحل الذي يبيع التلفزيونات، وكرر عليه كلمة السر، فردّ الرجل بالإيجاب مضيفاً أن الشخص الذي تريده سافر إلى أنقرة. هذا الشخص، هو من يصلنا بآخر اسمه محمود الذي يتولى مهمة دخولنا الى كردستان.
عدنا الى المقهى، بعد ان ابدى صاحب محل التلفزيونات وهو احد اعضاء حزب كوك استعداده لمساعدتنا. أثناء جلوسنا في المقهى لاحظ أحد الرفاق، بأننا نلبس زياً موحدا!، وهذا ربما يشكل خطرا على المجاميع التي ستلتحق مستقبلا.
وصل محمود وهو رجل في منتصف الثلاثينيات من العمر وبشارب ثخين ومميز (اغتيل من قبل احد عملاء المخابرات التركية عام 1979، حيث قام حزب كوك في نهاية تشرين الثاني من عام 1979، بحرق بيت مقترف الجريمة). غادرنا نصيبين بسيارتي رينو صفراء اللون وأخرى بيضاء، وفي منتصف الطريق توقفنا، حيث جلب لنا احد الاشخاص بندقية كلاشنكوف من بين المزارع المنتشرة هناك، من أجل حمايتنا. بعد مسيرة ثلاث إلى أربع ساعات باتجاه المكان المحدد، مررنا بمنطقة (أولدره) التي تتكون من مجموعة قرى، ومنها مشينا مسافة قصيرة، ثم التقينا بشخص أسمه درباس من أهالي قرية (بيزي) وسيكون دليلنا في المرحلة القادمة. وضعنا حقائبنا وأمتعتنا على ظهر البغل، وسرنا عبر المناطق الحدودية. أثناء مرورنا بالقرى، كان الناس يقدمون لنا اللبن والخبز والشاي ويسألون الدليل، من هؤلاء وماذا يريدون؟ فيجيبهم: إنهم معلمون في مدارس القرى الحدودية. ان ما يثير فضول الاهالي اكثر، هو الزي الموحد الذي نرتديه حيث البنطلونات والاحذية والقماصل متشابهة تماما، بينما يرتدي السكان اللباس الجبلي.
لم يكن المسير سهلا بالنسبة لنا، خاصة ونحن في ملابسنا المدنية التي لا تصلح للمشي في تلك المناطق. اما دليلنا، فكلما قطعنا مسافة، يشير إلى الحدود العراقية، ويصف لنا القمم الجبلية والوديان، هكذا حتى وصلنا إلى المناطق المحاذية للأراضي العراقية مقابل قرية "مه ركه"، حيث عبرنا نهراً صغيراً عرضه حوالي أربعة أمتار، ويفصل بين الحدود العراقية التركية.
في الجانب التركي من النهر، يمتد سهل أكبر من السهل الذي يمتد في الجانب العراقي، وعلى جانبيه تقع "قرية يك ماله". حين أقتربنا من هذه القرية في الجانب العراقي، أشار الدليل إلى آمر المجموعة: "تلك هي الاراضي العراقية"، وعندما ترجم لنا رفيقنا المسؤول ماقاله الدليل، فرحنا فرحا عميقا، ورحنا نتعانق بحرارة وبمشاعر جياشة لا يمكن وصفها. قبلنا الارض وتعاهدنا على أن نناضل من أجل الحزب والشعب والوطن ومن أجل الحياة السعيدة لأبنائنا.
كل شيء تغير حين وصلنا الى ارض الوطن الذي كان بلوغه أشبه بالمستحيل. حياتنا امتلأت بالأمل، وطموحاتنا تدفعنا نحو عمق الوطن الذي كلما توغلنا في أرضه، استعدنا أرواحنا وأعمارنا المرهونة به. ((هاتوا لي كل ورق العالم وبحراً من المداد وعمراً يكفي كي أصف فقط لحظات العبور تلك. هاتوا لرفاقي الشيوعيين أكثر من ذلك لتروا عجباً. لم يكن أحدهم وهو يطأ أرض الوطن الذي منع من دخوله او مشاهدته، يعرف كيف يتصرف في مثل هكذا موقف: هل يقفز، يبكي، يصرخ، ماذا يفعل؟. إختصروا لنا الوطن في شيء صغير كي نستطيع لمسه أو عناقه، في حجر صغير كي نقبله، في زهرة كي نشمها ونحتضنها، تراب كي ننثره على أجسادنا نتيمم به، نصلي عليه، أي شيء، أي رمز، يا إلهي ماذا يفعل عشاق مثلنا، كان بينهم وبين وطنهم حراب وبنادق ودماء وأجهزة مرعبة وجلادون؟)).
عند تلك السلسلة الجبلية الشامخة المسماة (كوماته)، تقع قرية "يك ماله"، التي معناها بالعربية (البيت الواحد)، لم يبق منها سوى اسمها، لأن أهلها جرى تهجيرهم قسراً إلى أمكنه لا أحد يعرفها، في حين أن "يك ماله" التركية مازال سكانها يعيشون فيها.
دخلنا الوادي العميق والطويل نسبيا. امامنا مسافة تستغرق ساعة كأملة، وتبدأ من "يك ماله" حتى مقرنا على الخابور. سرنا عبر الوادي الضيق جداً بمحاذاة النهر الذي يفصل بين البلدين، ووصلنا إلى المقر، حيث استقبلنا الرفاق الذين سبقونا.
وصلنا في يوم الرابع من تشرين الأول 1979. (لا يمكن أن ننسى مثل هذه التواريخ والأيام). كانت مشاعرنا مفعمة بالشوق والحب وتفاصيل لا يمكن أن نفهمها أو نستطيع تسجيلها، لأننا نعرف بعضنا وتخرجنا من دورة عسكرية واحدة في بيروت.
هذا الموقع إلاستراتيجي الذي يشبه المثلث والحصين للغاية، مرّ به الكثير من المهربين الذين عبروا ويعبرون الحدود بقوة قلب نادرة، فهم لا يحترمون ولا يعترفون بها، فكانوا يمارسون مهنتهم بشكل اعتيادي خاصة في فصل الصيف، أما في الشتاء، حيث الثلوج الكثيفة، فلم يكن المشي في الطرق سهلا، لا للانسان ولا للحيوان.
في هذا المكان المسيج بأشجار الجوز والبلوط، ويمرّ به النهر الصغير الذي سرنا بمحاذاته، ويشرف على وادي طويل ينحدر مع مجرى النهر حتى مصبه في (الخابور)، تقع مقراتنا ومقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان رفاقه قد سبقونا إلى هذه المنطقة، وقدموا لنا مساعدة لا يمكن أن تنسى (سأكتب عن تفاصيل ذلك لاحقا).
المكان الذي كان يأوينا، هو عبارة عن مكتبة لـ (حدك)، غرفة صغيرة واحدة ليس أكثر، "مترين في ثلاثة أمتار"، ينام فيها عدد كبير من الانصار الذين وصلوا على شكل ثلاث مجموعات، وهم: ((المجموعة الاولى: أبو يعقوب، أبو جهاد، أبو علي، أبو داوود، أما المجموعة الثانية فتتكون من الرفاق: أبو حازم، أبو وجدان، أبو شروق، سلام تحياتي، والمجموعة الثالثة: أبو وليد، أبو رضية، أبو ثائر، أبو محمود روست، أبو نضال، أبو غسان))، وكان معنا الرفيق أبو اشوان الذي غادر المقر بعد ان مكث اسبوعا.