عندما اتذكر الايام والشهور بين عامي 1980-1982، تبدو لي اشبه بفلم سينمائي، كنت فيه البطل المغلوب على أمره، وعلى شفا خطوة او اقل من الموت!. لست من هواة السلاح، ولا يعجبني اللون العسكري. قاومت بشتى السبل والذرائع لابتعد عن كل ما له علاقة بالجيش، لكني وجدت نفسي جنديا احتياطيا في حرب ضروس، حاولت الهروب منها لعدة مرات، الاّ انّ اخي وقف بالضد من رغبتي.

طالت الحرب، ولم اعتاد على وجودي فيها. نجوت من الموت في قاطع الفكة، والتذمر يكبر في داخلي وسلوكي. في احدى اجازاتي الدورية، وانا في طريقي الى نادي الموظفين في الديوانية، شاهدت وسمعت شرطي مرور برتبة مفوض، يحث المواطنين على الحفاظ على نظام السير بطريقة همجية لا احترام فيها، وهو يمسك السماعة ويصرخ: "انت ولك ابو عكَال، انت ابو القميص الاحمر، هذا الشارع مو مال ابوكم ولا مال الخلفوكم، ليش ماتمشون مثل البشر يا بقر!"، وكلام آخر استفزني كثيرا...

كنت تحت تأثير كأس اضافي، فهجمت على المفوض، مسكت ذراعه التي تحمل السماعة، وانزلتها الى الاسفل، قلت له:  "انت واجبك المحافظة على النظام من اجل خدمة المواطنين وباسلوب محترم،  وليس اهانتهم، يعني انت لو عندك مسؤولية اكبر تسوي مثلما يسوي صدام!". صرخ المفوض بكلام مفاده باني اهنت صدام، فتوالى علي شرطة امن ومخابرات، لا اعرف من اين جاءوا... انقذني احد الجلساء في مقهى قريبة، لكني بدلا من الذهاب إلى البيت اكملت طريقي الى نادي الموظفين، وهناك شاهدت الرئيس يخطب في التلفزيون، حاولت ان اخفض الصوت، لكن "احلام عبد الكريم"* انقذني وساعدني في ركوب سيارة تكسي، طالبا مني الالتحاق بوحدتي العسكرية فورا.

قبل عام 1980 فقدت اغلب الاصدقاء المقربين، بين السجون، والهجرة او الاعتزال، وبعضهم التحق بحركة الانصار، احدهم صديقي حبيب الذي كان عسكريا قريبا من وحدتي.. في احد الايام، بعد غياب حبيب ثلاثة اشهر، دخلت الملجأ، فوجدت شخصا نائما في فراشي، اقتربت منه وسالت: "هذا منو؟ هاي شنو؟!!".... لم اصدق نظري! انه حبيب!، فحكى لي عن غيابه والتحاقه بحركة الانصار، وعودته لاداء مهام حزبية، من بينها ان ياخذني معه الى الجبل. احترت بين اليقين والشك، لكني قلت مع ذاتي: "هي موتة وحدة، لو اموت في الطريق لو بالجبل، افضل بكثير من الدفاع عن الطاغية وحربه"، فعزمت ورافقت حبيب حتى الوصول إلى كفري، حيث بيت عطا جمال الطلباني*. قضينا ليلة في بيت الطلباني، ومعنا صديق اسمه ايضا كريم (صار كاتبا معروفا لاحقا - عبد الكريم العبيدي).

في الصباح الباكر، وبعد تناول الفطور، ارتدينا نحن الثلاثة الملابس الكوردية، ثم اخذنا صاحب الدار بسيارته الخاصة متجاوزا نقطة تفتيش، من دون ان يوقفه الحرس. بعد تجاوز السيطرة، ومرور خمس دقائق تقريبا، قال عطا الطلباني: "انزلوا الآن، انتم احرار من سلطة الحكومة". نزل من سيارته وعانقنا مودعا، ومتمنيا لنا النجاح في الوصول الى هدفنا، ثم اشار لنا بالنزول الى الوادي العميق قائلا: "ستجدون في الطريق دليلا ياخذكم الى رفاقكم".

تقدمنا حبيب ثم انا وكريم البصراوي، سرنا عدة دقائق، واذا برجل عجوز خرج من بين الصخور، قال بعربية ركيكة: "مرحبا، كاكة امشي وراي". كان العجوز يقفز الصخور كالغزال، يبتعد ثم يجلس ونظراته تقول: اين شبابكم؟!. استمر المشي مع الاستراحات ساعتين تقريبا، فقال كريم البصراوي: "معقولة هذا الشايب انشط منا؟!.. وصلنا الى الطرف الاخر من الوادي، حيث منطقة تسمى "كرميان"، ودعنا ملا كريم (العجوز الدليل)، بعد ان إلتقينا مفرزة انصارية. تعرفت على احدهم اسمه قيس جعفر من الديوانية، من عائلة ميسورة ومعروفة، شقيق صديقي وزميلي في الدراسة الثانوية عدنان جعفر، فزادت طمأنينتي.. تجولنا نحن الثلاثة مع المفرزة، حتى وصلنا الى (احمد أوا)، وهناك التقيت بابناء مدينتي الديوانية الذين سبقوني، الاصدقاء: (جاسب علي مهاوي، حامد كاظم، سعد مجيد، صباح كاظم، مؤيد كريم). استقريت روحيا ونفسيا، وانقشع ضباب القلق، ولعنت الدكتاتور بصوت عالي، حيث الوادي يردد صداه!..

* احلام عبد الكريم، معلم شيوعي وأحد رواد النادي في تلك الساعة

* الطالباني (ركيزة متعاونة مع الحزب)

النصير الشيوعي العدد 38 السنة الرابعة أيلول 2025