الايام الاخيرة في گلي هسْپَه ( وادي الخيول) آب ١٩٨٨ ج ٤ / قاسم حسين

معركة گلي قُمري

كانت قذيفة ال ر.ب.ج٧ هي إشارة بدء الهجوم على قواتنا التي عَبَرَتْ الى كلي قُمريْ واشارة لبدء هجوم شامل على  كل المنطقة. الرفيق عدنان(ابو القح)والرفيق عايد أسرعا لجلب بنادقهم المركونة عند الصخرة القريبة من بيدرالأعشاب حيث ان تصريحهم( الذي لم يُتْمَمْ) كوّن المكان آمن ولا داعي للتَطَيّر لم يكن صحيحاً. بقية رفاق المفرزة ( مجموعة الدوشكا) مع عدد من رفاق السرية الثالثة ورفاق السرية الاولى الذين التقيناهم اثناء عبورنا القسيسة متوجهين نحو عين الماء صعوداً  حالمين بوقت قصيرللراحة ،إلا ان ذلك لم يتم لهم ، فالجيش والجحوش بدوأُ الهجوم بوابل من قذائف ال. ر. ب.ج٧ ورشاشات آلبي كي سي . نداءات تَدْعوّا الرفاق للاسراع بإحتلال القمم والتلال المحيطة بگلي قُمْريْ  لمنع الجحوش من القيام بذلك والرد على مصادر إطلاق النار لتأمين طريق انسحاب مفرزتناوجمع ٌمن الأهالي. مجموعتنا القريبة من البيدر انقسمت ، عدنان وعايد انضموا الى الرفاق (مجموعة الدوشكا،عدد من رفاق السريتين الثالثة والاولى ومعهم م.هشام)  لاحتلال التلال والقمم وتنظيم خطوط انسحابنا، ابو عصام وانا ومعنا آفاق التحقنا بالرفاق ابو انيس وابوعادل وأبو هدى وانوار المتمترسين خلف صخرةٍ تبعد بمسافة قصيرة عن عين الماء .اتفق على ان نقوم ابو هدى وأبو عصام وأنوار وآفاق وأنا بمرافقة ابو عادل السياسي وتأمين انسحابه الى مكانٍ آمن، وان يلتحق الرفيق ابو انيس  بالرفاق الآخرين للدفاع وتأمين خط الانسحاب. تبادل إطلاق النار متواصل بين رفاقنا وبين الجحوش،وسباق احتلال التلال والقمم المحيطة بگلي قُمريْ الطويل سيكون الفاصل في حسمِ سلامةِ انسحابنا. ان تُقاتِلْ في وضعٍ مُتَمَتْرس خلف صخرةٍ وترى مصادر إطلاق النار ، غَيّرْ ان تكون في حالة انسحاب، ولاتعرف مواقع اعدائك ومصادر إطلاق القذائف والنيران عليك . اختلطت نداءات الرفاق الداعية للصعود نحو التلال والقمم مع أزيز الرصاص القادم من اتجاهات مختلفة.

رفاق اخذوا هاي التلة بسرعة...

اضرب، اضرب، لك سكته الهذا... ذاك،

وره ذيج الصخره......

وسط الصراخ وأصوات الانفجارات وإطلاق النار ، تحرك بعض الرفاق بسرعة للصعود والرد بشجاعة على مصادر النيران مما فسح لمجموعتنا إمكانية للحركة باتجاه صخرةٍ كبيرة محاطة ببعض الأشجار،  تبعد قليلاً عن عين الماء  بحثاً عن مكان نحتمي به و متسعاً من الوقت لأخذْ الانفاس بعد ركضنا السريع صعوداً ، ووقتاً لإعادة  ترتيب انسحابنا . مسؤولنا الاول مُشَتَتْ الأفكار مُربَكْ، مُصْفَر الوجه كورقةِ شجرٍ خريفية لاحياة فيها، يَرْقَبْ مايجري، غير مُصَدقْ عينيه بما يجري حوله، متسائلا.. "الا يوجد مكاناً أفضل من هذا المكان نختبئ فيه ؟"متناسياً، ان هذه المعركة حقيقة وهي ليست صولةٍ يقوم بها الجيش ويعود ادراجه كما يتَصَور . صليات الرصاص المُطلقة علينا تصطدم بالصخرة التي نحتمي بها وترتد، البعض منها يصيب  أوراق الأشجار فتتساقط فوق رؤوسنا. لابد لنا ان نغادر المكان بسرعة فنحن نقع ضمن مدايات الرماية ومسيرنا سيكون الى الأعلى وفي منطقة مكشوفة تتطلب جهدا مضاعفاً وسرعة لإيجاد موقع أفضل للاحتماء به والدفاع في حال حدوث تطورات في مجريات المعركة. بدأنا الصعود الحاد بخطىً حثيثة بعيداً عن الطريق المعتادة ويتوسطنا الرفيق المسؤول الاول( فهو بذمتنا) تلاحقنا رشاقات الرصاص،فامتزج التعب والإرهاق بالخوف والقلق مما ستؤول اليه معركة الْيَوْمَ . حالة الاحباط والانكسار التي انتابت أحد الرفاق المنسحبين الذين التقيناهم في صعودنا هذا، دعته الى رميّ بندقيته أرضاً معلناً تخَلَيّه عنها مردداً،" هاي هم ماأريده". مزمجراً بعبارات تنم عن غضب واستياء مما جرى امام ناظريّ المسؤول الاول، حالة هذا الرفيق دعتنا نحن الأربعة ( انوار، ابو هدى ،آفاق، وأنا) بالتناوب على حمل سلاحه فوق حمولتنا وفي هذا الصعود الحاد وتحت رحمة مطلقي الرصاص والقصف المدفعي الكثيف.

الرفاق الآخرين من المجموعة المنسحبة واصلوا سباقهم مع جحافل الجحوش المدعومين بقوة من الجيش للسيطرة على التلال والقمم الجبلية المحيطة بالگلي، فاستطاعوا السيطرة على عدد من التلال الاستراتيجية لحركة الناس والمجموعات المنسحبة من الرفاق وبذلك تمكنت من صد هجمات الجحوش المتكرره والرد عليهم ببسالة وقوة، وأعْطَتْ الفرصة للجموع المنسحبة بان تواصل مسيرها نحو السلسلة الجبلية الواقعة الى الشمال من قرية هرور باتجاه الحدود العراقية التركية. استمر القتال في هذه المعركة حتى ساعات متأخرة من نهار ذلك الْيَوْمَ .

مجموعتنا واصلت صعودها العشوائي تاركين مسافات مناسبة بيننا في الحركة ، انتقالنا بين الصخور والاشجار واحداً بعد الآخر  للاحتماء وإتقاء للإطلاقات النارية والقصف  المدفعي العشوائي. استمر الحال هذا لعدة ساعاتٍ، حتى وصلنا مكان صخري يقع الى شمال قرية قُمري. في هذا المكان أحسسنا ببعض الآمان بعد ساعات من القلق والخوف من الرمي العشوائي(الطائشات). اخذنا قسطا من الراحة تحت ظلال الأشجار والصخور الكبيرة وعيوننا ترقب الطريق الذي سلكناها عَل ان يأتي الرفاق الآخرين، أصوات قصف مدفعي وإطلاق نار مستمر في الوادي، طائرات هليوكوبتر(طائرات الأباتشي ) تجوب اجواء القرى الممتدة من  قرية كاني بلاف حتى مقرنا في گلي هسْپَه ذهابا وإياباً، تبتعد واحدة لتختفي خلف سلسلة جبل متين، وتظهر اخرى لتجوب اجواء المكان مجدداً، الْيَوْمَ بدأت عمليات الانفال، قوات النظام وجحوشهم في حالة تأهب للبدء بارتكاب جرائمهم. نحن من مكاننا هذا نراقب ونترقب الجديد والطارئ في الوضع ولاندري كيف تسير مجريات المعركة في الوادي الذي تركناه. بعد الاستراحة واصلنا المسير نحو مكان اللقاء المتفق عليه (مع بقية الرفاق) تحت شمس ظهيرة شهر آب، نسير بحذر وترقب،تفصلنا عن بعضِنا مسافات ، متأهبين للطارئِ من طيرانٍ وقصف، جل ماكنا نفكر به اثناء المسير هو ايجاد صخرةٍ أو شجرةٍ  للاختفاءِ والتَسَتٌرْ  بها اذا ما ظهرت طائرات الأباتشي في سماء طريقنا المكشوف هذا. فترات قصيرة من الاستراحة تخللت مسيرتنا التي استمرت عدة ِساعاتٍ ولم نصل الى المكانِ المٌبْتَغى . آثار التعب والارهاقِ والعطش يعلوا وجوهنا وقدرتنا على المشي آخذت تتضائل، احساس بإن هذا اليوم مَرَّ بِسلام مع اقتراب حلول المساء حيث ان نشاط عدونا في القصفِ والطيران ِخَفَتْ. مجموعة الرفاق الذين انسحبوا قبلنا من گلي قٌمريْ ، قطعوا شوطاً طويلاً من مسيرتهم نحو الحدود وتمتعوا بقسط من الراحة والنوم بعد مسيرة ليلة مٌضْنية، مختفين بين الصخور وتحت الأشجار ،بإنتظار حلول المساء لتكملة مشوارهم نحو الحدود. توقفنا للاستراحة لبعض الوقت والتأكد من اتجاه حركتنا، التحق بنا تبعاً الرفاق الذين افترقنا عنهم صباح هذااليوم،مجموعة بعد اخرى بعد يوم حافل بالمخاطر والصعوبات، المفرح ان جميع الرفاق عادوا سالمين بعد معركة گلي قٌمريْ، وكعادة الانصار بعد عودتهم من المعارك، يبدأ الجميع باستذكار مجريات المعركة وتفاصيل ماحدث من طرائف و( نصبات) ليحولوا تراجيديا المعارك هذه الى مواقف كوميدية تدعو للضحك ولتخفف من عمق المعاناة والمآسي المرافقة لهذه الأحداث. التقينا ابوأنيس وعدد من الرفاق الذين ساهموا في معركة الگلي و تبادلنا أطراف الحديث عن مجريات ماحدث ، بعدها واصلنا المسير الى حيث يتجه جميع المنسحبين  من بيشمركة وعدد قليل من الأهالي.

لا مقرَ لنا نلتجأ اليه ولاندري كيف سيكون الوضع الأمني لهذه الليلة، هل سنحظى بليلة للنوم هادئة أم اننا سنقضي ليلتنا هذه كسابقتها، أسئلة تدور في ذهن كل رفيق منا ولااحد منا يعرف الاجابة على هذا السؤال ،لذلك رفع الشعار (خليه وين ماتصير خلي تصير)،  شعار كنّا نردده في الأوقات العصيبة .خيوط الظٌلمةِ بدأت انتشارها في سمائنا ونحن الى الان لم نصل الى حيث يجتمع الرفاق في المكان(المقر المزعوم). توقفنا لاستراحة قصيرة  عند مفترق طريقين ، الاول  يتجه  نحو اليمين الى قرية آشوت التركية حيث يتطلب مسير  اليها زهاء ٤-٥ ساعات في منطقة جرداء ، والطريق الثاني يتجه نحو گلي خانوكي١. في الاستراحةِ  هذه افتقد الرفيق ابو أنيس حقيبته الظهرية(العليجة) وفيها جواز سفره وبعض حاجياته، فاسرع عائداً لمكان استراحتنا السابقة عله يجدها، فذهب على ان نلتقي في لاحقاً. مسيرنا في ساعته الاخيرة في القمم الجبلية الفاصلة للحدود العراقية التركية، ونحن في طريقنا الى گلي خانوكي حيث مكان اللقاء مع الرفاق الذين سبقونا. بدأنا نزولنا نحو الوادي وسط ظلام الليل وتعب الجسد، واحلام بقدح شاي ورغيف خبز يعيدان بعض من القوة الى اجسادنا المتعبة بعد يومنا هذا.لم يمضي من وقت مسيرنا وقتاً طويلاً حتى سمعنا صوتاً منادياً

تو كيي (من أنت)

احنه رفاقكم

كان المنادي الرفيق جلال  ومعه رفيق اخر حيث كانا في نوبة حارسة في المكان ، اقترب منا مرحباً ومؤكدا ان الرفاق موجودين في الوادي على مسافة قريبة. كان في هيئة وهندام الرفيق جلال حينها أشياء مميزة على سبيل المثال انه كان يحمل مسدسين في حزامه وواقية أسلحة كيميائية لاأعرف من أين حصل عليها، وبعد مناقشة( دهِره) قصيره عرفنا من بيشمركة حدك كانوا سباقين في إلقاء أسلحتهم  بأكوام أرضاً والدخول الى الأراضي التركية وان الذي يحمله هو مماتُركْ، ليس سلاحاً فقط وإنما أشياء اخرى كثيره لم يقوى الناس المنسحبين على حملها فتركوها. وان معظم عوائل رفاقنا وبعض الرفاق أيضا غادروا الى الأراضي التركية.

رافقنا الرفيق جلال الى مكان لتجمع عدد من الرفاق، واقترح علينا بان نقضي ليلتنا في هذا المكان لان النزول الى أسفل الوادي مزعجاً ولايوجد مكاناً للنوم.وانشغل كل منا في البحث عن مكان لنومه ولحسن الحظ ان القرويين قبلنا قد أعدو عدد من هذه الأماكن لنومهم (تسوية الأرض،واحطتها بعدد من الصخور لتكون مصداً للريح)، عثرنا على مكان قريب من مكان نوم الرفاق الآخرين، خلدت آفاق للنوم بعد ليلةٍ ونهار حافلين بالرعب،لكن البرد جعلها تتكور حول نفسها، فبادر الرفيق جلال بحمل (جِلألْ البغَلْ) ووضعه عليها . فصاحت مستنكرةً ... شنو هذا ريحته تقتل... فقال لها... تغطي بهذا اليوم... باچر راح تتحسفين عليهم...

 

يتبع

 

 ١گلي خانوكي بالكردية تعني وادي البيت الصغير، يقع الوادي هذا على مقربة من الخط الحدودي العراقي التركي مسافة 100 من بداية الوادي وأقرب قرية تركية لها هي قرية آروش حيث تبعد مسافة كيلومتر. سميت گلي خانوكي لوجود بيت صغير بغرفة واحدة كانت يقطنها راعي اغنام، وكانت تسمى أيضا گلي شهيدان حيث استشهد فيها مجموعة من بيشمركة القيادة المؤقتة لحدك في عام ١٩٧٩ بعد ان غارت عليهم مجموعة من طائرات الهليوكوبتر. كنت قد مررت بهذا الوادي لمرتينفي عام ١٩٨٠،في المرة الاولى مع مفرزة صغيرة لايصال بريد عاجل الى مقر كوستا(أربعة رفاق، ابو قصي، ابو شهاب،ابو رضية وانا)، وفي المرة الثانية مع مفرزة لنقل اول إذاعة للحزب الشيوعي العراقي الى مقر هيركي مع الرفاق ابو مازن والشهيد ابو كريم وأبو تحسين ومجموعة آخرى من الرفاق. أما المرة الثالثة فهي مغادرتنا نحو الأراضي التركية بعد ان دفنا  آخر قطعتي سلاح نحملها،الرفيق ابو هدى وأنا.