انها ايام حالكة، مليئة بالصعوبات. فترة من الزمن، تكالبت فيها كل الظروف المريرة على الانصار، انتكاسة عسكرية وسياسية، ظروف نفسية صعبة اجتاحت ارواح المقاتلين الذين عادوا من بشتاشان بسبب الغدر والخسائر البشرية والعسكرية، بالاضافة الى المعاناة الاقتصادية الكبيرة، وانقطاع التمويل السابق، وخسارة الكثير من طرق الامداد الغذائي، مما ادخلنا في فترة عصيبة لا يتحملها الا من جبلت مكوناتهم البشرية من الفولاذ، وتشبعت ارادتهم من افكار الحزب الشيوعي وامثلة التضحية والايثار التي اسست عليها مبادئ الحزب وحركة الأنصار.
نعم، انها ظروف قاسية جدا، حيث يبرز السؤال: هل يستسلم الأنصار الشيوعيون!؟
انتهت تقريبا مدخراتنا من بعض المواد الغذائية الأساسية كالرز والفاصوليا والعدس والحليب المجفف والطحين والشاي والسكر، ولم يبق منها الاّ شيء قليل، فأعلنت قيادة الفصيل وقيادة القاعدة عن هذا النقص الكبير في المواد الضرورية، وطالبت الرفاق الأنصار بقبول واقع التغذية الجديد الذي فرضته الظروف الصعبة، وهو عبارة عن: (وجبة فطور صباحي تتكون من رغيف خبز وكوب شاي، ووجبة غداء تتكون من كوب شاي ورغيف خبز، وهكذا تكون وجبة العشاء ايضا)، فتحول جدول تنظيم الوجبات الى مدعاة للضحك والتندر من قبل الانصار لتخفيف هول ما يحدث.
تنتشر بجوار موقعنا العسكري بعض البيوت والقرى الفلاحية، وكان لديهم وافر من المواشي (الاغنام والماعز) التي ترعى في كثير من الاحيان بالقرب من مقراتنا، لكن الأنصار رغم الجوع والحاجة الماسة الى الطعام، أبوا الاستحواذ على ممتلكات الفلاحين، ورفضوا المساس بالمبادئ التي تعلموها، وآثروا تحمل الجوع على الإساءة إلى سمعة الشيوعيين وحركتهم الانصارية.
بعد ان توفر مبلغ بسيط من المال، جرت مناقشات ومداولات حول شراء الارزاق، فاتفقنا على تشكيل مفرزة تذهب الى بعض الاماكن الواقعة في العمق الكردستاني، وذلك للبحث عن (دكاكين) تبيع المواد الغذائية الضرورية لحياتنا اليومية.
تم سرج البغل الوحيد الذي يملكه الفصيل، وانطلقنا نحن ثلاثة من الانصار، في رحلة البحث عن الحياة!!. بعد يوم ونصف اليوم، وصلنا إلى إحدى النواحي، حيث كانت المفاجأة الكبرى، فلأول مرة بعد سنوات، نرى بعض من ملامح الحضارة التي كادت ان تغيب عن اذهاننا!: (الشوارع الاسفلتية، وسيارات البيشمركة الكورد (البيك اب) وهي تحمل سلاح (الدوشكا). اصابنا الذهول مما شاهدنا، حتى اننا تساءلنا هل نستطيع المشي على شارع منبسط ومكسيا بالاسفلت، بعد ان اعتادت اقدامنا على الارتطام بالصخور وتسلق الجبال ومنحدرات الوديان والطرق المتعرجة!!؟.
بدأنا البحث عن (الدكاكين)، وبالرغم من معاناتنا من طرح الاسئلة والاستفسارات بسبب عدم معرفتنا اللغة الكوردية الا بعض كلمات التحية والمجاملة، لكننا عثرنا في النهاية على احدهم. طلبنا من صاحب (الدكان) ان يعطينا الكمية التي نحتاج لها، لكنه رفض في بادئ الامر، معللا ذلك بانه لا يبيع بطريقة الجملة، لكننا لم ننسحب، انما حاولنا معه مرارا حتى اقنعناه بالموافقة على صفقة المشتريات من المواد المطلوبة: (الشاي والسكر والطحين وبعض الامور الأخرى). وضعناها على ظهر البغل: (واسطة النقل الوحيدة والاساسية في الجبال)، وبدأنا رحلة العودة إلى المقر.
بعد مسيرة طويلة امتدت لاكثر من يوم، وصلنا الى مقرنا قبل غروب الشمس، ولكي نعلن عن وصلونا بعد رحلة متعبة ونجاحنا في الحصول على المواد الغذائية، قام بعض الرفاق باطلاق الرصاص في الهواء فرحا وابتهاجا بهذا الانجاز الكبير، معلنين انّ لا صعوبات ولا اي معوقات تقف بين الانصار وبين استمرار نضالهم من أجل الوصول إلى اهدافهم بإسقاط النظام الديكتاتوري المقيت.