عبور الشارع

خلال الايام الماضية هِجَرَ سكان المنطقة قراهم تاركين كل مايملكون، مساكن بأثاثها و محتوياتها، بساتين بمحاصيلها، حيوانات ومواشي ، تركوها لتكون وقوداً لنار اشعلتها قوات النظام و زبانيته من الخونة (الجحوش) ولَاذوا ناجين بارواحهم بمايستر اجسادهم من ملابس  بسيطةٍ وبعض الأغطيةِ ومؤونةٍ بسيطة. ناجين هرباً من البطش والقتل، باحثين عن سبلٍ للنجاة . كانت لهذه الجموع الغفيرةِ من الناس أمل بايجاد منفذا عبر الشارع ليأخذوا طريقهم نحو الحدودالعراقية- التركية.
القوات العراقية خلال اليومين الماضية استطاعت السيطرة والتمركز على معظم الربايا المشرفة على الشارع الواصل من زاخو حتى باطوفة ، مادفع الآف من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ للهرب من مناطق عشائر الگلي والسندي وممن لم يسعفهم الوقت للعبور من مناطقهم صوب الحدود التركية(طريق كيشان) فتوجهوا الى منطقة برواري بالا ،خصوصاً وان القوات العراقية قامت بتمشيط تلك المناطق واحتلالها قرية بعد اخرى. مفارز الانصار والبيشمركة المتواجدة في تلك المنطقة( السرية الثالثة ومحلية زاخو) اجبرت على الانسحاب أيضا مع تلك الجموع متوجهين صوب قرى برواري بالا .  بهذه الجموع التحق أيضاً سكان القرى المحيطة بناحية سرسنك وبامرني ومانكيش وإعداد من البيشمركة العاملين في هذه المنطقة ومعهم أنصار حزبنا الشيوعي- السرية الاولى. كانت عمليات احتلال القرى تتم بسرعة فائقة حيث لم تعطي سكان هذه القرى والبيشمركة إمكانية لاستعادة انفاسهم بعد احتلال كل قرية ،واحتلال القرى والتمركز فيها يتم بالتتابع، مماحدا بالكثير من القرويين الى الاستسلام بأمل ان يلقوا معاملة حسنة وان يتعاطف معهم ، لكن ذلك كان بعيد المنال حيث تم معاناتهم بقسوة شديدة وتصفيتهم في اماكنهم بدون رحمة أو شفقة . وتعرض عدداً من الپيشمركة والأنصار الى ذات المصير حيث استشهدوا لكونهم لم يتمكنوا من مواصلة الانسحاب نتيجة الإرهاق والتعب وكان الرفيق الشهيد ابو ستار احد الذين أدركتهم القوات العراقية اثناء احتلالها لقرية أرزة بعد مسيرة طويلة ومتعبة لانسحاب أنصار السرية الثالثة من مناطق عملهم.

 رفاق الربيئة المرابطة على جبل متين( مجموعة الدوشكا)  التحقوا بمفرزتنا ومعهم بغلاً محملاً بالسلاح الدوشكا والتصور حينها بأنناسنتَمْكن من إيصال حمولة الدوشكا هذه الى المقر البديل المفترضْ ، حيث ان وجودها( الدوشكا) سيكون له تأثيراً في دفاعاتنا. لكن (الرياح لم تجري بما تشتهي السَفْنُ)، حيث تم التخلص من الحمولة بعد إشتِدادْ القصف المدفعي على حركة مفرزتنا، وأذكُرُ هنا انني وضعت  فوق حمولة الدوشكا قماصلنا(أنا وآفاق ) لأننا تكاسلنا من حَمْلها وبعد اضطرار الرفاق المرافقين للحمولة من تركها، رميت قماصلنا ، فدفعنا ثمن ذلك الخطأ، ان نتحمّل برد الليالي القادمة وكان برداً قاسياً.
توزعت الأدوار لحركة المفرزة حيث مجموعة الاستطلاع والدلالة  تتقدم المفرزة ،وبعدها مجموعتناالمؤلفة من الرفيق مسؤول المحلية (ا.عادل السياسي١) والرفيق ابو أنيس وانا، مهمتنا(ابوأنيس وانا) هي حماية قيادة المحلية (الحزب)( هكذا كنّا نعتقد حينها)،لذا وضعنا الرفيق ابو عادل بيننا ابو انيس يمسك يده من أمامه وانا أمسك اليد الاخرى من الخلف. وبعدي تأتي الرفيقة آفاق ،ومن ثم الرفيقة انوار وأبو هدى وأبو عصام( حاملا جهاز اللاسلكي) وبعدهم المسؤول العسكري للمقر م. هشام ومعه عضو المحلية ر. ابو شهاب ومن ثم مجموعة الدوشكا( ابو عراق، ابو الحق، ابو شذى،عدنان(ابو القح) والفقيد عايد، وأبو شاكر(شكوري) و ابو نرجس وعدد آخر من الرفاق- لاتحضرني جميع الأسماء الان- للأسف) . دلالة المفرزة لإيجاد منفذاً لعبورالشارع كانت على عاتق رفاقنا من قرية بامرني، احمد بامرني وأخيه روژ وأبو ايفان . سرنا على هذا النسق من قرية درگلي مرورا بِقرى مويسكا
 و كاني مه زن تحت قصف مدفعي كثيف، وأبخرة الدخان المتصاعدة من حرائق البساتين المشتعلة على طول الطريق، هواجس  وقلق من ان تكون هذه الأبخرة لاسلحة كيمياوية  ، حيث ان النظام لم يتوانى عن استخدامها ضد فصائل البيشمركة والأنصار وفِي عموم المنطقة الكوردية . الأخبار تنتقل اثناء التوقفات في حركة المفرزة  عن طرق العبور الى الجانب الثاني من الشارع غير مؤئمنة. قلق وخوف في عيون الناس الذين نلتقيهم في طريقنا، هم ونحن وسط دوامة النار مُحاصريّن من كل الاتجاهات وخيار النجاةِ أمامنا هو إيجاد مَنْفَذ للعبور. نسير في نسقنا ولانعرف كيف و متى تأتي ضربة الحظ(المدفعية) لتأخذ منا الانفاس ويضع حداً ونهاية لما نَحْنُ فيه . فالمعركة القادمة، سوف لن تكون كما المعارك السابقة، فهي صعبة منذ ساعاتها الاولى ولاندري الى اَي مدى سيكون بإمكاننا ان نَنْفِذْ من هذه الكماشِهّ التي تحاول قطعات النِظَامْ العسكرية إطْباقِها علينا، لابد لنا من المناورة والتحرك السريع قبل فوات الاوان ، وان نتهيأ لما هو أسوأ.
مسؤولنا السياسي الاول صامت ومذهول لمايجري حوله. فقِرأئتِه وتحليله قبل ايّام لتحركات النظامِ لم تأتي وفق المواصفات النظرية التي إعتَمدَ عليها ، عليه ظل صامتا و لم يَقُلْ شيئا طيلةَ مسيرتنا. سار معنا مُنصاعاً لطبيعة حركة المفرزة وحركتنا (ابو انيس وانا)، من سرعةٍ وتَباطئ ووقوف، حتى وصولنا قرب حقول قرية خشخاشا حيث توقفنا لمعرفة ما إستجد من اخبار حول إمكانيات عبورنا الى الطرف الآخر من الشارع.
 مجاميع متفرقة من القرويين المنسحبين من قراهم والباحثين عن طرق النجاة، رجال، نساء، شيوخاً وشباب واطفال منتشرين في الوادي النازل من قرية بازئ والممتد الى قرية خشخاشا وقرية تشيش محتمين بالصخورالكبير على جانبي الوادي وفي مواضع التحصين التي اعتاد أهالي القرى من حفرها على أطراف قراهم وبالقرب من بيوتهم في القرى ،  صراخ وعويل لنساء فقدوا أطفالهن في الطريق، أطفال يبكون بحثا عن آبائهم وأمهاتهم انقطعوا عنهم اثناء المسير. بغال محملة بهوادج مربوط ٌعليها أطفال تصرخ مرتعبةٌ من القصف المدفعي، واُخرى تحمل شيوخا أنهكهم تعب الطريق وأحاسيس بان نهايتهم اقتربت ولا أمل لهم بقبر عليه شاهدةً تحمل أسمائهم.
 أرتال العربات المصفحة و الدبابات والعربات المحملة بالجنود والجحوش تسير على الشارع ، رتل بعد اخر ولا توقف للقصف المدفعي و وقنابل التنوير جعلت من مكان انتظارنا هذا قرب أطراف قرية تشيش  نهاراً،  القمر يزهو بضوئه وعيوننا تترقب بحزن وقوف أرتال القوة العسكرية، عْلَنَا نجد منفذا عبر قسيسة الماء( أنبوب تصريف مياه الروبار القادم من گلي بازى وخشاشا والواصل الى تشيش و قرية قمري الموجود تحت الشارع قطره بحدود المترين) التي أكدت المعلومات بأنه توجد إمكانية للعبور منه، وان الجحوش يستعدون لاحتلال الربايا المحيطة بقرية تشيش وقرية قُمريّ. الساعة قاربت الرابعة صباحا حركة ألارتال العسكرية على الشارع توقفت قليلا وجمعنا الغفير، بيشمركة واهالي قرى المنطقة متأهبا، منتظرا إيعاز الحركة ، المسافة الى الشارع لم تكن قصيرة والحركة وسط هذه الجموع اليائسة لن تكن سهلة ويَسْيّرة، رجال ونساء مُنَكَبين بحقائب واطفال يصرخون ، شيوخ وعَجائِزَ يحثون الخطى للحاق بأبنائهم وبناتهم ، شباب ورجال يحملون مرضى وعَجَزَة لايقوونَ على السير، وسط هذا الحشدالتأم شملنا ليوم الحَشْرِ ،الذي نسمع به ولَم نره، الْيَوْمَ نراه ماثلا امامنا، سباقٌ للفوزِ بالحياة، ونحن كماالجموع نَشدُ العزم لهذا السباق .
 جاءنا الإيعاز بالحركة ومعلومات بإمكانية العبور الى الطرف الثاني من الشارع ، مَسْيرالمفرزةِ سيكون بمحاذاة مجرى الروبار في الوادي ووسط هذه الجموع المتحفزة للسباق والظفر بالنجاة قبل إغلاق هذه الثغرة لمجرد قدوم  اية عربة نقل  عسكرية قادمة على الشارع. الطريق الذي كنّا نسير فيه فرادى وبالتتابع في الحالة الاعتيادية لحركة المفارز، صارت الجموع تتطافر بجواره  وتسلك ممرات لتُعَجِلْ بحركتها وتسير في مجرى الماء غير مبالية بالبلل. الجميع يحث الخطى للوصول الي القسيسة. وتيرة حركتنا تتسارع بفعل  توقف القصف وانتشار خيوط الفجرالاولى، المشهد الذي أمامنا لايصدق، فتحة القسيسة هذه يجرى فيها ماء يصل مستواه الى مافوق الحزام وتيارالماء قويا يتطلب التوازن والانتباه وبذل جهد للعبور. نحن نسير بنسقِنا ولابد من التأكد بين الآونة والأخرى بان الأمور تسير على مايرام. فتحة القسيسة هذه هي منفذنانحو استمرارية الحياة، فالجميع مندفعا مقاوماً شده تيار الماء، الأطفال الصغار لايستطعيون الخوض في الماء هنا وهم بحاجة للمساعدة، أصوات الاستغاثة والصراخ يمزق القلب. نحن رفاق المفرزة  قريبين من بعضِنا ولَم نتفرق وسط قوة تدافع الجموع وارتفاع منسوب المياه الجاري في الانبوب(القسيسة)بفتحته الصغيرة نسبيا مقارنة بالجمهور الغفير الذي يسعى للخلاص. استطاع الرفاق من تقديم العون والمساعده للأطفال والعوائل وعدد من الرفاق المتعبين في عبور القسيسة. بدأ الفجر بالبزوغ ونحن نعبر القسيسة صوب قرية قُمريْ، جموع المنسحبين يخرجون من الماء سالكين الطريق صعودا مستفيدين من هدوء تحرك الجيش والجحوش آملين بالوصول الى الأماكن الآمنة والتي يمكن فيها الاحتماء من القصف والطيران. بعد انتهاءنا من عبورالقسيسة,  تأكدنا من عبور مجموعتنا وباشرنا صعود المرتفع المحاذي لمجرى الروبار بعد خروجنا بملابسنا المبللةِ . سرنا لمسافة قصيرة حيث وصلنا الى تقاطع لطريقين الاول نحو اليسار والذي كان يسلكه الناس راكضين بكل ما لديهم من قوة ونتيجة لكثافة الأشجار فكانوا يختفون عن الأنظار بسرعة ،وكان علينا ان نبقي سلسلة الحركة متواصلة تحسبًا لما يطرأمن تطور في تحرك الجيش والجحوش وخوفا من السير في ممرات غير مؤئمنة. حدث ان الرفيق ابو نرجس وأثناء مسيرنا صعودا نحو قرية قُمري ان سلك الطريق المؤدي الى الربيئة المشرفة على القرية والتي كان الجيش قد احتلهاقبل قليل دون ان ينتبه بان لاأحد غيره يسير في هذا الطريق ، ولحسن الحظ ان انتبه احد الرفاق خلفه فأسرع لإبلاغه بالعودة الى طريقنا. واصلنا طريقنا بالصعود نحو قرية قُمري، كان ابوأنيس يحث الخطى ونحن نسير خلفه واوعز بان يمكننا أخذ قسطاً من الراحة والتزود بالماء بعد ان نتجاوز عين الماء بمسافة قليلة( كونه اعرف بطبيعة المكان) ولكننا وبعد ان وصلنا عين الماء، استمر ابوأنيس ومعه ابو عادل وابوهدى وأنوار نحو مكان يقع فوق عين الماء وبجانب صخرة كبيرة،  وبقينا أنا وآفاق وأبو عصام وأبو القح وعايد لنأخذ قسطاً من الراحة قرب بيدرٍ يقع على بعد عدة أمتار من عين الماء، دون ان نعير اهتمام بماقاله ابو أنيس من أهمية إيجاد مكان أمين للاحتماء به. في هذه الأثناء كان عايد قد اتجه نحو عين الماء ليجد عدد من قدور اللبن المتروكه ونيران موقدٍ متروكٌ للتوءْ ،حيث أبريق الشاي والاقداح جاهزه للاحتساء الا ان صاحب المكان غادرهُ قبل وصولنا المكان. عاد عايد بعدد من الأقداح مملؤة بالماء، فاخذت واحدة لاشرب.
ابو القح وأبو عصام وعايد  يقفون بالقرب من بيدر للعلف وان أقف  عند حافة الساقية حيث عين الماء وبيدي قدح الماء الزجاجي شربت قليل من الماء واستمع لأبو القح الذي استل  بدوره سيكارة من الباكيت وهب بايقادها وهو يقول
- شدعوه هل التطير ماكو ........ لم يكمل ابو القح جملته هذه حتى سمعنا دوي قذيفة ر.ب.ج ٧ لتنفجر في بيدر العلف وعلى مقربة من مجموعتنا ولشده الانفجار هذا انبطح الجميع أرضا دون يصاب احد واشتعلت النيران في البيدر وأما أنا فكان نصيبي بان تحطم القدح الزجاجي في يدي بعد ان رميت بنفسي خلف احد الصخور القريبة فاصطدمت بطرف الصخره  فأحدث جرح فوق الشفة العليا وامتلأ وجهي دما مما دعى افآق بان تصرخ تصورا منها بأنني أصبت نتيجة إطلاق القذيفة. لكنني طمأنتها والرفاق بأنني لم اصب.

يتبع

١ كان اكثر من رفيق يُكَنْى ب أبو عادل كأسم حْرَكيّ في الحركة الأنصارية وللتمييز عن الرفاق الآخرين سُمْيَّ بالسياسي لِأنه حينها كان مكلف بمهمة مستشار سياسي لإحدى المواقع الأنصارية . وللطرفة سالت مرة  الرفيق الفقيد ابو عادل الشايب ( أنور محمود طه) اذا كان الرفيق ابو عادل سياسي لعد انت شنو رفيق؟ أجابني أني كرونچي(  تعني بالكوردية  مرافق البغل)