بغداد ـ طريق الشعب في 31-7-2025

لمناسبة مرور تسعين عاماً على انطلاقة الصحافة الشيوعية في العراق، أجرى الزميل بسام عبد الرزاق لقاءً خاصاً مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الرفيق رائد فهمي، للحديث عن مسيرة هذه الصحافة، وما واجهته من تحديات وتحولات على مدى العقود التسعة، فضلاً عن دورها في المشهد الإعلامي والسياسي في الوقت الحاضر، وقدرتها على التكيّف مع المتغيرات ومواجهة حملات التزييف والتضليل، في ظل اشتداد الصعوبات والتضييق على الحريات، وفيما يلي النص الكامل للحوار.

استقطاب أقلام بارزة جداً ومؤثرة ثقافياً

بسام عبد الرزاق: شهد تاريخ الصحافة الشيوعية العراقية، على مدى تسعة عقود، الكثير من المتغيرات والصعاب، سواء حينما كانت تصدر سرية أو في فترات النشر العلني، هل لكم أن تحدثونا، عن مسيرة هذه الصحافة، وعن السر في قدرتها على الصمود والتكّيف مع الظروف المختلفة، خاصة في السنوات العشرين الأخيرة.

رائد فهمي: بدءاً، أود أن أحيي وأهنئ الرفاق والأصدقاء والصحفيين العاملين في صحافة الحزب وإعلامه، الذين يبذلون جهوداً استثنائية، كي تتمكن وسائل اعلامنا من أداء دورها، في أن تكون دوماً معبّرة عن معاناة الناس ومشاكلهم المعيشية، وأن تنقل فكر الكادحين وتلتقط هموم مختلف شرائح الشعب التي غالباً ما تفتقر إلى صوت يعبّر عن واقعها، وأن تلعب دوراً كبيراً في تنمية الوعي، سواء السياسي أو الاجتماعي، ونشر الثقافة التقدمية بشكل خاص.

يمكننا حقاً أن نفخر بصحافة الحزب الشيوعي، التي استطاعت، ورغم ما واجهته من صعوبات كبيرة في المراحل المختلفة من تاريخ العراق المعاصر، أن تستمر في الصدور سراً أو علنا. وكانت لها قدرة كبيرة على استقطاب أقلام بارزة جداً ومؤثرة ثقافياً. وبالتالي كانت صحافتنا، صحفا فكرية، وصحيفا يومية اعتيادية، ذات تقاليد راسخة، وربما كانت مدرسة خاصة متميزة، تخرج منها صحفيون وإعلاميون بارزون اليوم في وسائل الإعلام الأخرى، والكل –أعتقد– يعترف ويشعر ويدين بالعرفان لهذه الصحافة. 

نفتخر بهذا، لكن حين تمتلك رصيداً من الموروث التاريخي ورصيداً كبيراً من الخبرة والتجربة، فإن من الواجب ان تستند إليه دائماً، وتغنيه وتثريه في نفس الوقت ووفق المعطيات الجديدة. وأعتقد أن صحافتنا حتى هذا اليوم، رغم كل هذه الصعوبات، لا تزال تتبوأ موقعاً متميزاً في المشهد الإعلامي، بغض النظر عن كونها محدودة من حيث الكمّ، لكنها من حيث النوع ومن حيث طبيعة المنتج الصحفي والمادة الإعلامية تُعدّ مادة غنية ومرجعاً. بعضهم يعترف بذلك، وبعضهم لا يعترف، لكنها تبقى محلّ متابعة واهتمام. 

طرح قضايا معقدة بلغة بسيطة

وفي سياق الإجابة على السؤال، فإننا نعيش اليوم في ظل واقع متغيّر، وهو واقع سياسي وإعلامي جديدان. فقد شهد الميدان الإعلامي طفرات كبيرة جداً غيّرت المشهد بشكل جذري، ليس على مستوى العراق فقط، بل وعلى مستوى العالم. وهذا التغيير شكّل تحديًا إضافيًا أمام الصحافة الشيوعية، إلى جانب التحديات التقليدية التي تواجهها دائماً. ومن هذه التحديات ما يتعلق بكيفية الوصول إلى الناس، وكيفية إشراكهم، ووسائل توزيع الصحف لتصل إليهم، خصوصاً في ظروف العمل السري أو في الفترات التي تكون فيها الإمكانيات محدودة. وهناك أيضاً التحديات المالية، التي غالباً ما كانت عائقًا أمام تطوير العمل الإعلامي. 

واحدة من أصعب المهمات أمام الصحافة الشيوعية تتمثل في القدرة على طرح قضايا معقدة بلغة بسيطة وسلسة ومفهومة للجميع. هذه المهمة ليست سهلة، بل تتطلب من العاملين في الصحافة والإعلام مستوى عالياً من الوعي، بحيث يكونوا قادرين على صياغة الفكرة بشكل مبسّط ومقبول. 

في السنوات الأخيرة، انتقلنا إلى العمل العلني الواسع، وهو ما أضاف تحديات جديدة. فقد أصبحت المنافسة الإعلامية أشد، ولم يعد الأمر يقتصر على الصحف فقط، بل ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تكن موجودة سابقاً. هذا كلّه فرض واقعاً جديداً، ومعايير جديدة لم تكن موجودة في الماضي. كما ظهرت خطابات إعلامية مختلفة، منها الخطاب الشعبوي، والخطاب الذي يعتمد على إثارة المشاعر بدلاً من تقديم الفكرة العميقة. ومع ذلك، تمكّنت الصحافة الشيوعية بخطابها الملتزم من إثبات حضورها في هذا المشهد الجديد، رغم صعوبة المنافسة وظروف السوق وقوانين الإعلام الحديثة.

توازن بين الخط الفكري واستخدام التكنولوجيا

قوانين السوق، خاصة في الغرب، لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الإعلام، إذ أصبحت وسائل الإعلام الكبرى مملوكة لشركات ضخمة وأسماء كبيرة، وهو ما شكّل تحديًا كبيرًا أمام الصحافة الملتزمة، لأنها غالباً تفتقر إلى الإمكانات المالية التي تمتلكها تلك المؤسسات الإعلامية التجارية. لكن في المقابل، ظهرت في العالم تجارب ناجحة لصحف ملتزمة استطاعت أن تواكب العصر، وذلك عبر البحث عن أشكال تنظيمية وتمويلية جديدة، مثل إنشاء تعاونيات يساهم فيها القراء أنفسهم في تمويل الصحيفة، مما منح هذه الصحف استقلالًا عن رأس المال الكبير. 

إن استقلال الصحافة الملتزمة عن التمويل التجاري كان وما زال تحدياً كبيراً، لأن أغلب وسائل الإعلام الكبرى اليوم تخضع لرأس المال، بينما تحاول الصحافة الملتزمة البحث عن موارد مالية بديلة لتبقى مستقلة. 

أما بالنسبة للصحافة الشيوعية، فقد واجهت هذه التحديات في ظل ظروف معقدة، وكان عليها أن توازن بين التمسك بخطها الفكري والقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتطوير أدواتها الإعلامية للوصول إلى جمهور أوسع. 

اليوم، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح كل فرد قادراً على أن يكون مصدراً للمعلومة، وهو ما جعل المتلقي عرضة لكمٍّ هائل من المؤثرات، سواء الإيجابية أو السلبية. لذلك أصبح من المهم جداً أن تطوّر الصحافة خطابها وأساليبها لكي تصل إلى الشرائح التي تستهدفها بشكل مباشر، رغم كل هذا التدافع الإعلامي. 

لم تعّد التحديات محلية فقط، فإلى جانب المتغيرات الكبيرة التي شهدها العراق، هناك أيضاً الانفتاح الهائل على العالم، وانتشار المعلومة والتكنولوجيا، وكل ذلك فرض على الصحافة الحزبية أو الصحافة الملتزمة أن تعيد النظر في خطابها وأدواتها وحتى في شكلها وأسمائها.

هناك أمثلة عالمية لصحف حزبية ويسارية نجحت في التكيّف مع هذه الظروف، فيما فشلت صحف أخرى وغادرت الساحة. وفي الغرب، على سبيل المثال، ما تزال هناك صحافة ملتزمة، لكنها غالباً تبحث عن أشكال جديدة للتمويل تضمن استقلالها، سواء عبر التبرعات أو الاشتراكات أو التعاونيات. 

اليوم لم يعد الحصول على الخبر بحد ذاته كافيًا، لأن المعلومة أصبحت متاحة بسهولة. لذلك أصبح دور الإعلام الملتزم هو تقديم محتوى مختلف: التحقيقات الاستقصائية، التحليلات المتعمقة، والمواد الفكرية الجادة. هذه المجالات هي التي يمكن أن تمنح الصحافة الملتزمة دورًا مؤثرًا في زمن هيمنة الإعلام التجاري. 

طرح القضايا العميقة

بسام عبد الرزاق: لماذا يشترك القارئ في صحافتنا؟ ما الذي يحفزه على ذلك؟   

رائد فهمي: هذا السؤال ينبغي أن يكون حاضرًا دائمًا في تفكيرنا. فالقضية لا تقتصر على الاشتراكات وحدها، إذ إن الاشتراكات بحد ذاتها ليست كافية لضمان استمرار الصحافة. إن بقاء الصحافة، خصوصاً الصحافة الورقية، يتطلب أن تقدم للقارئ ما لا يجده بسهولة في غيرها، وأن تذهب إلى أبعد من الأخبار اليومية، لتعمل على التحقيقات الاستقصائية، وأن تطرح القضايا العميقة التي قد يغفل عنها حتى الإعلام المرئي. إن هذه القدرة على تقديم محتوى نوعي ومختلف هي التي تجعل القارئ يشعر أن الصحيفة تستحق أن يشترك فيها. 

وفي فرنسا، على سبيل المثال، هناك نظام لدعم الصحافة تموله الدولة، ليس بهدف التدخل في محتواها، وهي تتمتع باستقلاليتها، ولكن بشرط أن تحقق هذه الصحف مستوى معيناً من التوزيع والانتشار. ويشمل هذا الدعم حتى الصحافة الحزبية. فقد كانت صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي في السابق الناطق الرسمي باسم الحزب، لكن بمرور الوقت تم إدخال تغييرات قانونية عليها، بحيث أصبح لها خطابًا مستقلًا وهيئة تحرير مستقلة، ما أتاح لها استيفاء شروط الدولة فيما يخص الاستقلالية، وبالتالي الحصول على الدعم الحكومي المستمر، إضافة إلى الاشتراكات والدعم الذي يقدمه القراء الملتزمون. 

هذه التجربة توضح لنا أن بقاء الصحافة الملتزمة ليس أمرًا يسيرًا، بل يتطلب موارد متعددة، ومشتركين لديهم التزام حقيقي، وليس مجرد ولاء شكلي.

التأثير على وعي الجمهور

وفي الدول الديمقراطية، تلعب الصحافة دورًا محوريًا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية، وتُشجَّع على التنوع الفكري وتعدد الآراء. لكن في المقابل، نجد أن الكثير من وسائل الإعلام الخاضعة لمنطق الربح تميل إلى تكييف مواقفها وفق أهواء المتلقين، وتسعى إلى كسب أكبر عدد من القراء ولو على حساب العمق والجدية. ونتيجة لذلك، باتت كثير من هذه الوسائل تميل إلى السطحية، وأحيانًا إلى الابتذال، وهو ما يُضعف دور الإعلام في تقديم رسالة حقيقية. 

لذلك، فإن الدول الديمقراطية التي تحرص على تنوع الرأي وحرية التعبير تدعم بقاء الصحافة المستقلة الجادة. أما في بلداننا، ولا سيما في العراق، فنحن نواجه وضعاً مختلفًا. إذ أصبحت بعض وسائل الإعلام مملوكة لأصحاب رؤوس أموال كبار، يستخدمونها كأدوات لترويج مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وتسويق منتجاتهم أو الترويج لأشخاص بعينهم، بل والتأثير على وعي الجمهور. 

وهنا تبرز الحاجة إلى إعلام ذي هوية فكرية وسياسية واضحة، إعلام ينطلق من مصلحة المجتمع وليس من مصالح مالية أو سياسية ضيقة. إن الصحافة الحزبية لا تدّعي الحياد بمعناه الزائف؛ فهي منحازة للحقيقة، لكنها في الوقت نفسه لا تتحول إلى خطاب أيديولوجي جامد، بل توازن بين نقل الحقيقة والالتزام بمصالح أوسع قطاعات الشعب.

لا حياد بين الحق والباطل

في بعض الدول الديمقراطية، تُطرح فكرة "الحياد" وكأنها قيمة مطلقة، لكن السؤال هو: كيف يمكن أن تكون محايداً بين الحق والباطل، أو بين العدل والظلم؟ إن الحياد المطلق في مثل هذه القضايا هو في حد ذاته انحياز، وغالباً ما يؤدي إلى صحافة بلا موقف، وهو ما يُفقد الإعلام رسالته الأساسية. 

من هنا، فإن مهمة الصحافة الملتزمة هي أن تكشف ما يُخفى من الحقائق وراء التصريحات والسياسات، وأن تقول أين تكمن المصالح الحقيقية للشعب، بعيداً عن التضليل أو التلاعب الإعلامي. 

ويتطلب هذا الدور بقاء الصحافة الشيوعية والصحافة الإنسانية عموماً في حالة تفاعل دائم مع التطورات، وأن تستفيد من الوسائل الجديدة المتاحة، فالتكيّف مع الواقع الإعلامي الحالي أصبح ضرورة، لكن من دون التفريط بالمبادئ أو السقوط في الابتذال. فالصحافة الملتزمة لا تسعى فقط إلى كسب اهتمام القارئ، بل إلى كسبه على أساس الفكرة والموقف والرأي. وهذا يتطلب مرونة في التعامل مع شكل العناوين، وطريقة تقديم الموضوعات، ولغة الخطاب، من دون التفريط بجوهر الرسالة. 

لكن هذه معادلة صعبة، لأن القارئ اليوم أمامه خيارات واسعة جداً، وسلوكه في قراءة الأخبار تغيّر كثيراً. لذلك نجد أن كثيراً من المؤسسات الصحفية الناجحة في العالم تدرس سلوك القارئ بعناية، وتكيّف طريقة عرض المواد وفقاً لهذا السلوك: متى يقرأ، كيف يقرأ، وما الذي يجذبه أكثر؟ 

جمهور لا ينجذب إلى السطحية

اليوم يغلب على القارئ تصفح الأخبار عبر الهاتف، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيما "فيسبوك". ومن هنا تأتي أهمية الصياغة الذكية للعناوين والصور والمواد المختصرة التي تجذب الانتباه، ولكن من دون التفريط بالمحتوى الجاد. 

لدينا نوعان من القراء: جمهور عام واسع، وفئات مستهدفة محددة. هذه الفئات المستهدفة تشمل المثقفين، المستقلين، الوطنيين، والمهتمين بالشأن الفكري والسياسي. هذه الفئات غالباً أكثر وعياً ومطالبةً بالمحتوى الجاد، وتتطلب أسلوبًا مختلفًا في الخطاب لأنها لا تنجذب إلى السطحية. ونلاحظ في مواقع التواصل الاجتماعي أن بعض المنشورات ذات المضمون الفكري العميق تحظى باهتمام كبير، وهو ما يعني أن الجمهور ما زال يقدّر المحتوى النوعي متى ما قُدِّم بأسلوب جذاب وواضح. 

لذلك، يجب أن تكون صحافتنا وإعلامنا في حالة رصد مستمر لسلوك القارئ وتحوّلات اهتماماته. ففي الماضي، كان دور الصحافة يقتصر على فضح النظام وكشف سياساته، أما اليوم فأصبح عليها أيضاً أن تعبّر عن مشروع فكري وسياسي واضح المعالم، وأن تواجه حملات التضليل وتشويه الحقائق بأسلوب مقنع وجاذب في الوقت نفسه. 

لقد أصبحت متطلبات الوعي السياسي والاجتماعي لدى الإعلاميين، ولا سيما الصحفيين الشيوعيين، أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق، ويجب أن يجمعوا ما بين الوعي الكبير والمستوى الفكري، وأن يكونوا ملمين بالتقنيات، وهذا ليس بقليل. 

رصيد كبير من الخبرات

بسام عبد الرزاق: على مدى سنوات، عاصرت كثيرًا من الصحفيين الموجودين في كثير من المؤسسات الأخرى، وهم يتفقون تماماً مع هذا العرفان ومع هذه الإشادة بالصحافة الشيوعية. في السنوات الأولى أقامت "طريق الشعب" الكثير من الدورات الصحفية التي اعتمدت مناهج معيّنة في التدريس، أبعد من الصحافة الحزبية، وأقرب إلى الصحافة اليسارية المنحازة للناس، ولم تكن تُدرَّس فيها شعارات وبيانات حزبية، بل التحقيق، والمقال، والخبر.  فلماذا لم يُعزَّز هذا التصور ليأخذ بعداً أكاديمياً؟ بحيث يُصار إلى إنشاء كلية رسمية معترف بها تدرّس هذا النوع من الصحافة، على غرار المدارس الصحفية المعروفة في العالم. هذا يمكن أن يكون مشروعاً ذا هامش ربحي، وليس مشروعًا ربحيًا بالكامل، لكنه في الوقت نفسه يدعم بقية وسائل إعلام الحزب. كذلك يمكن أن يعمل على إعلام موازٍ، كما كان الحزب الشيوعي العراقي في السابق، حينما كان إعلامه يتعرض للقمع، فيعمل على إعلام موازٍ حتى بأسماء مغايرة. فلماذا لا يكون كل هذا ضمن خطط يدرسها الحزب؟ علماً بأن الوقت لم يفت بعد. 

رائد فهمي: لا، لم يفت الوقت. وأنا أعتقد أنه لم يحصل تفكير بهذا الاتجاه –حسب علمي– للاستفادة من هذا الرصيد الكبير من الخبرات وجعله أكثر مؤسساتية من خلال مدارس أو دورات منتظمة. كما تفضلت، هذه فكرة موجودة، ويمكن التوقف عندها. التحدي الكبير يخص الجانب المالي، فنحن دائماً نعتمد بشكل أساسي على الاشتراكات المختلفة والتبرعات، وهذا يبقى جزءًا مهماً في الصحافة الحزبية. 

في بريطانيا وفي أماكن أخرى، هناك دائماً صناديق للتبرعات تدعم الصحف، لأن هذا يحافظ على استقلاليتها مع الحرية الكاملة. لكن هذا لا يمنع، خاصة عندما نمتلك إمكانيات، أن نفكر في كيفية توظيفها ليس لأغراض ربحية، وإنما لتعزيز الموارد. 

وأنا أعتقد أن التفاعل مع القارئ، والقارئ الملتزم، وتطوير مشاركته في دعم الصحافة وتحويله من مجرد قارئ أو مشترك إلى مشارك، أمر مهم. وربما يمكن للصحافة أن تستفيد من فكرة جمعيات أصدقاء الصحيفة. ففي أكثر من تجربة، كانت هناك جمعيات أصدقاء للجريدة أو المجلة، وهؤلاء لم يكونوا مجرد متبرعين بل كان لهم دور في المساهمة في التوجهات باعتبارهم شركاء. هذا التحول من مجرد قارئ إلى شريك يساعد في فهم الأولويات وتطوير العمل الإعلامي.

أفراد يؤدون دور مؤسسات

لذلك، أعتقد أن فكرة إنشاء إطار تنظيمي لعلاقة الصحيفة بجمهور واسع من القرّاء يمكن أن يكون مهماً جداً. كما أن هذه الظروف الضاغطة تجعلنا بحاجة إلى أفكار مبتكرة والاستفادة من تجارب الصحافة الحزبية وصحافة الرأي الناجحة في مواجهة التحديات. علينا دراسة هذه التجارب عن كثب لنر ما يمكن أن ينطبق على ظروفنا. 

وأشير أيضاً إلى أن الدولة الديمقراطية عليها مسؤولية في هذا المجال. ففي بلد متعدد القوميات والأديان والآراء والعقائد، التنوع موجود، واحترامه يتطلب تعاملًا احترافيًا. الدولة مسؤولة عن ضمان وحدة النسيج الوطني والتماسك المجتمعي، والمفروض أن يكون لها دور أفضل من دورها الحالي. 

وسائل الإعلام أيضاً يجب أن تعبر عن هذا التنوع، لا أن تكون نسخة مكررة من بعضها البعض. اليوم لدينا عشرات القنوات التلفزيونية، لكن أغلبها متشابهة في التوجه أو المعايير أو الآليات لكسب المشاهد. 

هناك اليوم وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تكمل دور الجريدة وتساعد على الوصول إلى الناس وتنظيم العمل. ويحتاج هذا المجال إلى جهد أكبر، فهناك أفراد اليوم يؤدون دور مؤسسات عبر هذه المنصات، وهذا يتطلب تركيزًا أكبر. 

القدرة على مواجهة الضغوط

كل هذا يفترض وجود مساحة واسعة من الحريات التي يكفلها الدستور. ورغم وجود هذه المساحة في النصوص، لكنها تبقى مهددة بسبب طبيعة المصالح والسلطة، مما يُبقي الدفاع الصارم عن الحريات الإعلامية والصحفية وحرية الرأي، هدفاً أساسياً للصحافة الشيوعية، لأنها من أهم الضمانات للتنوع الإعلامي، ولأن المخاطر التي تهدد الإعلام لم تنتفِ، فقد لاحظنا في السنوات الأخيرة تعرض كثير من الصحفيين للقتل أو الاعتقال أو التضييق.   

هناك اليوم صراع شديد في الميدان الثقافي وفي السيطرة على الوعي، ولهذا يجب أن لا تكون هذه مهمة الشيوعيين فقط، بل كل أصحاب الفكر المتنوع. 

صحافتنا ربما ميزتها الاستجابة، والثبات، والمواصلة، والقدرة على مواجهة الضغوط، وبالتالي فهي عنصر محفز وداعم لأصوات أخرى قد لا تمتلك الإمكانيات نفسها. 

لذلك، تبقى الصحافة الشيوعية جزءًا مهمًا من المشهد الإعلامي والثقافي العام، وهي تخوض معركة وعي المواطن والمواطنة، لأن هذا الوعي شرط أساسي لمواجهة التحديات وتحقيق التغييرات المطلوبة في منظومة الحكم ولتحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها من القضايا الراهنة والمهمة في العراق.

انتهى