هذه الرواية هي الجزء الرابع من رباعية الليل ( الليل في نعمائه . الليل في عليائه . الليل في بهائه . الليل في نقائه ) وهي حصيلة خميرة متمكنة في ابتكار الفن الروائي الحديث في الاتجاه الواقعية الانتقادية أو الواقعية الاجتماعية . الذي يتجه الى الناس ويغور في طريقة حياتهم وسلوكهم وتصرفاتهم , ضمن الإطار الاجتماعي والسياسي السائد , والذي يفرض نفسه في شكل العادات والتقاليد وكيفية الافصاح عن المكنون الداخلي أو الذاتي بما فيها الرغبات والعلاقات بين الناس , ومن أهمها علاقة الحب وتداعياته . الأستاذ الروائي ( زيد الشهيد ) متمكن في بناء الشخصية الروائية وهندسة الحدث السردي بشكل منسق ومرتب , ويدخلهما بالتفاعل الدرامي المتصاعد والمتحرك , أي لكل شخصية في الحدث السردي لها دور واهمية في التفاعل وموقع متحرك في الفضاء الروائي , وفي وتطوراته المتلاحقة , اي لا يحبذ كومبارس الشخصية أو ديكور الشخصية الجامدة . يهتم بالأسلوب اللغوي في السرد الواضح والمشوق والمرهف يشد انتباه القارئ بشكل مرهف ومتلهف في متابعة تطورات الحدث السردي . وبراعته في الغوص في أعماق الشخصية دواخلها واحاسيسها , لذا فأن شخوص الرواية واضحة المعالم وليس شخصيات مبهمة غير فعالة . ويركز على الطابع الاجتماعي في تقاليد الناس وهمومهم وانشغالهم أو انخراطهم في الحياة العامة بكل مفرداتها . ويركز بشكل خاص على ظلم المجتمع للمرأة , التي تلعب التأثيرات البدوية والعشائرية في عقول الناس بشكل مؤثر وفعال , وخاصة التزمت الديني تجاه المرأة . ومن يريد ان يبحث عن الدور الاجتماعي في ظروف العراق المتلاحقة وأزمنته المختلفة , عليه أن يطلع على روايات الاستاذ ( زيد الشهيد ) المكان ثابت هو مدينة ( السماوة ) وبالتحديد زقاق العمة والبيت الذي اجرته نسوة رباعية الليل بأقسامها الأربعة تدور فيه احداث رباعية الليل المتوالية , أما الزمن فهو متغيرفي كل مرحلة تاريخية لها خصائص محددة , لكن الثابت هو الظلم الاجتماعي والحب المقموع . فجعل من رباعية الليل صورة مصغرة للواقع الاجتماعي العراقي وأزمنته المتعاقبة في المكان الثابت . وان الحب المقموع يغوص الى أعماق والخيبة والانكسار في أجزاء الرباعية , رغم عفته وطهارته وبراءته بالغزل العذري , لكن الظروف القاسية اقوى من الحب , ويدخلنا الروائي في الرومانسية الحزينة بكل همومها وشجونها , التي تنتهي الى مطاف الفراق والغياب , وبالتالي يكون الحب قد تجرع كؤوس الحنظل عسفاً وظلماً . والحدث الروائي في هذه الرواية يركز على علاقة الحب في فارق الزمني الكبير في العمر بين المحبين . وهذا الفارق الزمني في العمر حجرة عثرة في طريق تطور الى حالة ارقى . الحب بين الشخصية الرئيسية في الرواية , الاستاذ وطالبته ( جميلة عبدالجليل ) رغم انه يطوقها باكاليل الحب الانساني في عاطفته و دوافعه الغريزية الطاهرة وليس المدنسة , واعتبرت ( جميلة ) أن ارتباطها بأستاذها , كأنه هبة من السماء في نورانية من الحب الأبوي , بما يملك من رزانة وسلوك رصين , وبما يملك من رصيد ثقافي وادبي واسع الثراء , وهو الذي اختار البيت لتسكن فيه ودفع مقدمة ستة شهور قادمة , وتعلقت بكلامه والحوارات التي يسوقها بأسلوب مدهش ولذيذ , وهو يملك ثقافة ومعرفة واسعة في الشأن الأدب الروائي العالمي وتاريخه , وأبرز روايات العصر التي ظلت خالدة في التاريخ , كانت تتابع حواراته بقلب مشدود بكل شوق وعاطفة مدهشة في حلاوة تروي الظمأن , فلم تشعر بالوحدة والغربة والوحشة وهي ساكنة في البيت لوحدها . فكانوا يقضون أماسي الليل في الحديث الطويل في الشأن الروائي والادبي , وبعدها تعود الى البيت وحدها , وهو يمشي في حال سبيله ( كانت جميلة أذ تعود الى البيت محفوفة بأيات الهناء , مرتوية بعذيب القول ) ص32 . وكانت تحرص على حضور محاضراته وندواته . وكان نصيراً ومدافعاً عن المرأة , وكان يردد في كل محاضراته ( إن الأمم التي تتنكر لأهمية المرأة في بناء اجتماعي حضاري رصين , لهي أمة فانية ) ص23 .كانت ( جميلة ) تشعر في قرارة نفسها بالاستقرار والطمأنينة والأمن والسلام , وهذه ضرورات ملحة للمرأة وبحاجة إليها , فكان الحب الابوي يخيم على القلبين , ويصاحبها في أماسي الليل , ودائم الزيارة لها لتفقدها . ولكي تتذوق طعم الأدب الروائي العالمي الانساني , وتعرف من عسل الثقافة والمعرفة بشكلها الجميل . وتحس في أعماق روحها ان ترتوي اكثر واكثر ( زد ...... فالليل طويل وما تقوله لا يشبع روحي الجائعة ) ص48 . هي السعادة الروحية التي تشعر بها وهي تتسامر معه في الليل. وكان صريحاً معها ( عرفتكِ , يا جميلة وأنا اتابع اهتمامات الحضور أنكِ تمتلكين موهبة أدبية سنفتخر بها ثقافياً .... نعم اللغة ظلنا الجميل وحبنا العذري ..... هي زورقنا الأبدي في شموخنا الأزلي ...... لمن تقرأين ؟ ) ص75 . فترد عليه في بهجة وأنشراح ( نعم أقرؤك أنت , يا أستاذ , كل مؤلفاتك عندي , جميع منشوراتك في الصحافة أجمعها .... من رياض ابداعك غذيت ذائقتي , وهي نمير بثراء علميتك أغترفت ماء ثقافتي ) ص76 . لكنه انقطع عنها ولم يعد يزورها , فكان غيابه وضعها في موقف صعب , كأنه وضعها على جمرة النار بين بالصبر والانتظار والقلق , وغيابه لا يتحمله قلبها المفتون بأستاذها , كل يوم غياب عنها يجعلها أن تتجرع كأس الحنظل في عذاب الروح يزيد هواجس الفوضى في قلبها , والقلق ينهش راحتها . في هذا الغياب المرهق , تحولت أمسيات الليل الجميلة الى حزن وشجن . شعرت بمرارة الغياب الثقيل على قلبها , فكانت تذرف دموع ساخنة طوال الليل والنهار , تشكو الفراغ والمحنة . رغم ان صاحبة البيت تحاول ان تواسيها وتخفف من وطئة المعاناة نار الحزن التي يغلي في قلبها , فتقول لها ( أنه أبوك يا أبنتي , لابد أن ما يتمناه لكِ هو ما لا يريده أن يؤذيكِ , أن الاباء ليشعروا أن أبناءهم أرواحهم وقلوبهم ) ص100 . فلم تعد تستطيع ان تقاوم اشباح القلق , فهجرت البيت وعادت الى اهلها وهو تحمل الخيبة والانكسار, وعلقم الحزن يغوص في أعماقها . لكن بعد فترة عاد ( الاستاذ ) وتفقد ابنته فلم يجدها في البيت , شعر بتأنيب الضمير لغيابه لها , , وهي التي اصبحت قطعة من روحه , كأنه فقد نصفه الثاني , وزوابع المعاناة تتضخم في داخله , كان كل يوم يأتي الى البيت ويطرق الباب ولكن دون جواب , حتى انتبه الى حالته المأساوية اهل الزقاق وحتى اطفالهم , يدركون عمق الالم والغياب الذي ينهش في داخله ( يا عم .... لماذا تطرق وتطرق , لا أحد هنا .... تكرارك الطرق لا طائل منه ؟ .......... فيطأطئ رأسه جزعاً , ويروح في محاولة إخفاء دمعتين تترجرجان في مقلتيه ) ص13 . , وشعر ليس عدلاً أقترف هذا الغياب بحق الحب الأبوي , فوهنت حالته وضعفت واصبح يتعثر في مشيته كالثمل ( ما بك , ياعم تتعثر في الطريق وكنت قبل اسابيع كالجبل , شامخاً ؟ !!!!! ) ص13 , ويشعر بطعم الخيبة والخسارة المرة .
×× الخاتمة العودة : بين الافتراض أو الانسياق في تطور الحدث الروائي المتلاحق .
الخاتمة تحمل تأويلات وتفسيرات متعددة ومختلفة , ربما يجدها البعض افتراضية في العودة , بأنها
هي محاولة الاستاذ ( زيد الشهيد ) بأن لكل أزمة انفراجة , ولكل خيبة وانكسار الروح , لابد في النهاية أن تجد بؤرة ضوء من الامل , لان الحياة لا تقف على عمود واحد : الحزن والخيبة والاحباط والغياب والفراق . وربما هي محاولة اشفاق للقارئ الذي تذوق طعم الخيبة من غياب بطل الرواية ( الاستاذ ) عن طالبته ( جميلة ) التي تعتبره الاب الروحي , لذلك افترض عودة ( الاستاذ ) الى طالبته بعدما هزه الشوق والحنين من غيابه الطويل , ولكي ينتشل من قاع الحب المقموع الى ضوئية الحياة من جديد , لتعود الايام الى حلاوتها وطراوتها ( أبنتي ... أبنتي ! ...... يا نور الصبح الوضاء , وفيض بهاء الله الماطر ورحمة , يا ذهبي المصفى ,ويا قصيدة المحبين , واخبرها وسط دموع تفجرت في عينيه أنه نادم , ويعتريه شعور بتأنيب الضمير ) ص110 . وترد عليه بكل لهفة وسعادة , كأن مجيئه كالمطر الذي يروي صحراء القلب ( أبي .... أبي .... أبي . يانور شربت منه وشربت , وما ارتويت , أبي .. أبي ) ص110 . ليطوي ايام العجاف , وتعود الحياة الصفاء والحب الابوي , كأن الشباب يعود من جديد أو يحيى من جديد .......... أو ربما يجدها البعض انها حالة منطقية وانسيابية , تتلائم مع سياق الحدث تفاعلاته , من البداية الى تفاقم الحدث الى الذروة , والى حالة الانفراج , أي أنه انتقل من حالة التجافي والغياب الى حالة اللقاء والانسجام في مديات الحب الابوي , أي تعود جميلة الى البيت ويعود ( الاستاذ ) الى أمسياته الليلية الجميلة , أي تعود المياه الى مجاريها في الحب الابوي واللقاء مجدداً , وهي ايضاً تدخل في حالة انسانية في تطور الوعي في الحب , رغم أن الفارق الزمني بالعمر كبير بينهما . ليحيى الحب المقموع الى حالة من النبض الحياتي المنعش .