من الصعوبة بمكان، ان تسعفك الذاكرة بعد مرور اكثر من 40 سنة لتتذكر جميع الاسماء والامكنة، لكن شعورا مني باهمية توثيق الدور المهم الذي لعبته طبابة الانصار في مسيرة الكفاح المسلح لحزبنا، كتبت هذه السطور القليلة.
اكتسبت طبابة الانصار اهمية كبيرة في علاج الجرحى والمرضى، وتقديم الاسعافات الاولية الضرورية في الحالات الحرجة، فأصبح تواجد الطبيب بين الانصار بمثابة صمام آمان، وشكّل دفعا معنويا وارتياحا نفسيا لهم. كما انّ تحركه مع المفارز المتجولة بين القرى والنواحي، ومعالجته للمرضى من السكان، جعل الاهالي ينتظرون مرور الطبيب الشيوعي بقراهم، ويفضلونه على طبيب المدينة. هذه العلاقة الطيبة مع ابناء مناطق عملنا، ومشاركتنا لهم همومهم ومشاكلهم، ودفاعنا عن بيوتهم امام هجمات السلطة البعثية، ساهمت بشكل ملحوظ باتساع شعبية مفارزنا وسط بسطاء الناس الذين بادر الكثير منهم الى التعاون مع الانصار، وقدموا لهم المعلومات، وحذروهم من تحركات السلطة ومرتزقتها، وبعض القرى تبرعت لهم بأدوية ومستحضرات طبية.
تميزت قواعد الانصار الشيوعيين عن غيرها من قواعد بيشمركة الاحزاب، بوفرة الكادر الطبي (اطباء ومساعدين)، وفي بعضها يتواجد اكثر من طبيب، بالاضافة الى مساعديهم، بينما بيشمركة الاحزاب الكوردية، وفي اغلب قواعدهم، لا يوجد حتى طبيب واحد، ماعدا بعض الاستثناءات، مما اضطرهم في كثير من الحالات، الى طلب المساعدة من اطبائنا لمعالجة جرحاهم، سواء كان ذلك داخل المقرات او في سوح المعارك، وانقذنا حياة العشرات منهم باسعافات طبية ضرورية، اما الحالات الخطرة، فنقلوها الى ايران لاستكمال العلاج، وقد اثنت وشكرت اذاعة (البارتي)، أكثر من مرة، طبابة الحزب الشيوعي العراقي في السليمانية على جهدها في تطبيب مقاتليهم.
مصادرنا.. إعتمدنا في الحصول على الأدوية، وخاصة أدوية بعض الأمراض المزمنة، على الاصدقاء العاملين في المجال الطبي ومنظمات حزبنا في الاقليم بشكل اساسي، لكن هذه الموارد تتأثر بمدى قرب مواقعنا وبعدها عن المدينة، وأحيانا نعاني من شحة الأدوية لفترات طويلة. هذا بالاضافة الى النقص الدائم بمواد التخدير والمغذيات، مما وضعنا كاطباء بمواقف صعبة وحرجة.
الالتحاق بالانصار.. تحركنا من القامشلي باتجاه الاراضي التركية، واستغرقت مسيرتنا حتى وصولنا الى قاعدة حزبنا في بهدنان، عشرة ايام تقريبا. ضمت مفرزتنا اكثر من 25 رفيقا، ولم تحدث خلال الطريق، اية مشاكل طبية جدية، عدا تقرحات القدم، والارهاق والعطش وما سبباه من تشنجات عضلية تطلبت الاستراحة.
بعد استراحة قصيرة في بهدنان، توزعنا على القواعد الاخرى. نُسبت الى موقع "روست"، وبقيت فيه عدة اشهر، تعرفت خلالها على رفاق رائعين مازلت اتذكر منهم: (الشهيد ابو سحر، الفقيد ابو ميلاد، الشهيد ابو فيروز، امر السرية ابو داود، النصير سلام ابراهيم كبة). لم تحدث في (روست) ما يستدعي التدخل الطبي، وكانت المفارز تعود بسلام، بعد ان تؤدي واجباتها.
بعد (روست)، توجهت الى السليمانية، وتم تنسيبي الى الفوج 15 (قره داغ وكَرميان). كان مقر الفوج في (قوبي قره داغ)، يضم بالاضافة الى رفاق الفوج، رفاق التنظيم المدني لتنظيم العلاقة مع الداخل. وفي اسفل الجبل توجد بعض القرى الصديقة، منها (تكيه) قرية نجم الدين نوري الاخ الاكبر للرفيق بهاء الدين نوري، فاصبحت طبابة الانصار مستوصفا للمراجعين من الاهالي.
عند وصولي الى قاطع السليمانية، إلتقيت بعدد من الرفاق الاطباء: (دكتور ناظم الجواهري وزوجته دكتورة ايمان ابنة الشهيد سلام عادل، دكتور ايشار وزوجته حيث كان منسب لقاعدة القاطع في "كره جال"، وكنا احيانا نعمل سوية مع الرفيق دكتور دلير المنسب للفوج التاسع). هؤلاء الزملاء ابدوا نكران ذات عالي، ونشاط ملهم في خدمة الناس بالرغم من صعوبة توفر المستلزمات الطبية الضرورية، فتحية اعتزاز وتقدير لهم اينما كانوا...
عملت سوية مع عدد من الرفاق المساعدين الرائعين، الذين تدربوا على بعض الاسعافات الاولية وترتيب الادوية واستخداماتها، ورافقوني في اكثر المهمات الطبية الصعبة، وحتى بالاوقات التي تتطلب حضور الطبيب فورا لعلاج جرحى المعارك ونقلهم والسهر عليهم.. تحية حب وتقدير لاولئك الانصار ومنهم: وليد (درێژه) الطويل، والنصير المحبوب نجم الدين هورامي، والنصيرالصيدلي ابو نبأ، والنصير مهدي شقيق الشهيد ابو سحر، والنصير المرح دائما كفاح الزهاوي (سلام).
بعض الاحداث والمواقف التي بقت عالقة في الذاكرة
طبابة (قره داغ).. في وقت المعارك مع (اوك)، اتصل بنا بعض وجهاء العشائر القاطنة اسفل المقر، طالبين المساعدة بمعالجة احد المصابين بطلق ناري في ظهره من قبل احدى ربايا الجيش. لم يفصحوا عن هويته، لكننا عرفنا فيما بعد بانه ينتسب الى (أوك). وافقنا على جلبه وتقديم العلاج له حسب الامكانات المتوفرة. كان وضعه حرج، فالرصاصة مستقرة في اسفل العمود الفقري، والجرح ملتهب، وحرارته عالية، ويفقد الوعي بين حين واخر. قمنا انا والرفيق وليد بتعقيم الجرح، ثم اعطيناه جرعة قوية من (الانتي بيوتك)، فبدأ في اليوم الثالث بالتحسن، لكن نصفه الاسفل كان مشلولا. بعد مرور اسبوع، نصحناهم بان يجدوا طريقة لنقله الى مشفى حكومي لإخراج الرصاصة، وفعلا نجحوا في ذلك. بعد عدة اشهر وصلتني رسالة منه بيد ابن عمه، استهلها بـ"وطن حر وشعب سعيد"، وفيها تحايا للحزب، وامتنان وشكر كبير للطبابة، واخبرني فيها ايضا، عن حالته وتعافيه وتدريبه على المشي.. هذه الحادثة كانت ضمن ردي الذي كتبته على صفحتي على افتراءات وكذب فؤاد معصوم "حامي الدستور"، تحت عنوان: (اخلاقنا واخلاقكم)، جاء فيه: (هذه هي اخلاق الانصار الشيوعيين يا معصوم، نعالج جرحاكم وتعدمون اسرانا، فكيف ادعيت (بان الشيوعيين يقتلون مقاتليكم حينما يكونوا في اجازاتهم!!؟)، وكيف يؤتمن شخص مثلك على حماية الدستور، وانت على هذا المستوى من الكذب والافتراء، يبدو في عراق المحاصصة كل شيء ممكن)!.
مقرنا بـ"خورنوزان".. هو مقر مؤقت، تجاوره قاعدة لبيشمركة الديمقراطي. وردتنا الاخبار من خلال مصادرنا، بان الجيش والجحوش سيشنون هجوما واسعا ضدنا وضد مقرات الاشتراكي والديمقراطي، فاتخذنا احتياطاتنا بتهيئة مقر خلفي في "كهف الجبل"، ونقلنا اليه بعض المواد الغذائية والطبية. بعد ايام بدأ الهجوم، وخضنا معركة استمرت لساعات في قمة الجبل المقابل. كنا وحدنا، لان القوى الاخرى انسحبت قبلنا. بعد انسحابنا الى المقر الخلفي وفي الساعة الحادية عشرة ليلا، تعرضنا الى قصف مدفعي شديد استمر حتى الرابعة صباحا. كان القصف مركزا وكثيفا وطال كل الجهات. سمعنا أصواتا تطلب النجدة، وتنادي (دكتور الحزب الشيوعي)، فحملت حقيبتي وذهبت لوحدي، ولم اطلب مساعد لي، بسبب خطورة الحركة. توجهت إلى المكان، فوجدت جريحين من حزب (إلباسوك)، وثالث استشهد في الحال. قمت بمعلاجتهما وايقاف النزف، ثم نقلوهما الى ايران لاستكمال العلاج، وفي نفس الوقت، قدمنا العلاج الى عدد من جرحى الاشتراكي.
في احدى زياراتي لمقر القاطع في "كره جال" المطل على مصيف "احمد اوى" لحضور اجتماع للقاطع.. بدأ قصف مدفعي على المقر اثناء فترة الغداء، فاستشهد الرفيق درويش حالا، وهو شاب ثلاثيني رائع. كما أُصيب اثنان من الالمان المحتجزين لدينا، والذين من المقرر اطلاق سراحهما في هذا اليوم، لكن للاسف كانت اصابة احدهما "العامل" بالغة، فالشظية اصابته من جهة الظهر وخرجت من منطقة السرة وسببت له نزفا داخليا ادى الى وفاته بعد بضعة ساعات، اما الثاني "المهندس"، فاصابته اخف، وتمكنا (طبيب المقر دكتور ايشار وانا) من معالجته. علمت من رفاقنا في المانيا، ان المهندس اصدر كتابا ضمنه هذه الحادثة.
احداث اخرى بشكل مختصر.. أصيب الرفيق "عادل" بصلية رشاش في ساقه بسبب استخدام خاطىء للبندقية، فأجرينا له عملية جراحية صعبة استمرت لعدة ساعات بسبب فقدان عظمي، ولحسن الحظ حافظنا على ساقه من البتر، لكنه ظلّ يمشي بعرج خفيف رغم علاجه في الخارج.
في احدى مقرات الحزب.. بسبب حركة خاطئة، انفتح بسمار قنبلة يدوية في حزام النصير "محمد"، مما ادى الى استشهاده، وأُصيب عدة رفاق بجروح بسيطة، ماعدا النصير "عباس ره ش" الذي أصيب بعدة شظايا صغيرة، انتشرت في جميع انحاء جسده، وتم علاجهم جميعا.