شهادات ومواقف / فيصل الفؤادي 

لقد تعرض عشرات الالوف من الشيوعيات والشيوعيين واصدقائهم للاعتقال والتعذيب في حملة القمع الوحشية الاخيرة والتي استمرت حتى سقوط سلطة البعث. واستشهد المئات والمئات من خيرة كوادر الحزب واعضائه، من بينهم الدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرة، وكذلك الكثير من نشطائه في حركة الانصار. ولم يقتصر القمع الوحشي على الشيوعيين واصدقائهم فحسب، بل شمل ذلك جميع القوى الديمقراطية، بما في ذلك الاحزاب الكردية والقومية المعتدلة وحزب الدعوة وغيرها من القوى والشخصيات المعارضة للنظام[1].

وقد استعمل النظام الفاشي مختلف الاساليب مع الشيوعيين، تلك الاساليب التي تنم عن خبرة وفاشية الاجهزة الامنية ومخابراتها بعد الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي 1978. واتبعت سياسة دنيئة في التوقيع على قرار 200 سيئ الصيت والذي يجبر الإنسان على الابتعاد عن السياسة بشكل كامل، عدا حزب البعث، ويعاقب مخالفيه بالإعدام. وجرى التوقيع من قبل الالاف من الشيوعيين تحت الضغط والارهاب والتعذيب. كما إستعملت طرق خبيثة مع المعتقلين الشيوعيين، فقامت الاجهزة الامنية بإطلاق سراح المعتقلين بعد اعتقالهم لمدة ساعة او اكثر، لإثارة الشكوك عليه من قبل رفاقه، او تشويه سمعة المعتقل التي يصمد وبث الدعاية عنه بإعتباره أبدى موقفاً ضعيفاً. وسأذكر هنا أهم هذه المواقف والإجراءات.

قضية الراحل ثابت حبيب العاني (ابو حسان)

كان ثابت حبيب العاني، عضواً في المكتب السياسي للحزب، وتم إعتقاله في عام 1971 لفترة طويلة وتعذيبه في قصر النهاية، ثم أطلق سراحه، وعولج في الإتحاد السوفيتي، وواصل دوره في قيادة الحزب حتى عام 1984، حيث حدثت واقعة إتهامه الباطل[2].

يقول ثابت حبيب العاني في كتابه صفحات من السيرة الذاتية 1922- 1998 ص469-470: 

بعث لي المكتب السياسي برقية استدعيت فيها بتاريخ 3/4/ 1983. تحركت المفرزة في 5/4/1983 ووصلت بشتاشان يوم 8/4/1983 وفي اليوم الثاني التقيت مع المكتب السياسي المتكون من كريم احمد وعمر علي الشيخ وسليمان بوكا. وجرى البحث في اوضاع القاطع وعمله وايجابياته و نواقصه. وبعد هذا الإستعراض، أجلنا العمل الى اليوم التالي. وفي 10/4/1983 فوجئت بتسليمي رسالة صغيرة من قبل كريم احمد الذي ابلغني بالقرار التالي (انك مجّمد من اللجنة المركزية، ونطلب منك جوابا تحرريا على الرسالة، ولدى اطلاعي على محتوى الرسالة صعقت، حيث كان محتوها حسب ما اتذكر على الوجه التالي:

ابو حسان تحية..

لقد وصل الى علم الحزب ان ثابت حبيب العاني صمد صمودا بطوليا لدى اعتقاله في 1/5/1971 في قصر النهاية، ولكنه في الاخير ضعف، فوافق على التعاون في مجال الطلاب وفي مجال العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، لقاء الحفاظ على تنظيماته وتقديم المساعدة له عن طريق اخيه، كما كان على اتصال مع احد المحامين وكان في السلك العسكري في مكتبه في شارع السعدون.  التوقيع المكتب السياسي.

كانت الرسالة كتبت بخط كريم احمد. تركتهم وقرأت الرسالة عدة مرات. لقد كانت ثقتي بنفسي وبموقفي عالية بحيث احتقرت هذا الاتهام ولم اهتم به. وكتبت جوابا مختصرا تضمن شيئا اساسيا هو، اذا تحقق هذا الشئ، فانا استحق عقوبة الاعدام.

ويضيف: مضت فترة طويلة نسبيا وكتبت عدة رسائل اولها في 21/4/1983 واخرها وجهتها الى المؤتمر الرابع بتاريخ 15/11/1985(في الكتاب ورد خطأ1984 )

 عندما وصل الى علمي خبر انعقاده. وفي كل هذه الرسائل حاولت أن افند الاتهام الباطل الموجه ضدي وطالبت بان يجري التحقيق ووضعت نفسي تحت تصرف القيادة منذ يوم 10/4/1983 وحتى 15/5/1989. وخلال هذه الفترة لم استلم اي جواب سوى رسالة في 9/11/1985 رد على رسالتي المرسلة الى المؤتمر(المفروض الرسالة المرسلة قبل تاريخ استلام الجواب-الكاتب)، والتي لم تعرض على المؤتمرين لاعطاء رايهم فيها وانا لازلت عضو اللجنة المركزية ومنتخبا في المؤتمر الثالث.

و طيلة الفترة منذ اثارة القضية في 10/4/1983، اعتبرت التهمة باطلة ولا صحة لها وانها مفبركة. وقد اوردت في رسائلي اجوبة لتنفيذ محتوى الاتهام، الذي كان مصدره احد كوادر حزب البعث السابقين ـ أياد علاوي / الكاتب ـ والذي قام بدوره بنقله الى قيادة الحزب. ولكن قيادة الحزب اصرت على موقفها ولم تحاول خلال كل هذه السنوات اجراء تحقيق يوصلها الى الحقيقة.

وأثناء وجودي في هنغاريا في بداية 1990، قدم الرفيق عزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية والذي التقى معي وجرى نقاش حول قضايا سياسية واوضاع الحزب واوضاع الحركة الوطنية ووجهة نظري حول سياسة الحزب. ومن الامور التي تطرق اليها الرفيق هي قضيتي،  وكان اللقاء بحضور احد اعضاء اللجنة المركزية (ابو ناصر – الكاتب). وقال  عزيز محمد بالحرف الواحد (ان المخبر طلع كذاب في قضيتك) وكان جوابي (هذا غير كاف، اريد رد الاعتبار بمستوى القضية. وقال في النهاية: سوف تصلك رسالة بهذا الخصوص. وانتظرت منذ ذلك الوقت اي منذ 8/2/1990 حتى 15/2/1992، حيث كان لي لقاء اخر مع عزيز محمد وبحضور فخري كريم وتوما توماس وتطرق عزيز محمد الى القضية وقدم نقدا ذاتيا على اساس انه لم يتمكن من تحقيق ما وعدني به في 8/2/1990، وطلب مني ان امارس عملي في مقر الحزب في دمشق وهذا يعتبر رد الاعتبار لي. رفضت ذلك الاقتراح وطلبت ان يجري رد الاعتبار بالمستوى العملي الذي اقدمت عليه القيادة وهي الامور التالية:

  • تبليغ جميع الاحزاب الشقيقة بالقضية، والتي ابلغت سابقا بالاتهام.
  • تسريب القضية الى الصحافة، لانه سبق وان جرى تناول ذلك على صفحات الجرائد عند توجيه الاتهام من قبل احد الرفاق القياديين الذي خرق قرار المكتب الساسي بالحفاظ على الاتهام ضمن اطار المكتب السياسي فقط.
  • ابلاغ القواعد الحزبية بعدم صحة الاتهام.

ولهذا طلبت اعلانا من قيادة الحزب لتصحيح الذي اتخذته في السابق، وبعد هذا اللقاء وعدت بأن القضية تعرض على المكتب السياسي واللجنة المركزية وابلغ برسالة. وانتظرت خلال هذه الفترة ثم ارسلت رسالة الى المكتب السياسي واللجنة المركزية بتاريخ 10/3/1992 ومضت اكثر من ثلاثة اشهر على استلام الرسالة ولم استلم اي جواب. ولهذا اضطررت الى ان اعلن القضية على الشيوعيين سواء المرتبطين بالتنظيم او من ترك التنظيم، وبقيت محافظا على شرفي النضالي وتضحياتي المفعمة بنكران الذات.

يشير اياد علاوي في مذكراته الى  تلك الحادثة، وبأنه من أبلغ عزيز محمد عن ذلك الموضوع. وللاسف صدقوا اياد علاوي البعثي ولم يصدقوا عضو المكتب السياسي للحزب والذي اعطى من عمره اكثر من خمسين عاما في الحزب. ويمكن الاشارة الى ان الرفيق ثابت حبيب العاني بقي في كردستان ولم يتاثر بتلك الدعاية والافتراءات وكان واثقا من نفسه،  وكان جميع الانصار يكنون له الاحترام والتقدير كرفيق و اب ، وكان كل تعامله انساني وابوي مع الانصار وحل الكثير من مشاكلهم المختلفة.

لقد وضع النظام مختلف الاساليب للنيل من اعضاء الحزب الشيوعي العراقي في تسريب المعلومات الرخيصة من اجل ابعادهم عن الحزب. واشار عضو اللجنة المركزية كاظم حبيب الى ان السلطة كانت تتنصت من خلال الاجهزة التي زرعتها في بنايات الحزب كمقر اللجنة المركزية وكمقر بغداد ، وكانت تستمع الى أراء اعضاء الحزب القياديين في سياسة البعث ، وعلى ضوء ذلك حاولت اسقاطهم بالدعاية او الاغتيال او الاعتقال او غير ذلك من الاجراءات الخبيثة.

واشير الى رد عضو اللجنة المركزية السابق عادل حبه على عبد الحسين شعبان في رسالة حول كتاب الأخير (النار ومرارة الامل) ما يتعلق بموضوع الراحل العاني:

" ففي مثال الفقيد ثابت حبيب العاني، لايشير شعبان ولا حتى يلمح الى ان من قدم الى قيادة الحزب المعلومات والوشاية المغرضة ضده هو الفقيد عامر عبد الله، هذه الوشاية التي حصل عليها من قبل رجل المخابرات والبعثي اياد علاوي.  وبقي الفقيد عامر عبد الله حتى اواخر حياته على قناعة بصحة المعلومات المغرضة التي وافاه بها اياد علاوي. في حين ان الحزب وبعد بضع سنوات وبعد التدقيق في المعلومات، اعتبر ان هذه المعلومات كاذبة وابلغ ثابت حبيب العاني ذلك من قبل الرفيق عزيز محمد،  والغيت القرارات الاحترازية الخاصة بتجميده، وعاد الى العمل في منظمات الحزب. فلماذا لايذكر شعبان هذه الحقيقة ويحمل الحزب اوزار هذه الدسيسة ضد الفقيد العاني"[3] .

 

الراحل سليمان يوسف اسطيفان بوكا (ابو عامل)

 

كان الرفيق الراحل أبو عامل، عضوا في قيادة الحزب وعسكرياً متقاعداً، تم إعتقاله أواخر السبعينات، وأطلق سراحه، وأصبح في قيادة حركة الأنصار طيلة الثمانينات. ويذكر إن  منظمة العفو الدولية قد طالبت باطلاق سراح الضباط المعتقلين السبعة وهم سليمان يوسف اسطيفان وكمال نعمان ثابت ونوح على ربابي وفخري الالوسي وسعيد قاسم مطر وعبدالخطيب وانور طاهرواحمد الجبوري، وكان الاول عضو اللجنة المركزية والباقون هم ضباط متقاعدون من الجيش منذ عام 1963 (تقرير منظمة العفو الدولية 1979 نقلا عن الثقافة الجديدة العدد 118 لسنة 1980 ص التقرير679).

يتحدث عضو اللجنة المركزية جاسم الحلوائي عن ابي عامل عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فيقول:

"اطلق سراح الرفيق سليمان يوسف بوكا (ابو عامل) في تلك الفترة، وكانت المعلومات التي لدينا عنه تشير الى صلابة موقفه في الامن. ووجدت الرفيقة عائدة ياسين (ام علي ) طريقا للاتصال به، فتداولت مع الرفيقة ام علي في وضعه واتفقنا على ان نقترح عليه السفر الى الخارج. اخذين بنظر الاعتبار حاجته الى فحوصات طبية للتأكد من عدم اعطائه موادأ قاتلة ببطْء، والتي اشيع استخدامها من قبل سلطة البعث ضد خصومها. ولان الاصول تقتضي اطلاع المكتب السياسي، والذي هو في الخارج انذاك، مباشرة على موقفه في الامن، كتبت رسالة بمقترح سفر الى الرفيق ابي عامل فطلب اللقاء بي.

رتبت الرفيقة ام علي موعدا ومكانا للقاء والتقينا به سوية. فوجئت بهيئة الرفيق ابي عامل، لقد كان شبحا، عرفت بان وزنه نقص عشرين اوثلاثين كيلو غراما. تحدث بالتفصيل عن سير التحقيق معه. سالته سؤالا واحد لم يجبني عليه، كان بمثابة صدمة للرفيقة ام علي، فتولت هي الاجابة بالنفي مرتبكة ومستغربة السؤال. وكان موقفها دليلا على قلة خبرتها، ولايقلل ذلك ابدا من بسالة الرفيقة واخلاصها غير المحدود للحزب وقضيته" ويضيف الحلوائي " ابدى الرفيق ابو عامل استعدادا جديا للبقاء في الداخل وان يدبر امر اختفائه بنفسه، وان لديه وسائل طباعة جاهزة للاستخدام.

عند خروج الرفيق ابو عامل ووصوله بيروت، صدرت طريق الشعب وعلى صدرها هذا المانشيت (بطل من هذا الحزب) امتدحت فيه بطولة الرفيق، الذي لم يكن راضيا عن نشر ذلك كما اخبرني. كان الرفيق ابو عامل قد صوت ضد التوقيع على ميثاق الجبهة بالصيغة التي اقرت بها[4]. ومع انه تراجع كبقية المعارضين عند اقرار وثائق اساسية في مؤتمر الحزب الثالث كبرنامج الحزب ونظامه الداخلي، الا انه بقي متحفظا على هذا الجانب او ذلك من سياسة الحزب. وهكذا صعد نجم الرفيق ابو عامل عشية الاجتماع الكامل للجنة المركزية الذي عقد في موسكو 1981. ولان الاجواء كانت مشحونة ضد قيادة الحزب لمسؤليتها عن الاخطاء التي ارتكبت في الفترة الماضية، ولان الاجتماع يعيد انتخاب المكتب السياسي،  فأن القيادة لم تتصرف تصرفا صحيحا، فلم تجرؤ على التوقف بشكل جدي على ماوقعه الرفيق كشرط لاطلاق سراحه وحسم الموضوع، بل تغاضت عن ذلك. وقد انتخب الاجتماع نفس اعضاء المكتب السياسي باستثناء ثابت حبيب العاني (ابو حسان) الذي حل محله الرفيق ابو عامل عضواً في المكتب السياسي الجديد.

في الاجتماع الكامل للجنة المركزية في عام 1984 في كوردستان وهو ايضا اجتماع انتخابي. كانت هناك نقطة في جدول عمل الاجتماع، الذي يعده المكتب السياسي عادة وهي موقف ابي عامل في التحقيق! عند تناول النقطة المذكورة، افاد الرفيق ابو عامل في الاجتماع المذكور بما فحواه، لقد تحدثت عن موقفي للرفيق عزيز محمد ولرفاق في المكتب السياسي بعد اطلاق سراحي، ولم اسمع اية ملاحظة او سؤال من احد. الرفيق الوحيد الذي سألني هو الرفيق ابو شروق ـ جاسم الحلوائي / الكاتب ـ وذلك في بغداد،  وبامكانه ان يخبركم بالسؤال اياه. فقلت لقد اخبرني الرفيق ابو عامل بانهم عرضوا عليه اكثر من صيغة تعهد ورفض التوقيع عليها. وكانت تعرض عليه خياران، اما التوقيع واطلاق سراحه واما الاعدام. وكان اخرها صيغة مادة قانونية تفيد بأن الذي يقوم بنشاط سياسي (غير بعثي) داخل القوات المسلحة يحكم بالاعدام. وتعهد الرفيق ابو عامل باطلاعه على ذلك، لانه لم يجد ضيرا من التوقيع على هذا التعهد من وجهة نظر قانونية (كان الرفيق ابو عامل ضابطا قانونيا في الجيش العراقي) وكان سؤالي، الا يعني ذلك تعهدا سياسيا؟ ولم يجب الرفيق على سؤالي،  بل اجابت الرفيقة ام علي كما اسلفت. وقد اخبرت الرفيقين عمر علي الشيخ وباقر ابراهيم بسؤالي في حينه، وموقف ابو عامل منه. واضفت في اجتماع اللجنة المركزية المذكور ،  بأن الرفيق ابو عامل كان على استعداد جدي للبقاء والعمل في تلك الظروف العصيبة. بعد حديثي اسدل الستار على الموضوع، فقد اخذت اللجنة المركزية علما به، ولم يرشح الرفيق ابو عامل للمكتب السياسي.

ولمناقشة هذه القضية أرى ان الحزب الشيوعي العراقي قد جمد العمل الحزبي في القوات المسلحة حفاظا على الجبهة اضافة الى تجميد المنظمات الديمقراطية الاخرى، وهذا مايشير اليه سكرتير الحزب عزيز محمد. كما تشير وثيقة تقيم سياسة حزبنا الى:

(وركز البعث ضغطه لانتزاع تنازل من حزبنا بالامتناع عن اي عمل سياسي في القوات المسلحة وشدد ارهابه للمواطنين المكلفين بالخدمة العسكرية، وحرم على صحافتنا الشيوعية الدخول الى معسكرات الجيش، وقدم الى المحاكم كل عسكري يعثر في حوزته على ادبيات ماركسية اي كان مصدرها ليجابه الموت، في حين دافع الحزب عن الارتباط التنظيمي للشيوعيين المكلفين بالخدمة العسكرية)[5].

وتشير الوثائق التقيمية لمسيرة الحزب الشيوعي النضالية ,لقد احتوى ميثاق العمل الوطني الذي جرى التوقيع عليه مع حزب البعث الى جانب النواحي الايجابية التي اتينا عليها،  جملة من السلبيات البارزه ومنها مايتعلق بالخطأ في تلخيص طبيعة انقلاب 17-30 تموز1968 واعتباره ثورة وتعد مقدمات الانتقال للاشتراكية بقيادة حزب البعث، وجعل العمل السياسي في القوات المسلحة حكرا للبعث تحت ستار كونه مهمة من مهمات "قيادة الثورة وحدها")[6].

ويقول عبدالرزاق الصافي عضو المكتب السياسي يومها في رسالة خاصة الى عزيز سباهي مؤلف عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي الجزء الثالث:

"كان العمل في القوات المسلحة موضع اعتراض من قبل البعض. وقد اثير الموضوع في مجلس الوزراء او من قبل البكر مع عامر عبدالله، اذ اخبر عامر عبدالله المكتب السياسي، ان البكر قال له :اننا لا نريد ان نلغي تفكير الشيوعيين او انتماءاتهم الحزبية. وكل مانريده هو ان لاينشطوا داخل الوحدات العسكرية اما خارجها فلهم مايريدون. وبناء على ذلك جرى القبول بما طرحه البكر. وجرى الايعاز بعدم النشاط داخل القوات المسلحة[7].

في رسالة من الصحفي العراقي عبد جعفر عبر التلفون، ذكر لي بان صديقه الشهيد عبد الجليل عودة معارج، اعدم في 28 كانون الاول 1975 بتهمة القيام بتنظيم عسكري داخل القوات المسلحة  وهو جندي مكلف حيث انهى دراسته الجامعية قسم الجغرافية, والتي يشير لها ايضا كتاب الشهداء الجزء الثاني ص 250.ويضيف تم اعدام صديقه كاظم الذي انضم الى الخلية التي اسسها عبد الجليل[8].

 

ولهذا يحق للمرء سؤال جاسم الحلوائي، على ضوء ماتقدم، فإذا كان الحزب قد جمد العمل في القوات المسلحة، فإن موافقة ابو عامل على التعهد لا تعني شيئا امام موافقة الحزب وفق شروط البعث .انا اعتقد إن هناك مبالغة في التعامل مع هكذا امور، خاصة وهو الذي قدم نفسه للعمل في الداخل برغم كل الظروف الصعبة وجبروت النظام الفاشي.

ولا يعد انتصاراً أن يصبح ابو عامل عضو لجنة مركزية او غير ذلك، فهذا الرجل الذي اعطى كل حياته للحزب منذ الخمسينات وكان مثال الاحترام والطيبة والتواضع في كردستان . وكنا نحن الانصار نقدر فيه المواقف والشجاعة الكبيرة. نعم هو بطل من الحزب مثل الابطال الذين صمدوا امام زنزانات البعث وناظم كزار واجهزتهم الامنية.

ويعتقد القيادي السابق عادل حبة في حوار تلفوني معه حول الأمر، في 23 كانون الاول 2019 ، بأن علينا اخذ الظروف انذاك بنظر الإعتبار، فالامور تختلف في تقييم المواقف بإختلاف الظروف. وأتفق معي بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو الحق الأوحد في التقييم. ورأى الرفيق حبه بأن تغيير مواقع الراحل أبو عامل  القيادية كان لسبب يتعلق بمهام الحزب وليس بسبب موقفه المشار اليه اعلاه.

 

الفقيد صالح مهدي دكله (ابو سعد)

صالح مهدي دكله، أحد قياديي الحزب الشيوعي العراقي، الذي ترك صفوف الحزب، وصار قائداً لتجمع يساري ديمقراطي حليف للحزب في الثمانينات. ومن كتابه من الذاكرة سيرة حياة، نقتطف:

" في نيسان عام 1963 جرت مباحثات الوحدة بين كل من النظام السوري، حيث تحقق في سوريا انقلاب مماثل لانقلاب شباط وجاء البعثيون السوريون الى الحكم في 8 اذار، وبين الحكم البعثي في العراق، الى جانب جمهوية مصر العربية بقيادة جمال عبد الناصر. وقد تعثرت تلك المحادثات بسبب عدم جدية البعثيين العراقيين خاصة واغراقهم في النزعة الاقليمية والانفصالية، بصرف النظر عن الإدعاءات بالوحدة العربية. وحدث ان اعد البعثيون مذكرة تطالب بالاسراع في عقد الوحدة العربية بين الاقطار الثلاثة وطلب من المعتقلين الشيوعيين التوقيع على المذكرة المزمع تقديمها الى حكومات الاقطار الثلاثة، مصر والعراق وسورية. فعرضت عليّ بعد ان وقعها جميع المعتقلين، فمانعت في التوقيع، رغم اني من حيث المبدأ اؤيد الوحدة بين الاقطار[9]. وفي ظل الضغوط التي مارسها عليَ بعض الشيوعيين الذين اثق بهم وبدوافعهم الموضوعية النزيهة للتوقيع على المذكرة امثال الرفيق والصديق الراحل كمال عمر نظمي، اعدت النظر بالفكرة وذلك انطلاقا من صعوبة الوضع الذي تمر به الحركة الشيوعية واستفحال القمع الدموي التي تمارسها عصابات البعث ضد الحركة الشيوعية خاصة وضد الحركة الديمقراطية والوطنية عامة. ورأيت حينها،  وهذا اجتهاد مني، ان دخول الانقلابين العراقيين في وحدة سياسية قد يؤدي الى اضعاف قبضتهم القمعية على الحركة الوطنية، وقد يحصل انفراج يمكن ان تستغله الحركة في العراق. ولهذه الاسباب لم ارى حرجا في التوقيع على المذكرة التي لم تنشر في الاساس، لان البعثيين حاولوا بتصرفاتهم الصبيانية دون استمرار المحادثات. ولكن هذه الحادثة وان لم تؤثر على وضعي في الحزب الشيوعي العراقي،  وواصلت التمتع بعضويتي كاملة في اللجنة المركزية، الا انها اثرت نفسيا بسبب موقف بعض الرفاق الذين يصطادون في المياه العكرة[10].

ففي اجتماع عقد في موسكو في حزيران 1964 ونحن نناقش العديد من الامور، فاجأني عزيز الحاج، الذي انهار في اول لقاء مع مخابرات البعث عام 1969 في ذلك الاجتماع بأن اراد معرفة رأيي في الوحدة العربية، فأجبته باني من مؤيديها ليس الان بل من زمن [11]. ومع انه لم يجر معي اي حديث او محاسبة حول هذه الحادثة منذ وصولي الى موسكو في ايلول عام 1963 وحتى اواخر عام 1964 وهو عام عودتي ثانية الى العراق، لكن عند وصولي الى بغداد بداية 1965 التقيت بالرفيق عمر علي الشيخ، وفي اثناء الحديث فاجأني بالموضوع نفسه. فاستغربت كيف ان بعض الرفاق لايقيمون وزنا لكل ما تعرضت له ولكل مواقفي، بل يتشبثون بموقف واحد كان لي فيه اجتهاد خاص ولا اعتبره خطأ او ضعفأ مني...! فمن مجموع 12 رفيقا وقعوا بيد العدو من اعضاء اللجنة المركزية استشهد بشرف كل من سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي ومحمد حسين ابو العيس و جورج تلو وعبدالرحيم شريف و حمزة سلمان ونافع يونس، وترك الحزب بسبب الخيانة والمواقف المتخاذلة او الضعيفة كل من هادي هاشم وشريف الشيخ. اما عزيز الشيخ وعبد القادر اسماعيل فقد ابتعدا بسبب ضعف موقفهما. انا الوحيد الذي نجوت وحررت نفسي من الاعتقال في حين اختفى في قرى الوسط زكي خيري وباقر ابراهيم وفي كردستان عزيز محمد وعمر علي الشيخ والبقية الباقية في الخارج" [12].

ويعتقد القيادي السابق عادل حبه في حوار تلفوني لي معه في كانون الأول 2019، بعدم وجود شيء ضد الراحل صالح دكله، ماعدا بعض الشكوك حول صحة عملية هروبه من السجن عام 1963. وعزى الرفيق حبه ذلك الى الحساسيات بين بعض القياديين والتي تسبب إثارة بعض القضايا غير الدقيقة.

جاء في قرارات الكونفرس الثاني للحزب الشيوعي العراقي ايلول 1956 (ان الارض التي يقطنها الشعب العربي في العراق هي جزء لايتجزأ من ارض العروبة وان الشعب العربي جزء لا يتجزأ من كل الامة العربية التي مزقتها المؤامرات الاستعمارية، فالامة العربية هي امة واحدة تمتلك جميع الخصائص القومية للامة الواحدة). (ان الطريق الى الوحدة العربية ينفتح على اساس زوال الاستعمار عن العالم العربي وتحقيق الاصلاحات الديمقراطية. وبهذا الخصوص يؤكد الترابط بين حركة التحرر العربية والقضية القومية الكوردية حين يؤكد في سبيل التحرر الوطني والقومي لجماهير الشعب العراقي في سبيل الوحدة العربية وتامين الاستقلال الذاتي لكردستان العراق وفق اتحاد اختياي كفاحي اخوي يفتح امام الشعب الكوردي طريق التحرر الشامل والوحدة القومية للامة الكوردية)[13]. وكان عنوان التقرير الذي صدر من الكونفرس هو (خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي- وهي دعوة لتحقيق الوحدة العربية والقومية).

أمام ذلك، ماذا يعني توقيع صالح دكله على دعوة لوحدة الشعوب العربية، واين الضرر في ذلك، حين يجد الكونفرس الثاني للحزب في التحرر الوطني من الاستعمار ثم الوحدة العربية على اسس دول مستقلة ودول تنتهج سياسة وطنية بعيدة عن تدخل الدول الاستعمارية. والسؤال هل الحزب الشيوعي بالضد من الوحدة العربية. انا اخالف تلك الاراء وخلال تجربتنا، نعرف إننا مع التحرر الوطني والوحدة العربية على اسس الديمقراطية والوطنية الحقة، على ان تكون سياسة حركة التحرر العربي سياسة وطنية عربية مستقلة. يحتاج في رأيي فهم طبيعة سياسة الحزب الشيوعي والتعامل مع الواقع، وليس التعامل بانعزال ووفق ارادات محددة.

ان التشكيك في وجهات النظر او شطب رؤية اي عضو حزبي ليس صحيحا، وكأن الاخرون هم الأحق بإبداء الرأي! ماذا تعني ان عضو لجنة مركزية يبتعد من الحزب بعد ان تشكل قضية توقيعه على مذكرة تؤيد الوحدة العربية، مشكلة تدفعه لترك العمل الحزبي، وهو من ابطال الحزب منذ الاربعينات، حيث سجن وطورد وغيرذلك من السنوات التي عاشها.

نعم لم ينتخب في الكونفرس الثالث للحزب عام 1967، وممكن ان يتحمل جزء من ذلك، برغم ان صالح دكله عاد بعلاقات جيدة مع الحزب في نهاية السبعينات، وكان له دور جيد في نقل السلاح للانصار عبر سوريا من خلال المنظمات الفلسطينية. وفيما بعد اسس التجمع الديمقراطي العراقي  في 10 اذار 1983 برئاسته وكان له دور في دعم سياسة الحزب الشيوعي العراقي والكفاح المسلح.

يقول دكتور فائق بطي (الصحفي والموسوعي والناشط السياسي)[14]:

" ان صالح مهدي دكله ذاق مرارة السجون والانشقاقات والخيبات. وهو معروف بشجاعته ومواقفه الثورية عندما كان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، قبيل ثورة الرابع عشر من تموز 1958، حيث كان مسؤولا حزبيا قياديا للعاصمة بغداد. وكاد أن يستشهد اثناء اعتقاله من عناصر الحرس القومي في انقلاب شباط الاسود عام 1963، لولا نجاحه بالهروب من النادي الاولمبي في منطقة الاعظمية. لقد بقي ابو سعد وفيا لمبادئه، ووطنيا مخلصا لوطنه وشعبه، ومن يقرا مذكراته القيمة، يستطيع ان يتعرف اكثر على الانسان الرائع، مع العلم ان هذه المذكرات تعد من افضل ماكتبه عن غيره من قياديي الحزب الشيوعي العراقي. اذ كان امينا وصريحا، استطاع ان يجعل مسيرته النضالية درسا لمن يريد ان يكون عن حق مبدئيا، لاتزحزحه العواصف والتقلبات السياسية او تؤثر على نزاهته وزهده واخلاقه السياسية.،  اي مغريات ومنافع شخصية. لهذا جاء تشكيله للتجمع الديمقراطي العراقي بمثابة الخطوة الاولى لارساء حركة ديمقراطية يسارية في العراق. خصوصا اذا علمنا، انه لم يختلف مع الحزب الشيوعي مبدئيا،  بل اختلف مع قيادته سياسيا.

وفي مايتعلق بقيادة الحزب الشيوعي وتاريخهم النضالي،  بودي ان اشير أراء الراحل بطي في مقابلة مهمة معه:

سؤال: تحدثت باختصار مكثف في مذكراتك الوجدان بجزئه الثالث عن شخصيات عايشتها وعرفتها عن قرب اسهمت بصياغة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي منذ خمسينات القرن العشرين وحتى نهاية التسعينات منه كصالح دكله وثابت حبيب العاني وارا خاجادور وعامر عبد الله وعادل حبه وغيرهم.هل كان ذلك وفاء وشهادة محبة حذفت منها المواجهة مع عيوب ومثالب هذه الشخصيات وما جنته على مسيرة الحزب لتلافي احراج شخصي؟هل ان اللغة الايجابية التي وصفت بها سيرة هؤلاء هي طريق ومنهج يفيدنا بعرض التاريخ لاجيالنا لتتخذ منه الدروس وتجاوز الخطايا؟

الجواب: لم اتناول احد اولئك الرفاق والاصدقاء او غيرهم من الذين اكن لهم الود والاحترام من باب اللغة الايجابية في وصف سيرهم، بل تجد الجواب الشافي في ما اوردته سابقا عن الاسئلة لانهم جميعا، يتحملون المسؤولية، بل ارتكاب (الخطايا) التي رافقت وادت الى العثرات في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي، كل من موقعه ودوره في في تلك المسيرة المحفوفة قطعا بالمخاطر والمآسي. ان الدروس تؤخذ من تاريخ الحزب ومأثره وامجاده وليس من سلوكيات وسيرة الافراد فيه سواء كانوا قادة او كوادر، او حتى من كان في صفوفهم من طراز سياسي خاص.

..... ان المسالة لاتتعلق بالخيانة او التسقيط السياسي، ولا بالانشقاقات داخل الحزب، انما المهم الا يتحول من ينشق او يترك الحزب لاي سبب كان، الى عنصر معاد للحزب الذي سبق وانتمى له طوعا لا مجبرا،  كما فعلت خلال سنوات منذ العهد الملكي حتى الوقت الحاضر، بعض تلك العناصر وارتمائها في احضان الانظمة، ولا ننسى مالك سيف المعروف الذي اصبح محققا في مديرية التحقيقات الجنائية (بهجت العطية) ضد الشيوعيين بالذات،  ودور البعض مع اجهزة البعث وانخراط اخرين بالمخابرات الصدامية، فهل نسمي ذالك مراجعات مع الذات؟ هل من الطبيعي في مكان، ان يتنكر العضو في اي حزب، الى مبادئه او ان يتخلى عن عقيدته اذا ماترك نشاطه السياسي او في الاحزاب السياسية الاخرى. انا لا اقول بانهم خانوا او انتهوا سياسيا او اجتماعيا، انما اسميتهم لسبب من الاسباب، بالساقطين، ان جندوا انفسهم في خدمة انظمة معادية للشعب. والفارق هنا، ان اعداد كبيرة من الشيوعيين سبق وان تركوا حزبهم لاسباب قاهرة او شخصية، الا اننا لايمكن ان نضعهم في خانة السقوط السياسي، لانهم يعتبرون انفسهم من حملة المبادئ ويعتزون بها والامثلة كثيرة جدا.

 

[1]جاسم الحلوائي الحقيقة كما عشتها ص 186

[2]ثابت حبيب العاني سيرة ذاتية ص 468

[3]عادل حبه مقال (شبح الحزب الشيوعي يثير الرعب لدى عبد الحسين شعبان في 15/5/2014 في الحوار المتمدن

[4] فقد صوت الى جانب التوقيع على ميثاق الجبهة الرفاق عزيز محمد وباقر ابراهيم وكريم احمد ونزيهة الدليمي وثابت حبيب العاني وجاسم الحلوائي واحمد باني خيلاني وصوت ضد التوقيع الرفاق زكي خيري ويوسف اسطيفان وعمر على الشيخ ومهدي عبد الكريم وبهاء الدين نوري وسليم اسماعيل ( صدى السنين في كتابات شيوعي عراقي مخضرم زكي خيري ص58)

[5]تقيم سياسة حزبنا ص87

[6]نفس المصدر ص75

[7]عبد الرزاق الصافي  ص164

[8] استلمت الرسالة بتاريخ 18 اذار 2020ويذكر ايضا توسط الحزب رئيس الجمهورية احمد حسن البكر في سبيل اطلاق سراحه وقد وعد البكر الرفيق عامر عبد الله ولكن الاعدام نفذ في 28/12/1975 وبامر من صدام حسين وقد نعته طريق الشعب على انه توفي في ظروف قاسية.

[9]دكله من الذاكرة ص101 و102

[10]نفس المصدر ص 102 و103

[11]نفس المصدر 103

[12]صالح دكله ص104

[13]ص 126ثمينة ناجي يوسف –سلام عادل سيرة مناضل –التقرير السياسي للكونفرس الثاني

[14]مقابلة مع فائق بطي للاستاذ توفيق التميمي الحلقة الثامنة في صحيفة الاتحاد الديمقراطي في امريكا