حملت (لمى) طفلتها...أمسكت يد الصغير المتجمدة من البرد والخوف والمرض... ما أن رأوهم الناس عائدين حتى بدأ الجميع بالعودة الى بيوتهم... ساروا تحت جنح الظلام جنب الأسوار بصمت وحذر... شيء واحدٌ يربطهم ... الخروج من المحنة أحياء.
لم تختلف معاناة العودة عن معاناة الوصول الى منطقة البساتين ... وصلوا الى البيت فجراً... تعطلت ساعة الحائط الوحيدة ... لم يجدوا وقتاً لإصلاحها... المدينة تنعم بهدوء نسبي... الآذان لم يُسمع فيها منذ بدأ الحرب... نام الجميع حال وصولهم.
صوت انفجار مدوي أفزعهم من نومهم ... كان الفجر في أوله... المدينة تُدك بقسوة وضراوة وكأن قصف الأمس لم يفِ بالغرض... هرب الناس ثانية من بيوتهم على غير هدى... الفزع في عيونهم وبخطوات متعثرة اتجهوا الى منطقة خارج المدينة، قِيل أنها خارج نطاق القصف... لم يبقوا في دارهم زمنا طويلا حتى اضطروا للخروج ثانية ... حملوا ما تبقى من مؤونة في الدار، وهي كميات قليلة من الطحين والسكر والشاي وبصلة واحدة وبطاطس احتارت (الجدة) ماذا تصنع منها، لم تنسَ (الجدة) الموقد الصغير وفرشاً خفيفة حُملت على دراجةٍ هوائية قديمة ساقها العم.
للحرب السابقة تأثيرها السيكولوجي على النسوة، أذ أصبح تخزين المواد الغذائية مسؤوليتهن... وبالرغم من كل التدابير شحت هذه المواد... سار الصبي والصبية خلف جدهم محتمين به وبأبيهم، أما الصغير فلم يدع يد امه لحظة واحدة، مصرا على حمل فانوس بيده الثانية.
ناس الأمس اتجهوا صوب الطريق الخارجي الذي لم يكن أفضل من طريق البساتين، انكسرت الدراجة في منتصف الطريق فاضطروا الى تركها وحمل الفرش على رؤوسهم وظهورهم، انتهى بهم المسير الى الدخول الى ملعب كونكريتي شاهقٍ لا يتناسب وفقر المدينة ... أُنشئ قبل قيام الحرب الأولى ليستقطب شباب المدينة إلاَّ أن انشغالهم بالحروب والسعي وراء لقمة العيش أبعدهم عن التفكير بالرياضة إلاَّ فئة قليلة منهم.
النسوة تجمهرن حول حنفية الماء وسط نافورة في مقدمة الملعب، سرعان ما نضب وفرغت الخزانات التي كانت تزوده.
امتلأ الملعب بالناس من كل الأعمار ليس للتفرج على كرة القدم، بل للاحتماء من القصف المرعب الذي انصب على المدينة... الناسُ ليس على عاداتهم يتجنبون الكلام لا يتبادلون سوى سلام المجاملة العابر
المقتضب... الخوف والريبة والتوجس سيد الموقف... شُغلت كل غرف الملعب المطلة أبوابها على ممر مسقف يشرف على ساحة الملعب البيضوية، علاه مدرج المتفرجين... المبنى متين جداً وحديث قد يصمد أمام الهجمات أكثر من أي مكان آخر.
لم تبقَ سوى غرفة واحدة لم تُشغل، كسرها جارٌ لهم، أعطى مكنسة لـ(لمى) لتنظفها ... أدى كل ما عليه دون أن ينبس بحرف واحدٍ... الغبار المتكدس والعلب الفارغة وبقايا الطعام المتحجر أوحى لها بأن المكان كان مقراً للمهربين والقتلة.
منذ الفجر... والقصف متواصل على المدينة ... اعتاد الأطفال على الجوع حتى لم يعودوا يُطالبون بشيء... للموت المحلق فوق الرؤوس أثره في الغاء كل الرغبات... بعد أن هيأت(لمى) الغرفة استفرغت كل ما في جوفها، ليس هناك ماء للشرب أو لغسل فمها، سوى ماء آسن متجمع من ماء المطر، اضطر الجميع الى استخدامه... حل المساء فحل هدوء نسبي... صنعت (الجدة) حساء وشأيا، لا صوت يسمع سوى صوت السكون وطقطقة الأواني... بعد الطعام استغرق الجميع في النوم... همسات بين (الجد والجدة) أيقظتها من النوم، امتدت أصابع زوجها تداعب شعرها وكأنه يزيل جفوة حدثت بينهما، الجميع أخلدوا للنوم الا (لمى) فقد ظلت مستيقظة، فابنها تدهورت حالته الصحية ولا أمل لها بالرجوع...
مع بزوغ الفجر...
انفجار هائل هز الملعب، وكأنه يقتلعه اقتلاعاً... ضربت المدينة بصواريخ (أرض أرض) ... ألوان تتراقص وتندمج وتتماوج لتتفكك إنها نيران الصواريخ... تراها من شباك الغرفة من المستحيل التصديق إنها ليست ليلتهم الأخيرة... وعدٌ بالموت... ساعات رهيبة لا تنسى الى آخر العمر.
حَلّ الصباح ...هدوء نسبي تشوبه إطلاقات متفرقة ... صباحٌ مؤرقٌ:
صباح الخير ... قالها (الجد).
جلس الجميع كل واحدٍ منهم يتلمس جسده بيده غير مصدق أنه حي... قامت (الجدة) بتثاقل لم يعد ما لديها من مؤونة يكفي إطعامهم ... أعدت شاياً، أفطرت الأطفال بما تبقى لديها من خبز وحليب... أتعبها الأولاد بتحججهم وعدم رغبتهم في الأكل...الجميع في وضع نفسي سيء.
عدد كبير من الناس يجهلون مصائر أبنائهم، لم يعودوا من جبهة القتال ... وآخرون انضموا الى المنتفضين الذين قاوموا الجيش في مركز المدينة... ما أن حلت الظهيرة حتى سكت اطلاق الرصاص تماما.
ارتفعت طائرات مروحية في سماء المدينة وعلى ارتفاع قريب بحيث بالإمكان رؤية الجنود فيها وهم يحملون رشاشاتهم، ويعلنون عن فشل الانتفاضة وسيطرة الجيش ثانية على كل المدن المنتفضة، ودعوة الموظفين للالتحاق الفوري بوظائفهم، ومن لم يستجب يعرض نفسه وأهله لتهمة [الخيانة العظمى] للوطن.
رجع الأهالي الى بيوتهم منكسرين خائفين مما هو آتٍ.
بعد نشر البيان وتحذيرهم بوجوب الالتحاق بوظائفهم، فُرض منع التجول... الجيش يمشط المدينة دارا دارا ... بدأوا باعتقالات واسعة لشباب المدينة ومن حلَ عليهم من مدن أخرى ... لم يعد بقاء (لمى) وعائلتها آمنا... لم تدرِ (لمى) إن نامت، أو قضت ليلتها مسهدة تأمل بالرحيل، ولكنها تخاف من مغبة الطريق.
قامت مبكرة صباح اليوم التالي، ما إن نهضت حتى نهض صغارها جميعاً وكلهم لهفة للعودة لمدينتهم... رفضوا تناول أي إفطارٍ... رغبة الرجوع عندهم لا تساويها أي رغبة أخرى.
لا وجود لوسائل نقل داخل المدينة، اضطروا للسير الى موقف سيارات المدينة الخارجي، آملين أن يعثروا على سيارة توصلهم الى مدينتهم، حاولت (الجدة) إرجاعهم في منتصف الطريق، لكن حب العودة الى دارهم كان الأقوى، عادت (الجدة) متعبة بعد أن ودعتهم، بقي (الجد)معهم.
المدينة مقفرة تماماً... لا أحد خارج من بيوتها ولا أحد داخل لها... لا يسمع في الشارع غير وقع أقدامهم، وهمسات عابرة بين (الجد وجابر) بالرغم من تجاوز الساعة السابعة صباحاً... البرودة شديدة فدفءُ آذار لم يُزح برودة شباط بعد، ضباب كثيف يعيق الرؤية عن بعد... من عمق السكون شق الفضاء صوت نادبة قادمة من أحد الأزقة تندب باسم وتتبعها مجموعة من النساء لاطمات على وجوههن ورؤوسهن ... لا وقت للبكاء ولا مجال للتعبير عن الحزن ... كفكفوا دموعهم وساروا... وصلوا الجسر الرئيسي للمدينة... ناله قصف أحدث فيه شرخاً هائلاً يجعل العبور عليه صعباً، احتمال السقوط والغرق في النهر وارد، عبر (الجد) أولاً مستندا على جدار الجسر الذي ظل قوياً رغم الفجوات التي أحدثها القصف ثم عبر(جابر) وساعدا بقية العائلة على العبور.
على طول الطريق المؤدي الى ـ الكراج ـ انتشر جنود مدججين بالسلاح علت وجوههم غبرة المعركة ... امتلات جدران البيوت وواجهات المحلات بشعارات كتبها المنتفضون... أزيل قسم منها واستعصى القسم الأكبر منها على الإزالة... ربضت على ساحة موقف السيارات الواسع ثلاث حافلات حديثة أعلن عن عدم تسيرها لأنها تحت إمرة الجيش... مجاميع من الناس تتلهف على إيجاد واسطة للنقل، ولكن دون جدوى ... الجميع تركوا مواقف السيارات مواصلين السير على الأقدام.
انشغلت (لمى) بابنتها الصغرى، لان حملها لها على ذراعها اصبح ثقيلاً لطول المسافة وصعوبة الطريق، تعثرت بابنتها الكبرى التي وقفت أمامها فجأة ناظرة لها بعينين مرعوبتين وكلمة متيبسة خرجت بصعوبة من فمها:
ا...ن...ظ...ر...ي... ماما
ألقت نظرها... فرَّ الدم من جسمها... فقدت القدرة على حمل صغيرتها ونفسها... جثة ملقاة على حافة الرصيف ونصفها متدلي على الشارع وفوقها جثة مقطوعة الرأس... وجثتين في سيارة ـ لاند كروزـ كتب عليها شعار الثوار احترق جزء منها... شاب وشابة صفر الوجوه مدنيين يتناقشون مع جنود بأمر ما... شعر زوجها (جابر) بوضعها حمل عنها صغيرته حاثاً ابنته الكبرى على الإسراع واجتياز المكان... على بعد خطوات اصطف ـ بيك أب ـ جنبهم عارضاً عليهم توصيلهم ... صعدوا مودعين (الجد) دون أن يسألوا سائقها عن وجهته ودون أن يسألهم.
ابتعدوا بضع كيلومترات خارج المدينة... أرتال الدبابات اصطفت بخطين متوازيين طوقت المدينة... وصلوا بعيداً عن مواقع الجيش المحاصر لها ... توقف السائق وأبلغهم بلطف أنه لا يستطيع توصيلهم أبعد من هذا المكان ... وأنه سيعود بعد أن أبعدهم عن الخطر... شكروه ثم ساروا باتجاه العاصمة التي تبعد مئات الكيلومترات... ومن أغرب الصدف أن الجنود الذين صادفوهم في الطريق لم يحققوا معهم كثيراً ربما لوجود الأطفال معهم جعلهم لا يشكون بهم ... لا أمل لهم بالرجوع الى بيت (الجد)... في الطريق تفاجأوا بوجود ناسٍ غيرهم مدنيين وعسكريين من بقايا الجيش المنسحب من جبهة الحرب... لا علاقة له بالجيش المُطوِق للمدينة.
نادرا ما تمر سيارة في الشارع، يوقفها الناس ويصعدوا فيها من يجد مكاناً... لم يبق من المدنيين سواهم بين الجنود... حاول أحدهم مساعدتهم وحمل ابنهم الصغير إلاَّ أنه رفض، وآخر مد يده وأخذ حقيبة من يد (جابر)، لم ترتح له (لمى)... في الحقيبة كل وثائقهم الرسمية، وقد يكون من ضعاف النفوس فيسرقها معتقداً أن فيها نقوداً... الوحدة في هذا الطريق المنقطع ... الموحش أرحم من صحبة محفوفة بالمخاطر... (المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين) كما جاء في الأمثال الشعبية... محاورة غير مجدية مع نفسها تحاول أن تتهرب مما هي فيه... قد تكون لنظرات الجندي غير الودية سبباً لتذكيرها بوجود (الحظ!) وعدم وجوده... هل ما يحدث محض صدفة خلقها ظرف ما... أسكتت منلوجها الداخلي بغضب... لا وقت للتفلسف... حملت ابنتها الصغيرة بقوة، طلبت من زوجها أن يأخذ حقيبته، ويتباطأ عن المجموعة لينسحبوا عنهم.
نقطة التفتيش خلت من مراقبيها... خلف هذا المركز أمتد شارع طويل جداً... على جانبيه وعلى مد البصر انتشرت مخلفات الجيش المُعَسْكِر فيه إبان الحرب... انسحب الجيش تاركاً بساطيلَ وخوذاً وقناني وعلب فارغة وبقايا ملابس تتلاعب بها الرياح... لا تمر سوى عربات قليلة أغلبها لحمل المواشي وأُخرى عسكرية ... كلما تمر سيارة يمدون أيديهم عسى أن تقف لهم وتحملهم ... حذا الأطفال حذوهم... رافعة عسكرية وقفت لهم... شُغلت مقدمتها برجل وامرأة والسائق، ثمانية جنود اعتلوا سطحها ... التفت (جابر) الى (لمى) متسائلاً إن كانت تستطيع الصعود... الساعة الواحدة ظهراً... نهار الشتاء قصير وليله مثلجٌ... ماذا سيفعلون إن حل المساء إن لم يجدوا عربة تقلهم... لم تنتظر أن تناقش الموضوع ... صعدت أولادها الكبار ... مد الجنود أياديهم للصغار، أخذوا صغيرتها والصغير ... ساعدوها وزوجها على تسلق الرافعة الى السطح والذي لم يتبق فيه مكان فارغ سوى زاوية تحت سلم الرافعة والذي يطل مباشرة على الشارع دون حاجز... احتضن الجنود أولادها الثلاث ... دفؤهم بقماصلهم العسكرية... أما هي فقد وجدت حديدة ناتئة مسطحة تصلح أن تكون نصف مقعد... افترشته، احتضنت طفلتها بيد وبالأخرى امسكت عتلة جنبها تتثبت بها... جلس أمامها(جابر) ممسكاً بحافة السلم ماداً قدميه ليجعل من ساقيه حاجزا لهما من السقوط... لم يكن المكان آمناً قط... ولكن حب الحياة والخوف من طريق موحش أجبرهم على تحمل المخاطرة .
سارت الرافعة بهدوء قاطعة الشوارع التي بان عليه آثار الحروب... تنملت أصابعها امتد الخدر الى يدها... طال الزمان وتباطأ ...قدم لهم الجنود تمرا وخبزاً ... أكل الأولاد أما هي فلم تستطع أن تتحرك ... وصلوا على مقربة من نقطة تفتيش المدينة التالية توقفت الرافعة ... نزل سائقها حيا (جابر) بحرارة وكأنه يعرفه وطالب منه أن يتمشى ويلتقيه خارج حدود نقطة التفتيش... لأن التعليمات العسكرية تمنع نقل المدنيين بها... أما هي فأبقاها وأطفالها وسيجد تبريراً معقولاً لوجودهم يُرضي به مفتش المركز. نزل الجنود جميعهم... وصلوا لمكان يستطيعون منهم تدبير رحلتهم ... انتقلت هي وطفلتها الى مكان الجنود... لم يكن الجلوس تحت السلم مريحاً لكنه أكثر أمناً... كان الأطفال متدفئين بقماصل الجنود اضطرت الى خلع معطفها وإعطائه لصغارها ... جاءها ضابط مستفسرا ًبلهجة غير ودية عن سبب وجودها... تشاغلت عنه بالاعتناء بصغيرتها ... انصرف عنها ثم عاد اليها رامياً بيضتين ورغيفين وبلهجة آمرة قال لها : اعطيها للأطفال ... ثم انصرف متباطأً... امرأتان تدفعان عربة بناء حُملت بقنينتي غاز توقفن جنبها معتقدات أنها أسيرة، سألنها بصوت منخفض عن أخبار المكان الذي جاءت منه... لم تستطع الإجابة خنقها الخوف والدموع... انصرفن متلفتات اليها بين الحين والحين... متجنبات المرور أمام العسكر... أنهى السائق استراحته ... انطلق ثانية ... على مبعدة من عيون الرقباء كان زوجها في انتظارهم ... اشترى لهم طعاماً من الباعة المنتشرين على مدخل المدينة.
وصلوا مدينتهم بعد منتصف الليل ... ودعوا السائق وشكروه على موقفه الإنساني، اعتذر منهم لعدم تمكنه من توصيلهم لبيتهم ... فالطريق أمامه طويل الى الشمال.
تغفو العاصمة في ظلام دامس... ينير مداخلها ضوء سيارات الأجرة... استأجروا واحدةً... تضاعفت الأجرة عشرات المرات عن السابق... بعض الشوارع المهمة أضيئت بمولدات كهربائية ... في الطريق حدثهم السائق عن أحداث مريرة حصلت لهم ... الا أن أكثرها وحشية ومرارة وقسوة هو مقتل ابني أخته اللذين كانا يحضران حفل زفاف في الملجأ الرئيسي للعاصمة بغداد (ملجأ العامرية) قصف بوحشية ولم ينج منه أحدٌ.
وصلوا دارهم غير مصدقين بنجاتهم ... شعور من الراحة والأمل وكأنهم أعيدوا الى الحياة ثانية... فتح الأب باب الحديقة ... انطلقت (لمى) داخل الطرمة المظلمة والمظللة بالأشجار ... سارت الى القفص بوجل لم تجد الطيرين ولا أوانيهما ... فتحت المطبخ ... فتحت الثلاجة، وجدت العفن طغى وخرج من قدور الطبخ والكيكة التي صنعتها قبل مغادرتهم ... نظفت المطبخ والبيت سريعاً ... هيأت أسرة الأطفال... حممتهم بالرغم من شحة المياه في الأنابيب... فتحت دولاب الملابس مدت يدها لتخرج ملابس لها ... الفة مع ملابسها لم تشعرها من قبل ... إذ كانت تنوي رميها وتجديدها قبل الحرب.
تعالى صوت بنت الجيران منادياً عليها ... ما أن شعرت بحركة في البيت حتى أطلت برأسها من فوق الجدار لتستطلع من في الدار ... ما أن رأت (لمى) فرحت فرحاً عظيماً... هنأتها بسلامتهم ... أبلغتها أنهم رحلوا الى ريف أعمامهم، ولكنهم عادوا بعد أسبوعين ... وأبلغتهم أن أختها تحضر كل يوم تقف أمام البيت آملاً برجوعهم سالمين ... أما الطيرين فواحدٌ مات والآخر أخذه ابن أخ (لمى).
نام الأطفال باستقرار ... غفت معهم... يغمرها شوق لرؤية أهلها وزميلاتها.
تغيرت الحياة بعد الحرب تغيراً جوهرياً... أصبح الغذاء غاليا ومقننا تصاعدت الأسعار بوتائر متسارعة، اختفت أغلب المواد الضرورية والأساسية من الأسواق ... لم تعد الرواتب تفي بأبسط الاحتياجات... وبالرغم من ذلك اتسعت الأسواق وامتدت ليبيع الناس فيها ما يملكون سداً للضروريات.
انقطعت أخبار المدينة المنكوبة (ميسان) التي جاؤوا منها... منع الخروج منها والدخول اليها... رغبة ملحة تنتاب (لمى وجابر) لزيارتها، ولكن الخوف من مغبة الذهاب يمنعهم ... بعد مدة طويلة رُفع الحصار عنها... زارهم قريب لهم ... أخبرهم بما حل على المدينة بعد رحيلهم ... فقد ظلت المدينة محاصرة ما يقرب السنتين ... أُعتقل العديد من شبابها، أُعدم الكثير منهم... ومنهم (عبدالله) صاحب المذياع المكسور... أما (أماني) فاتنة الحي فقد ماتت بعد ستة أيام من رحيلهم متأثرة بحروقها... تاركة ابنها لقدره المجهول ... وأما ابنة (أم مخلد) المنقطعة أخبارها فقد اتصلت بأمها وعادت لمساعدتها ثانية.
مرت سنتان ازداد حنين (لمى) وشوقها للجدة ولبنات الحجي ولفوزية ووشوشة نساء الحي حول حنفية الماء ولصدقهن ومودتهن...العطلة الربيعية ستحل بعد شهر وسيصادف معها العيد قررت (لمى وجابر) أخذ الأولاد وزيارة بيت (الجد).
قبيل أيام قليلة من حلول العطلة الربيعية أصيبت (الجدة) بارتفاع حاد في ضغط الدم استدعي (جابر) على عجلٍ على أمل أن تلحق (لمى) به والأولاد بعد انهاء امتحاناتهم ... إلاَّ أن (الجدة) ماتت تاركة في نفوسهم حسرة لا تمحى.
الخاتمة
نحن أحياءٌ روينا جزءاً مما رأينا...
لوعاد الشهداء ماذا سيروون؟!