تُعد المناهج الدراسية من أهم الأدوات التي تُستخدم لتشكيل وعي الأجيال القادمة، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هي أيضًا وسيلة لتوجيه الفكر وإرساء القيم، ما يفترض ذلك أن عملية تغيير المناهج الدراسية سواء كان ذلك بهدف تحديثها أو تنقيتها، تكون مدروسة بعناية، لضمان عدم استخدامها كسلطة رقابية فكرية لفرض رؤى أو أفكار معينة، حيث يُستخدم التعليم عند السلطات المستبدة، كأداة لتوجيه العقول نحو اتجاهات محددة تخدم مصالح سياسية أو أيديولوجية محددة، بما يخرجه عن مهمته الأساسية في فتح أبواب المعرفة الشاملة أمام التلاميذ، وبناء ذواتهم المستقلة والفاعلة.
في سورية، ربما يمكن القول إن حكومة تسيير الأعمال كانت محقة في الإسراع بإجراء سريع طاول المناهج الدراسية بعد انتصار الثورة (8/12/2024)، وهروب رئيس النظام من البلاد بعد حربه المدمرة على شعبه، وهنا أقصد ما أعلن عنه من تحرير المناهج من تمجيد النظام السابق، وهذا حق، وهو مطلب شعبي غايته إزالة المواد التي كانت تُكرّس لسلطة الحزب الواحد، وتروج لأفكار النظام الحاكم، وبخاصة أنها في الأساس بدون أي قيمة تاريخية أو علمية.
إلا أن عملية التغيير هذه، سرعان ما تحولت إلى ساحة للصراع الأيديولوجي -السياسي، بسبب أنها امتدت إلى ما هو أبعد من مجرد إزالة محتوى دعائي للنظام السابق، لتطاول تغييرات علمية واجتماعية في محتوى المناهج، فمع أهمية حذف الدروس المتعلقة بتمجيد نظام الأسدين (الأب والابن) لكن في المقابل، تم التعاطي مع نواح أخرى بخلفيات أيديولوجية أو تعتيم على معلومات علمية، وهو ما أدى إلى اعتبار أنه تم إدخال محتوى يخدم التوجهات السياسية للحكم القائم الحالي، مما جعل العملية تبدو وكأنها أداة للرقابة الفكرية أكثر منها عملية تنقية للتعليم.
فالمناهج الدراسية هي أكثر من مجرد كتب دراسية، لأنها تشكّل الأساس الذي يُبنى عليه وعي الطلاب، وأي تحول بهذه المناهج عن طبيعته التعليمية، يُؤثر على طريقة تفكيرهم وتقييمهم للعالم من حولهم، وعليه، فإن التدخل في المناهج الدراسية لتوجيه الفكر أو حذفه أو تغييره بما يتناسب مع رؤية معينة يُعد نوعًا من الرقابة الفكرية التي تقيّد حرية التفكير والنقد.
ولعل من المهم التأكيد على أن تدخل الرقابة الفكرية في التعليم لا يقتصر فقط على حذف أو إضافة مواد دراسية، بل يمتد إلى كيفية تقديم المحتوى، وطريقة تدريس المواد. فالرقابة على المناهج قد تشمل أيضًا التدخل في اختيار الكتب الثقافية، والتأثير على طريقة تقديم المعلومات في الفصول الدراسية، بل قد تصل إلى فرض قيود على المعلمين في كيفية مناقشة الموضوعات الحساسة، حيث تؤثر كل هذه الممارسات في قدرة الطلاب على التفكير النقدي وتكوين آرائهم المستقلة.
وعلى رغم أنه في عصر العولمة والانفتاح الرقمي، من الصعب على الحكومات فرض رقابة شاملة على الفكر من خلال المناهج الدراسية أو غيرها، حيث أتاح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للطلاب والمهتمين بالمعلومات الوصول إلى مصادر تعليمية متعددة ومتنوعة، والخشية من أن تكون تلك المصادر من الناحية العلمية، أكثر دقة وشفافية من المناهج التعليمية، ما قد يفقد العملية التعليمية ثقة الطلاب وأهاليهم، لأن التعليم الرسمي والمناهج الدراسية هو المصدر الأساسي لتشكيل الفكر الجمعي، مما يجعل من مسؤولية التدقيق في المناهج وصدقيتها وانفتاحها على العلوم والنظريات العلمية ضرورة، حيث ينظر لها أنها هي المجال الأكثر تأثيرًا في بناء وعي الأجيال الجديدة.
من هنا، تبرز أهمية القول، بضرورة أن تكون عملية تعديل المناهج شفافة ومدروسة، بعيدًا عن الأجندات السياسية أو الأيديولوجية، فالمناهج أداة لبناء الفكر النقدي وتشجيع التفكير المستقل، وضمان أن التعليم يُعزز من قيم الحرية، والمساواة، والتسامح، والعدالة، ويُتيح للطلاب فرصة التعبير عن آرائهم والتفاعل مع أفكار متنوعة.
إلى جانب المناهج الدراسية، تلعب هيئة التدريس دورًا رئيسيًا في تشكيل البيئة التعليمية، أي أن هذه الهيئة قد تتعرض أيضًا للتغيير ضمنًا حيث يمكن لضغوط اجتماعية وسياسية أن تؤثر على استقلاليتها وحتى على خياراتها الشخصية، في بعض السياقات، مثلًا قد تجد المعلمات أنفسهن مضطرات لارتداء الحجاب أو التظاهر بارتدائه كوسيلة لضمان بقائهن في وظائفهن، خاصة في ظل بيئات تُفرض فيها معايير اجتماعية أو أيديولوجية صارمة، هذا التوجه لا يقتصر على كونه قيدًا على حرية الأفراد، بل يمتد ليؤثر على طبيعة التعليم نفسه، حيث يعتبر هذا إحدى وسائل المنهج الخفي في التغيير.
ولتوضيح ذلك، أستعين بما دلل عليه الكاتب أنس غنايم في مقال له منشور في موقع الجزيرة في 18/7/2017 في معرض حديثه عن تغيير المناهج في الأردن من تأثير المنهج الخفي على التلاميذ أيضًا حيث يرى الباحث جان مارتن بأنّ المنهج الخفي هو "التعلم العرضي غير المقصود الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف غير مخطط لها بالإضافة إلى تلك الأهداف المخطط لها" ومن ذلك العرض أمكن تحديد المفهوم الإجرائي للمنهج الخفي بأنه "القيم والمعايير والمعتقدات المنقولة للتلاميذ بدرجة كبيرة من خلال اللاوعي والعمليات اللا نظامية في بيئة وبنية المدرسة".
بمعنى أن المعلمين يصبحون أدوات لنقل قيم معينة تعكس رؤية السلطة أو المجتمع المهيمن، بدلًا من أن يكونوا وسطاء للتفكير الحرّ والنقدي، وعندما تُفرض مثل هذه المعايير، فإنها تُرسل رسالة ضمنية للطلاب بأن الامتثال هو الخيار الوحيد، مما يُضعف من قدرتهم على استيعاب قيم التنوع والتعددية.
إن خيارات التعديل والتغيير تبقى دائما في أيدي السلطات الحاكمة عندما تغيب سلطة الشعب عليها، ولذا فإن الجمهورية (السورية) الثالثة التي تتشكل معالمها اليوم تحتاج، بعد النصر الكبير الذي تحقق، إلى النهوض بالعملية التعليمية لأنها إحدى أهم الركائز التي تُبنى عليها المجتمعات، وإن أي تدخل غير مسؤول في المناهج قد يؤدي إلى تكريس الانقسامات الفكرية والاجتماعية، في وقت سورية أحوج ما تكون فيه إلى توحيد الجهود للنهوض بها في كل المسارات، وأولها التعليم لأنه أساس بناء مجتمع أكثر نضوجًا وتسامحًا وابتكارًا.
*كاتبة سورية.