طلب اللجوء في ايران / 1
غادرت مفرزتنـا الصغيرة المكونــة من الأنصار ( ابو سوزان، ام سوزان، ابـو حكمت، وابو زينيب ) برفقة دليلنا الرفيق النصير الحاج حمدان الساعدي ( حجي سامي ) ( فصيل بيربينان ) متوجهين الى ايران بعد ظهر يوم 16 / آب / 1986، وبعد عـدة ساعات من السير المتعب في بيئة جبلية صعبة تخللها الكثيــر من العثرات من شدة الحر والأرهــاق وحتى الساعة الثامنة مساء" حيث بـدأ الظلام يخيم على قمم الجبــل واصبح من اللازم قضـاء الليل وسـط الطريق وكـان ذلك بضيافـة احــد الرعـاة الذي نصب خيمته الســوداء المصنوعة من شعر الماعز وسط فسحة صغيرة على قمة احد الجبال وقدم لنا مشكورا" الخبز وجبن الغنم والشاي.
في صباح اليوم التالي 17 / آب / 1986 شكرنا مضيفنا وبدأت مسيرتنا من جديد نحو الحدود الأيرانية والتي دامت اكثــر من عشـر سـاعات متواصلة في مسيرة متعبة وسـط قصف مدفعي عراقـي متقطع حتى وصلنا بعـد غروب الشمس الى موقع يعتبر آخـر نقطـة حدود عراقية عندئـذ ودعنـا الرفاق ( حاجي سامي وابو زينب ) عائدين الى ( فصيل بيربينان ) أما ابو حكمت ومنذ مغادرتنـا فصيل بيربينان وطول الطريق وحتى وصولنا لم يتكلم بكلمة واحدة مع الجميع وغادر دون ان يقول حتى كلمة وداع!!!! .
انها دقائق صعبة على المرء عندما يغادر وطنه مجبرا" ويطلب اللجوء في بلد آخر لا يقل دكتاتورية عن بلده فالصورة التي امامنا قاتمة والمستقبل المجهول ينتظرنا وحالنا يقول....
في يوم الوداع
ركبنا سفينة الرحيل
من فوق الرمال
على شاطئ النهر
نرفع ايدينا بالوداع
والدموع تجرح خدينا
نجففها بمنديل الانتظار
بعد توصية حاجي سامي توجه الينا احد الأخوة الكرد ليرشدنا الى خيمة صغيرة وسط الموقع للراحة ولتناول قليل من الخبز واللبن ولنقضي فيها ليلة رعب وسط قذائف المدفعية العراقية التي بدأت تتساقط على الموقع وبالقرب من خيمتنا، وفي تلك الدقائق العصيبة ونحن بين الحياة والموت جرني الحديث مع ام سوزان الى موضوع الشهادة، فلا احد يعرف اين نحن الآن! وما هي ظروفنا، وهل يحالفنا الحظ بالنجاة من القصف هذه الليلة أم لا ؟ وعلينا الآن ان نواجه الخوف والرعب كما واجهناه سابقاً ونعيد على انفسنا ما تعلمناه في حياتنا، لقد قالوا لنا ليس شجاعا" من يتألم أو يصرخ من الألم، فالشجاع من يموت بلا صراخ، لأن جسد المناضل خالي من المشاعر الأنسانية ومعبا" بالمبادئ.... يا ترى هل هذا صحيح؟ وهل تنطبق هذه الأمور علينا هذه الليلة وسط القصف؟.
وفي تلك الدقائـق ظهر على وجه رفيقتي وحبيبتي ام ســوزان التي شاركتني الحيــاة الصعبــة طيلة سنين طويلة من العذاب بانَ عليها الغضب والأنفعال بسبب معاناتنا الحالية ومن المسبب فيها فحاولت ان أغير الموضوع وننسى القلق وأن نتحدث عن الحب والغزل ولا ادري كيف طرأت على بالي هذه الفكرة واسميتها ( حب على الحدود داخل خيمة ) وسط الضحك المتواصل لكلينا وقلت لرفيقتي وحبيبتي ام سوزان.....
( أغار عليكِ يا حبيبتي من أحلامي، مِن لهفتي واشتياقي، ومن خفقات قلبي، علّمتيني الشّوق والحبّ، أتمنّى أن أكون نجمة في ســماك، همسة في شــفاك، شــمعة في مساك، أشتاق لك وارتاح معك، وإن غبتِ أشتاق لك، فأنتِ جديرة بهذا الحب ). فعلقت ام سوزان بقولها ... ( هاي منين جبتها ومن الذي علمك الحب والشعر وانت تحمل سلاح )، عندئذ استسلمنا للقدر وسط ضحكاتنا العالية.
في التاسعة من صباح 18 / آب / 1986 جاء من يرشدنا للتوجه الى نقطــة الحـــدود الأيرانية القريبـــة لغرض طلب اللجوء رسميا" في ايران، وبعد اجراءات رسمية تكفل بهـا الجنــدي الأيراني الذي يفترش الأرض في غرفـــة طينيــة وطلب منا الجلـوس أرضا" وتــم تسجيل اســـمائنا ثم طلب لنـا الفطــور المكون من رغيف من الخبــز وقليـل من اللبـن وقــدح من الشاي وبـدأ يقوم بعـدة اتصالات لاســلكية لم نفهـم منهـا شـيئا" ثم تم نقلنـا الـى موقـع ( أخّريتة ) القريب وهو موقع متقــدم للحزب الديمقراطي الكردستاني ( حدك ).
اليوم هو رابع ايام عيد الأضحى، استقبلنا احد قادة الموقع بلغته العربية بترحاب وقدم لنا التهاني بالعيد مع ( كليجة العيد ) وقدح من الشاي وتمنى لنا النجاح في مسعانا مستقبلا" داخل ايران ثم تم توديعنا برفقة احد الشباب بسيارة جيب عسكريـة وسـط قذائف المدفعيــة العراقية التي بدأت تتساقـط حــولنـا بينما يقـوم السائق بسياقة جنونيـة يميناً ويساراً لتفـادي القـذائــف المتساقطــة بالقرب منا.
مرت أكثــر من ساعتين قبــل ان نصــل الى مدينة ( اشنوية ) الحدوديــة وهي مدينة في کردستان إيـران وتوجهنا مباشرة الى احدى الشقق الفارغة لغرض الراحة والأستحمام لما علق بنا من اتربة وأوساخ طيلة الأيـام الماضيـة ولتغييـر ملابسنا بمـا يناسب الزي الأسلامي ولتنــاول طعـام الغـداء ولنقضي بقيـة اليـوم والمبيت فيها حتى صباح اليوم التالي 19 / من آب / 1986 حيث غادرنا ( اشنوية ) متوجهين الى ( محافظة أرومية ) التي تبعد مسافة 75 كم عن ( اشنوية ) وفي طرينا كنــا نشاهد آثار القصف المدفعي والدمار في كل مكان،
لقد كنا نعتقد اننا من أوائل اللاجئين الذين سوف يدخلون مبنى المحافظة طالبين اللجوء وستكون مسألة لجوئنا سهلة وسريعة ولكن خاب ظننا فوجدنا العكس فعنــد دخولنا فوجئنا بوجود مئات اللاجئين العراقيين كانــوا قد ســبقونـا اليهـا، رجــال، نسـاء، شـيوخ وأطفــال من مختلف الأعمـار وغالبيتهــم من الأخــوة الكــرد وحتى بعض المعوقيــن غيـــر القادرين على السير، دخلــوا أيران من منافذ حدودية عدة طالبين اللجوء فيها هربا" من النظام الدكتاتوري والأبادة والأنفال وهم يحلمون بالوصول الى اي بلد اوربي كلاجئيين.
درجة الحــرارة لهـذا اليوم تجـاوزت الأربعين مئوي، الصالة الداخليـة لمبنى المحافظـة لا تتسع لهـذا العـــدد من اللاجئين، البعض منهم افترش الأرض مع عائلته داخــل المبنى ودخل في نوم عميق، آخرون يقفون أمام المبنى تحت رقابـة حرس الثــورة الأيرانية وهم يضعــون الجرائــد فـوق رؤوسهم لحمايته من الشمس الحارقة، طوابير من اللاجئين يقفون داخل المبنى امام ابواب غرف عديــدة لا نعرف ما خلفها وكيف تجرى الأمــور، نسي البعض انهم لاجئيــن وبـدأوا يتدافعـون للحصول على مواقـع متقدمـة في الطابــور، الوضع النفسي والأنفعال والتوتر بدأ يظهر على وجوهنا وسط بكاء الأطفال بسبب الحرارة العالية وانعدام الخدمات، مر الوقت العصيب ببطئ حتى أدركنــا وعن بعــد ووسط هــذا الهرج الذي يسود الصالة واللغــات العديــدة التي نسمعهــا ماذا يجـري في داخل الغــرف، فهناك تفاوت كبير في الوضع الأقتصادي والثقافي والأدراك السياسي لللاجئين، فهناك من لا يملك شيئا" غير البدلة التي يبلسها من امثالنا نحـن الأنصار القادميــن من كردستان وآخرين حملوا على ظهورهم حقائب كبيرة تحتوي على بعض ما يملكون من ملابس مع مئات الألاف من الدنانير والدولارات والبعض منهـم فضل وضعهـــا في أكياس الحنطـة ( الكواني ) محمولة على ظهور الحمير وتوقفت امام المحافظة وأملهم الوحيـد السفر كلاجئين الى أحـــدى الدول الأوربيــة عبر أيـران، نساء يحملـن معهـن عـدة كيلــوات من المصوغات الذهبيـة في حقائب مختلفة الأحجـام ويعرضن ما يملكـن بين الحين والآخـر على معارفهـن من النساء وهــن فخـورات بـذلك، أناس بسطاء، مرضى غالبيتهم من الأخوة الكرد جلبوا معهم بعض آثاث بيوتهم، افرشة كاملة للنوم، بطانيات قــذرة، مدافئ نفطية صدئة، قناني الغـاز، صفائـح النفـط وحتى الطباخات الغازيـة وادوات طبخ كاملــة وكأنهم في ســفرة سياحية عائلية غير مصدقين ما نراه أمامنا، أنهــا مأســاة حقيقيـة لهــذه الجموع التي لا تعرف مصيرهـا ومعنى اللجــوء الذي ينشدونه، وهنا تتجسد معاناة الشعب العراقي ومحنته مع الدكتاتورية .
تقدم ألينا الشاب الذي رافقنا من ( اخريتة ) الى مدينة ( أشنوية ) وهو يبتسم متعاطفا" معنا ويبدو انه أدرك اننا نختلف عن الآخرين ولا نستطيع ان ندبر امرنا وسط هذه الزحمة، دخل أحدى الغرف وبعد قليل عاد ومعه ورقة صغيرة دون فيها رقم ناولها لنا واخبرنا انهم سينادون علينا بهذا الرقم ويجب علينا الأنتظار وغادرنا مودعا".
بعد أكثر من ساعة سمعنا من ينادينـا، دخلنا أحـــدى الغرف ذات الأثاث البسيطة، كان موظف مدني واحـد قـدم لنا التحية وطلب منـا الجلوس وان نزوده بما نملك من الوثائق الرسمية وأي ممتلكات شخصية نحملها، ودوّن كل شئ في السجل الموجود أمامه وسلّمنا وصل أمانة بكل ما تسلمه منا مؤكدا" أن كل شئ سيعاد لنا وفق هذا الوصل عندما تنتهي التحقيقات ونغادر أيران.
مرت ساعات طويلة قبـل ان ينتهي الجميع من تسجيـل أسمائهـم وايـداع ما يملكـون في خزينـة المحافظة واستمر هذا الحال حتى الساعـة الثامنة ليلا" ونحـن نجهل وجهتنـا التاليـة، عندئـــذ توقفت أمام مبنى المحافظة اربعة باصات نقل كبيرة وطلب من الجميع وتحت الحراسة ركوب الباصات والركون الى الهدوء فمعسكر ( خوي ) هو وجهتنا التالية.
يتبع في الجزء الثاني