الجبال معاقل الثوار
نبيل يونس دمان
حقوق الطبع محفوظة
2015
( 1)
في بيئة ريفية كانت ولادتي، وعلى سجية اهل القرى الجبلية، تعرفت على ما يحيط بي، فاكتشفت يوما بعد يوم اسرار الطبيعة ومفاتنها وكذلك محذوراتها، الى ان شبّ طوقي، وكان حظي سعيدا ً عندما اقبلت على التعليم بنهم، وواصلته حتى نهايته الممكنة.
في السبعينات عشت في نينوى تلك المدينة العظيمة طالبا ً جامعيا ً، فتفتحت مداركي اكثر وتعلمت واغترفت من ذلك المجتمع المصغر. تعرفت على تاريخ تلك المدينة وآثارها التي تعتبر فخر البشرية: من الثور المجنح، بوابة أدد، قصر سنحاريب، باب الشمس، باب البيض، تل قوينجق وغيرهما، وتعرفت ايضا على شرائح ومكونات شعبها، سليل حضارة ما بين النهرين العريقة. كيف سأشق طريقي، انا المولود في تلك التربة، والطريق محاط بالاخطار والمفاجئات.
كانت نشأتي في الجامعة سياسية، اقارن الامور التي تصادفني على اساس التشابه والاختلاف، اراقب الاحداث فيزداد وعيي بالتدريج، اطالع ما توفر امامي من الصحف والمجلات، فقد كنت احب المطالعة، ايام دراستي المتوسطة والثانوية، ويعرفني اصحاب مكتبات بلدتي الخاصة، حيث لم تكن فيها مكتبة عامة، ورغم ذلك فان اهلها يطالعون كثيرا، ويتميز كل سنة عدد منهم، في تفوقهم الدراسي بفرعيه العلمي والادبي، ليواصلوا دراساتهم العليا.
في فترة السبعينات كانت هناك العديد من المتغيرات في بلدي، فقد شهد صعود سريع لحزب البعث المتعطش للسلطة، وبطريقة الانقلاب والتآمر، اي الغاية تبرر الوسيلة، ذلك الحزب المولود من البذرة العنصرية، والمنتقلة من دولة مجاورة. شهد البلد ايضا تزايد ثروته النفطية جراء تأميم النفط عام 1972، مما اغرى السلطة الحاكمة بالمزيد من السيطرة، والتصرف بتلك الثروة لديمومة حكمها وتحوله تدريجيا الى دكتاتورية مقيتة، ابتلى بها الوطن والمنطقة والعالم بأسره.
مبكرا وقبل مجيء حزب البعث الى دست الحكم وجدت نفسي رافضا للسلطات الاسبق، واتذكر عندما كنت طفلا ً مآسي بلدتي، والحملات العسكرية الشديدة عليها، من قبل نفس الحزب الذي حكم بالحديد والنار عام 1963. اذن لم اكن اقبله او استسيغه، ووجدت نفسي معارضا له، ان لم اقل معاديا في تلك الفترة . كنت أرى في كل ممارسات السلطة ، انها لا تخدم الشعب، ولا تسعى بإخلاص لتطوير البلاد، بل لاحكام السيطرة ، وإنهاء اي روح للمقاومة او المعارضة الديمقراطية.
في العمل الطلابي كان يحرم على اي اتحاد يمارس نشاطا، بإستثناء الأتحاد التابع للسلطة، المسمى( الاتحاد الوطني لطلبة العراق) . وبالتالي كل الانشطة الفكرية والادبية والفنية والسياسية في الجامعة، كانت تقتصر عليه وهو التابع الذليل لحزب السلطة الشوفيني، والمدعي بالعروبة كذبا.
خلال تلك الفترة تعرضت الى استفزازات عديدة ومن اعتداءات نفسية وجسدية، حاولوا ثنيي عن عزمي في مواصلة النضال، لكنهم عجزوا، فكلما تعرضت اكثر للاضطهاد، كلما ازددت رسوخا في مواقفي، اذ لم اتصور نفسي أبدا، خارج النهج الذي رسمته لحياتي المقبلة. كنت ارفض محاولات كسبي الى منظمات السلطة، وارفض التوقيع على اوراق معدة خصيصا باسلوب مخابراتي، للكشف عن تنظيمي، او لتاييد حزب السلطة، او اتحادها الطلابي البوليسي.
سافرت مرتين الى خارج الوطن، الى تركيا، بلغاريا، هنغاريا، وجيكسلوفاكيا، في عامي 1978 و 1980، والتقيت بالعديد من رفاقي واصدقائي المعارضين للسلطة، ولاول مرة في حياتي اشهد نمط حياة مختلف، فقد بهرتني تلك البلدان في نظامها، ورقيها النسبي قياسا بالازمات التي يعانيها مجتمعي، والقمع الشديد لحقوق الانسان فيه، فلا قيمة له في بلده، مهما بلغ من منزلة علمية وادبية، ان لم يكن يدور في فلك السلطة الدكتاتورية الحاكمة.
في خريف 1978 اشتدت حملة قمع المعارضة العراقية وتصفيتها، وقد مورست اساليب متنوعة لاجبار المناضل للتخلي عن فكره ونهجه السياسي، ومن ثم ايقاعه في حبائل حزب السلطة، فاذا ابدى مقاومة او رفض يكون مصيره السجن والتعذيب الشديد، بدون اي تطبيق للقانون الذي شهد بعض التطور في العراق، ولكن عند مجيء صدام حسين للسلطة مسخ تلك القوانين وغيرها، وهو الذي قال يوما( القانون ما هو الا ورقة بيد صدام حسين يغيرها متى ما شاء) ، وقبل ذلك كنت قد عينت في ابعد نقطة بالعراق بمحاذاة الحدود مع تركيا، وشهدت عام 1979 ترحيل قرى الشريط الحدودي وتخريبها وتفجير كنائسها ومساجدها، وجُهزت لهذا الغرض مجمعات بشرية قسرية، بناها مقاولون منتفعون من رؤساء عشائر المنطقة.
في تلك المنطقة منحتني الايام فرصة المرور في بلدة بارزان، معقل الابطال وعرين الاسود، تنام وديعة امام جبل شيرين المتاخم للحدود التركية، ويهدر تحتها مترنما نهر الزاب الكبير. بارزان اسم ذائع الصيت، يكفي ذكره ان يدخل الرعب في قلوب الطغاة واعداء الشعوب، وقد كانت على الدوام تقف ببسالة، كالجبال الشمّاء في وجه هؤلاء على مر عقود من السنين، لتسجل لنفسها اشرف سجل لأنبل قضية . يذكر تاريخ عائلة الاب (عمون) بان كهنة بارزان جاءوا الى القوش في العقد الاخير من القرن الثامن عشر لابداء الولاء لخط روما الكاثوليكي، المتكون حديثا ً فيها ، بقيادة البطريرك مار يوحنان هرمز، وقد كانت قائمة في بارزان حتى عام 1809 كنيستان هما مريم العذراء، ومار كوركيس، وآخر من ادار شؤونها الروحية هو القس يعقوب بن كانون. ويذكر التاريخ السرياني ايضا عن شاعر اسمه داود قرداحي المولود في بارزان، عاش في القرن التاسع عشر، وتنقل بين عدة قرى في تلك المنطقة، واشهر قصيدة له، هي قصة آدم وحواء، مؤلفة من 67 بيتا ً باللغة الارامية.
امام قصر الشيخ احمد- بارزان عام 1980
في اماكن متفرقة من كردستان، قامت تكايا دينية على طريقة التصوف القادرية او النقشبندية، كما في بامرني و بيرفكان وبرزنجة وغيرهما، اما تكية بارزان فكانت على الطريقة النقشبندية، ونشات في القرن التاسع عشر على يد تاج الدين حفيد احد امراء العمادية. ثار اشقاء الملا مصطفى، احفاد الشيخ تاج الدين ضد الاوضاع القائمة، منذ انتشرت عوامل الضعف في مفاصل الدولة العثمانية، وذلك في اوائل القرن العشرين فعندما طاردت جيوشها الشيخ عبدالسلام البارزاني، التجأ عام 1907 الى جيرانه الاشوريين في حكاري، فلقي الاحترام والحماية من قبل القبائل الاشورية المستقلة، وعلى راسها زعيمهم الديني والدنيوي البطريرك مار شمعون بنيامين. في النهاية وقع الشيخ بيد ولاة الموصل فاعدم فيها عام 1941. بقدر ما كانت الولايات المختلفة تثور ضد الحكم العثماني، ويحدث عصيان في منطقة القبائل العربية اوالكردية او الاشورية، لم تكن بارزان استثناءاً بل كانت في طليعة من يهب من اجل المطالب العادلة. تجلى نضال البارزانيين من اجل تحقيق تلك المطالب بقيادة الشيخ احمد، خصوصا ضد الانكليز الذين احتلوا العراق، وفرضوا عليه المعاهدات الجائرة، ففي الجنوب كانت ثورة العشرين وفي الشمال كانت حركة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية. في اعقاب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، اجتاحت العالم موجة نهوض شعبية ، فكانت حركة الاكراد بقيادة مصطفى البارزاني عام 1945، وحين فشلها لجأ الى ايران ليشارك في جمهورية مهاباد الكردية عام 1946، بقيادة القاضي محمد ، وعند انهيارها انسحب البارزاني ومقاتلوه، الى داخل الاراضي السوفيتية في عام 1947. خلال العقود الماضية كانت ثورة ايلول التحررية الكردية، وما اعقبها من نضالات ، وقد سفكت دماء قانية على مذبح الحرية، ورغم التضحيات، ظلت ثورة ايلول تعبر عن آمال الشعب العراقي عامة، والشعب الكردي خاصة. تلك هي مآثر البارزانيين، التي لا يمكن ونحن بصددها، إلا ذكر ما قدمته مدينتهم من شهداء، وتدمير لمرات عديدة ولاجيال متعاقبة، على ايدي حكومات متتالية، حتى تراجعت جميعها خجلى، امام صمود وعظمة الانسان، في تلك البيئة النائية من وطني، الذي اعاد بناء تلك البلدة والقرى المحيطة بها، بمنآى عن السلطة المركزية مؤخراً.
لبلدة بارزان طبيعة ساحرة وجميلة، والذي قدر لي ان اراها في عام 1980 وانا مهندس في الطريق اليها من العمادية. مناظر خلابة تنتظرك وانت تجتاز نهر( ريشين) الذي يخرج هادرا من وادي( بالندة) المؤدي الى منطقة( نيروي وريكان) صوب بارزان التي لا يستطيع القادم اليها ان يميزها، من كثافة الغابات المحيطة بها، ولرب سائل يسأل: لماذا تنفرد بارزان بتلك الميزة، فياتي الجواب من كل كردي تصادفه، ليخبرك بان البارزاني الخالد قد حرم قطع الاشجار، وقتل الحيوانات، وصيد الطيور، ووضع نظاما صارما لذلك، فاصبحت من المقدسات عند الاكراد. كنت ادخل بارزان من جهتها الشمالية الغربية ومن موقع يشرف على منظر قصورها الجميل، أمعن النظر فيها ، وهي خالية من سكانها ، فتسيح من مآقي الدموع ..... امام قصر الشيخ احمد وقفت مبهوراً، وهو مكان يجلـّه الاكراد، وفيما مضى كان ديوانه الواسع، يعج بالزوار والاتباع والمريدين. اصبحت تلك الاماكن التي جلس فيها واستراح امامها الشيخ احمد شبه مقدسة، وشهدت بنفسي كيف امتنع سواق المكائن الثقيلة عن قطع شجرة وارفة وقعت في منتصف الطريق الجديد، لان الشيخ في جولاته كان يستريح تحتها ويؤدي الصلاة ! . في الجانب الشرقي للبلدة كان قصر اسمنتي منيف، فيه موقف للسيارات وملحق للخدمة والضيافة ، ذلك هو قصر الملا مصطفى. بعد بارزان تاتي قرية( بله) المطلة على نهر الزاب ، وكانت في فترة ما مركز قضاء الزيبار، وانشا فيها مدرج لهبوط الطائرات. انذاك كان قطع نهر الزاب يتم بعبّارة، لترتقي جبل بيرس الشاهق، وينحدر الى ناحية( دينارته) وفي اطراف الزاب منطقة الزيبار حيث تقع قرية( بيرة كبره ) وهي مركز زعامة الزيباريين. امام تلك القرية نصب الاكراد عام 1919 كمينا مشتركا من البارزانيين والسورجيين والزيباريين لحاكم الموصل العسكري البريطاني ومساعده، فاردوهم قتلى. لا تنتهي حكايات البطولة والجمال عند حدود هذا الوصف لبارزان، بل ستكون محفزا لاكثر واشمل واعظم لمتتبعي تاريخ وجغرافية، تلك البلدة الرائعة من بلاد ما بين النهرين.
قبل ان ينتهي عام 1978 استدعيت وكل زملائي في الدائرة التي اعمل فيها، من قبل مدير الدائرة المهندس عادل صديق ، اتذكر كيف دخل قبلي المهندس علاء عبد الجبار( من بغداد) لا ادري لماذا شعرت بالميل الى صداقته والثقة به، منذ تنسيبي للعمل في دهوك ولقاء به في الدائرة وفي مشروع طريق( دهوك– عمادية) الذي كان يعمل فيه، فسالت ذلك الفتى الضعيف الاسمر، ذو الشعر الطويل المسترسل قليلا ً، بعد خروجه من غرفة المدير، عن ماهية الاستجواب ، فقال " يطلب الانتماء الى حزب البعث" فقلت" وهل وافقت" فاجاب بالنفي، واسمعني الحجة التي ساقها، مما شجعني على الدخول الى المدير التركماني الذي وجه الي سؤالاً: ان كنت منتميا الى حزب معارض ، فكانت الاجابة بالنفي، فطلب مني الانتماء الى حزب السلطة فرفضت، فقدم لي ورقة لاسجل فيها مبررات امتناعي عن الانتماء الى حزب السلطة، فسجلت فيها ما نصه( لا ارغب في العمل السياسي لاني صاحب عائلة كبيرة) وقد ساعدتني تلك الورقة او ما اطلق عليها في حينها(بالتعهد)، لاستحصال جواز السفر وبواسطته استطعت الوصول الى بلغاريا، ولالتقي فيها بالعديد من رفاقي واصدقائي، وعدت في اوائل 1979 لاواصل عملي الفني في دائرة الطرق، والى حد ما العمل السياسي وبسرية بالغة.
عند استمرار الحملة على الديمقراطيين في مجرى عام 1979، ابلغني المهندس الصديق علاء عبد الجبار ، بتكرر السؤال عني في نقاط التفتيش الحكومية، وكان يجيبهم بان المهندس المذكور لا يعرفه ، إذ ربما يعمل في مشاريع طرق نينوى، لابعاد الشبهات عني، في تلك الفترة ايضا وفي حدود شهر حزيران، ابلغني بان قريب له مطارد من السلطة ، وسالني ان كان بالامكان ايجاد عمل له في المشروع الذي انا فيه(عمادية- بالندة – قادرية) ، فوافقت على الفور. بعد فترة قصيرة تعرفت عليه، وكان اسمه عدنان حسين، شاب اسمر ملوّح بشمس الجنوب، اسود الشعر، متوسط الطول، ممتلئ حيوية ونشاط، متفائل مع الايام رغم تعقدها وصعوبتها. اصطحبته معي بسيارتي الحكومية بعد صدور امر تعيينه في مشاريع (بالندة ) ، اوصاني ان اقول لمنتسبي المشروع بانهمدرس لغة انكليزية، لم يكن راتبه الحكومي يكفيه، فاضطر لترك وظيفته والعمل في الطرق. وصارحني القول بانه صحفي في جريدة( طريق الشعب) غادرها بعد حصار السلطة ومراقبتها الشديدة لها. نسبت عدنان للعمل مع المهندس البنغلاديشي" ديوان شمس العارفين" المسؤول عن ادامة السيارات والمكائن الثقيلة، فأخذ يساعده في مسك سجلات وترتيب بطاقات الادامة والصيانة، لمئات الآليات في المشروع.
عبر لي يوما عن نيته ترك المبيت في مخيم المشروع، الذي توطدت علاقته مع العمال ذوو المهارة والكفاءة الفنية، منهم: اللحام محمد الموصلي، والكهربائي كريم تومي والميكانيكي تيلي علي، وغيرهم، والسكن في احد المجمعات المحيطة لاصطحاب عائلته، وهكذا سكن في مجمع( شيلادزي) ، وكنت دائما أزوره في اماكن متفرقة من خطوط العمل، لتبادل الاخبار والتكلم بالسياسة. في 29- 6- 1979 خطبت فتاة( زوجتي الحالية ) من سكنة مدينة الموصل ، وسمع عدنان بالخبر الذي سرّه، وقرر زيارتي في بيتنا للتنهئة في احدى عطل نهاية الاسبوع ، وبصحبته الامرأة التي تسكن معه، فباتوا عندنا ليلتين، قبل ان يرجعوا الى شيلادزي. بعد مدة ابلغني عدنان بانه وفـّق في ايجاد طريق الى خارج الوطن، وهكذا ترك العمل دون اخبار احد غيري، فودعته بحرارة، وفي اليام اللاحقة اصدرنا امراً بفصله من المشروع. بعد سنوات تركت العراق بدوري، وكم كانت مفاجأتي وفرحي في آن ، ان التقي به في دمشق عام 1983، ثم ثانية في دمشق وهذه المرة مع عائلته وولده عمر وابنته فرح في عام 1987 ، واخر لقاء معه كان في برلين عام 1990 في مؤتمر اتحاد الادباء والكتاب الديمقراطيين العراقيين. والان لازالت اتصالاتي معه مستمرة، حيث يعمل صحفيا مرموقا في جريدة( الشرق الاوسط) التي تصدر في لندن.
انتظمت مع عدد من الاصدقاء في بلدتي، كنا اربعة اصدقاء، باسل، حكمت، عبد، وكاتب هذه السطور، تجمعنا عقيدة واحدة وهدف واحد، في الاسهام كلٌ بدوره، وبالامكانيات المتاحة في وضع حد للظلم والاستغلال والحيف والتمايز في مجتمعنا العراقي. في سبيل المثل السامية اختط الاربعة طريقهم في المجتمع، فدخلوا المدارس وتشبعوا بالمعرفة العلمية وبدروس الحياة ، فتاهل حكمت مدرسا قديرا ً في الفيزياء، ووصل باسل الى المرحلة الاخيرة في الجامعة، وعبد حمل رسالة المعلم في ارياف الوطن وانا اصبحت مهندساً ميكانيكياً. في مجرى حياتنا في بلدتنا وفي المدارس والجامعات تعمق حقدنا على اعداء الشعب من مغتصبي حقوقه، وتفتحت اعيننا على الجرائم التي يقترفها نظام يحكم وطننا ويسوم اهلنا العذاب، فلم تطاوعنا ضمائرنا ان نكون متفرجين، بل شرعنا بمعارضة النظام من فترات مبكرة.
وشهدنا فترة تنامي ثروات البلاد، وكيف اسرفها النظام على اجهزته القمعية وترسانته العسكرية، وبطانته من سارقي خيرات الشعب، ثم شهدنا ايضا توجهه المحموم، لاخلاء الساحة ممّن تبقى من المعارضين، والاصوات الشريفة الداعية، للديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
هكذا شن النظام هجومه على اصحاب الآراء المعارضة، وبلغ الهجوم اوجه في خريف 1978 وبداية 1979، وتعرض الكثير للمطاردة والمضايقة والسجن والتعذيب. ولاستعن بما تسعفه ذاكرتي لما حل بنا نحن الاصدقاء الاربعة، منذ تلك السنوات العجاف ، وفاء لتلك المسيرة الشاقة، ودرسا قد يفيد الاجيال المقبلة.
توارى باسل عن انظار اجهزة القمع لعدة شهور، وتحمل الاختفاء والعيش في الزوايا المظلمة، ولم ير بد من المراوغة والضحك على ذقون الشرطة كما يقال، فرجع الى جامعته في الموصل، بعد ان انتزعت منه ورقة تعهد بالتوقف عن مزاولة اي نشاط سياسي، كان ابيّاً لم يأبه بالعواقب الخطيرة، ولم يعر للتعهد المزعوم اهتماماً، فشمّر ساعديه للعمل اللاحق، واخذ يلتقي باصدقائه القدامى ويعيد الثقة المتبادلة، ويتفق الاربعة على المضي قدما في طريق مقارعة النظام بكل السبل رغم ما يحيط الطريق من مخاطر ومتاعب جسام . اقتيد حكمت وهو معصوب العينين في ساعة متاخرة من ليلة قارسة البرد، من مدينة العمادية التي كان يعمل فيها مدرساً، الى احد افواج الجيش في( بيباد) ، وهناك انتزعت منه ورقة التعهد سيئة الصيت. شرعنا نحن الاصدقاء الاربعة ، بعقد لقاءات دورية نعبر فيها عن حنينا للماضي، والى شوقنا للنضال في سبيل المثل التي آمنا بها، وجددنا حقدنا على النظام الحاكم، وخاصة بعد وصول نشرات المعارضة في منتصف 1979، وكم كانت فرحتنا عظيمة بوصول صوت المناضلين الينا، وخصوصا المانشيت( من اجل انهاء النظام الدكتاتوري). توالت الاخبار والنشرات واخبار الكفاح المسلح الذي زاد من رسوخنا وثباتنا، فتشعب عملنا ليتجاوز مدينتا الى مناطق اخرى.
مع الصديق حكمت كيكا تومي في جامعة الموصل عام 1975
في نفس العام التقيت في الموصل مصادفة، بصديق اسمه حسن السماوي تخرج مدرسا ً عام 1974، كان متنكرا يحوم حول موقف باصات القوش قرب البلدية، تشجعت لاذهب واتكلم معه، ومبعث ترددي كان شراء الاجهزة الامنية للعديد من العناصر التقدمية للايقاع بالآخرين، ولكوني لست مختفيا عن الانظار، ذهبت اليه ورحبت به ، فاختصر الكلام بالطلب ابلاغ باسل الصفار بوجوده في الموصل، وانه ينتظره في المكان الفلاني( شقة عدي ابن خالة د.مزاحم مبارك مال الله). عندما وصلت القوش ذهبت اخبر باسل بالموضوع، فتحرك بسرعة، وفي الاتجاه الصائب ليصل رفيقنا حسن بعد مدة بسلام، ملتحقا ً بمواقع الانصار في كردستان.
في بداية 1980 ضاق باسل ذرعاً بالاوضاع القائمة، واعتبر ما يقوم به قليلاً وعليه ان يقدم اكثر، فاسرع بحمل السلاح والالتحاق بفصائل الانصار المنتشرة في جبال كردستان العراق، فكان موضع ترحيب واعتزاز رفاقه ومضى في تنفيذ المهام الموكولة اليه، وبذل الجهود وفوق ما يتحمل جسده الذي لحقه الاذى، فاضطر لمغادرة الوطن للعلاج. وودع من هم حوله بلحظات مؤثرة ذارفاً الدموع وملتفتاً الى ارض الوطن التي يغادرها على امل العودة بعد الشفاء. انتقل باسل من دولة الى اخرى ومن مستشفى الى آخر وتعقدت حالته الصحية اكثر فاكثر، وجسمه لم يعد يقوى على حمله. تكلست فقراته ووهنت اطرافه وهو في ريعان الشباب متحملا آلامه وعذاباته، متشبثاً بقوة الاستمرار والحياة التي وهبها صحته في سبيل حرية الوطن وسعادة الشعب.
في احد ايام شهر ايار من عام 1980، اخبرني حكمت عن عزمه الالتحاق بالانصار، وكان عليه اداء ما يسمى بالخدمة العسكرية ذلك العام، فسهرنا معاً ليلة الوداع في غرفته بمدينة العمادية، وتعانقنا في الصباح ومضى كل منا في سبيله. لم يمضِ اسبوع الا وقد عاد حكمت، وحين لمحته في سوق بلدتي ملكني الاستغراب، ولم يدم ذلك طويلا بسبب الابتسامة البريئة التي ارتسمت على وجهه، انجلى الموقف عندما اخبرني بان الشخص الذي اتصل به في المكان المحدد، قبل الوصول الى مواقع الانصار البواسل، طلب منه البقاء داخل الجيش .
في حزيران 1980 جرت انتخابات ما يسمى بالمجلس الوطني، وقد اجبر المواطنون للادلاء باصواتهم، هناك في المركز الانتخابي في المدرسة الاولى الابتدائية ، وبطريقة لا تخلوا من المجازفة، القيت الورقة خالية من الكتابة كأسلوب لمقاطعتها. وبنفس اليوم التقيت صديقي حكمت وهو فرح بما اقدم عليه هو الآخر، وكم كانت المفاجاة سارة ان يكون الاثنان قد فعلا الشئ نفسه. في وقت متاخر من نفس اليوم وفي نادي الموظفين، سمعوا من احد مسؤولي فرز الاصوات، عن اكتشاف اللجنة عشرات الاوراق البيضاء في صناديق الانتخابات، بالرغم من الحماية المشددة ونشر شرطة الامن واعضاء الحزب الحاكم في ارجاء مركز الاقتراع. في شهر آب من نفس العام التقيت صديقي حكمت، ولم يدر بخلدي ان يكون ذلك آخر لقاء بيننا، فقد ابلغني في حال تعرضه للمضايقات في الجيش، فانه سيترك وحدته ويلتحق بالانصار، فيما بعد اعلمني الصديق الآخر( عبد) بأن حكمت قد التحق بفصائل الانصار في الجبل.
في خريف 1982 تعرضت للاعتقال، ومن ثم وفقت في الالتحاق بالانصار مستصحباً معي زوجتي واطفالي، وفي اول ليلة من التحاقي تشاء الصدف الجميلة ان التقي بصديقي باسل، وبعد السلام الحار بادرته بالسؤال عن حكمت، وكم كان قلقي وحزني شديدين، عندما اجاب بان حكمت لم يلتحق بهم ابداً . بقي مصيره مجهولاً وقصته غامضة، وقد ترك والديه واخوانه وطلبته في ثانوية( متين) بالعمادية في حزن واسى عميقين. سوف تجلي الحياة يوماً قصة هذا المناضل الحقيقي.
اما عبد، ذلك الشاب الهمام سليل اسرة فقيرة والمعلم القدير في ارياف كردستان، فقد سيق للعسكرة عام 1981 ولكنه لم يتورع ان يتبادل الاخبار مع اصدقائه، وعندما بدا له ان خداع السلطة فيه فوائد لا غنى عنها، فقد شحذ سلاحا غير مالوف، وسلك طريقا مختلفاً، حيث تسلل الى صفوف حزب السلطة، فزاغت عنه الشبهات وعرف ووعى ماذا يدور هناك، وما السبيل في استثمار ذلك لهدف رئيسي واحد، وهو اضعاف وخلخلة السلطة التي كرهها من اعماقه ، وحقد عليها منذ نعومة اظفاره.
وحين اكتشفت تلك السلطة اي دور يلعبه بعد مضي سنوات ، نصبوا له كمينا في بلدته وهو عائد من العاصمة، فطعن حتى الموت لتصطبغ الارض بدمه، وليترك زوجة واطفال لا معيل لهم في ذلك الزمن الصعب، حيث الجوع والفاقه والحرمان.
للاطلاع على الكتاب الضغط على الرابط ادناه: