حكاية ونَص:
لوحةٌ عاريةٌ في مجلسِ المساءِ!
كعادتي انهض باكراً حاملاً مَخْيَّلتي في أحداق عيوني... اشور من الطبيعة ألوانها، ومن الشمس خيوطها، ومن الأرض حُرَّ ترابها، ومن الجبال شموخها، ومن النخيل طَلْعها، ومن القمراء بهاءها، ومن الرمال صبرها، ومن الزهور رحيقها، ومن السماء أعاصيرها، ومن الشجر خصبها، ومن النجوم ألَقَها، ومن الماء (كل شيء حي)!...
كي تولد (لوحة)!
اعود مُحَلِّقاً على أجنحة الشغف، تَميدُ الأرضُ تحت أقدامي من فرط الهيام، تتراقص خصلة ناعسة كالأفنان النَضِرِ على جبينها، امُدُّ يدي إليها، تبرق عينيها بالعشق، فاغرق في الحلم...
تنشأ صهوة غَيْمٍ حالبةٍ تبحث عن وطن ظامئ، تسقيني حياةً من قَطرِ الحرية، كي لا ينقطع النَسلُ، وتُمسي الأرض يباباً، تسكنها الغربان وقطعان الجِنِّ المتوحش!
انزلُ من علياء الغيم والمزنة، كي امسك أذيال (اللوحة)!
اهوى في قاع الجُبِّ، فألقى (يوسف) معصوب العينين بقاع الجُبِّ، افُكُّ وثاقه، فيحكي (يوسف) للزائر عن ذئب كان أخاه يُكنى (روبين)، وأمٌ أغفلها التاريخ تكنى (راحيل)، وأخٌ لم ترَهُ أُمه ساعة ميلاده يدعى (بنيامين)، وأَبٌ ضاجع أختين بـ(شرع الله) فكانت (اسرائيل)!
قالوا:
(يعقوب العاشق) هام بأرض الله يُنَقِّبُ عن (قلب صالح) ... صادف في السهل فتاةً فُتْنَّة، ترعى الأغنام البيضاء المنثورة في الحقل الأخضر، تروي الحَملان بماء من جُبٍّ ناضب، حيّاها الهائم وَجِلاً خَجِلاً...يطلبُ سُقيا...فَتَفَتَّحَ في الوجه حقلُ زهور حمراء...وتشبث (يعقوبٌ) بالأرض المُهتَزَّة كي لا تُطلقه البهجة لوراء الغيم...
لاحقها مفتوناً بالدرب إلى قرية (حرّان) فكانت(راحيل) ابنة خاله (لابان)...ألقى العاشق بين يديهم قلباً معصوفاً بالشغف النازل كالقَطرِ على أرض ظمأى...باغته (الخال القحف!) بشرط أن يرعى الأغنام سنين سبع، كي يقطف (راحيل)!
فأذعن!
تمضي الأشهر كالأدهر، والأيام سنيناً...والعاشق يحصي أنفاس الزمن المتشبث باللحظة دون حراك...وتجيء الليلة مظلمةً...يدخلها في ساعة قَرٍ قارس...يتماهى فيها، مكتفياً فيها...لا مكتفياً منها...وتكون الليلة ساخنة تَرْتَّجُ لها أركان العرش الراسخ من فرط النشوة...حتى أن صاح الديك بفجر القرية، وانبلج الصبحُ، فبانت امرأة أخرى ينكحها طيلة ساعات الليل!
ويهيم العاشق في البَرِّ الممتد من القرية لشواطئ (أور) بأرض النهرين...
يشكو لله من الغشاشِ الخادعِ (خاله!):
هذا الخادع يعرض جوهرة في وضح الصبح ويبيع رماداً في حلك الليل!
أوقفه الفتيان الرعيان جوار البئر الناضب يلقون عليه الحجة:
من يعشق يمضي لحبيبته حتى يمنعه الموت!
فصاح (الخال) الخادع:
هذا عهد الأجداد...ألا تُقرع أجراس العرس لبنت قبل شقيقتها الكبرى...كي لا يلحقنا العار!
ولكي تحصد ما تهوى...اخدم سبع سنين أخرى في رعي الأغنام الموبوءة بالقحط وأنياب ذئاب لا ترحم!
وأذعن (يعقوب العاشق) لوجيب القلبِ ومكرِ الخال المحتال!
تسري الأيام سهاماً تخرم عافية الرجل المفتون ببنت الخال الصغرى...يهواها حتى كاد العشق نبياً يتراءى للناس بشيراً في زمن القحط!
وانا اسعى أن ارسم (يوسف) (1) في قاع الظلمة دون وثاق!
فيأبى الحَبْلُ...الوتدُ...الظُلمةُ...
يَدُكُّ الطفلُ الأرضَ بمحنته...تتفجرُ عيناً دافقةً تغمرُ أرجاء الجُبِّ...فيطفو (يوسف) والحبل و"انا" والقصةَ، ويطغى السيح من البئر إلى شطآن النهرين...
وامضي ابحث عن (يوسف) في أرجاء الأرض (اللوحة)!
قالوا:
(يوسف مُختطفٌ) بين النهدين...
والنسوةُ من فرط الشهوة قَطَعْنَّ الكَفّينْ!
اسأل فتيان (الثورة)(2) عن (يوسف)...قالو:
مصلوب جنب المرأة في (نصب الحرية) (3) ...
بجريرة إشهار الحُسْنِ الساطع فوق رؤوس الدَجّالين بدولة تفريخ القُبْحِ!
وتصيح ُ"اللوحةُ" في وجهي:
يا “انت"...عُدْ بي لظلال النخل المقطوع الرأس بضفاف النهر الظامئ...
كي لا تقتلني (السلطة!) جهراً تحت سياط الجلادين!
فاقطع درب الرحلة... اكتب من وجعٍ:
لوحةٌ عاريةٌ في مجلسِ المساءِ!

 


تَتَعَرّى اللوحةُ من أنماطِ الضوءِ الباهتِ في أرجاءِ المَرْسَمِ ...
تَخرُجُ حافيةً لفضاءِ المحظوراتِ ...
تَفتحُ عَينيها لسطوعِ الشَمْسِ الدافئِ ...
يَتَبَدَدُ عَنْها الوَهَنُ المُتَلَبِدُ فَوقَ الجِفنَّينِ ...
تَعْلو هامَتَها للغيمِ الخِصْبِ ...
وتمضي بينَ حقولِ القَمحِ المغمورةِ بالشفقِ الماطرِ!
****
تَنفَرِطُ الألفةُ بينَ اللوحةِ وبريقِ المُبدِعِ تَحْتَ لهيبِ الشَمْسِ ...
في بَرْدِ القاعاتِ المهجورةِ!
****
تَتَداعى الأشياءُ المحظورةُ لفضاءِ اللوحةِ شوقاً ...
حينَ يتيهُ الفنانُ العاشقُ برحيقِ الطَّلْعِ!
****
تُصْلَبُ اللوحةَ في ديوانِ الحُكامِ المكفوفين ...
تُنْصَبُ مِشنَقَةٌ للّوْحَةِ وَسْطَ سكونِ الشارعِ... بينَ حشودِ الذَبّاحينَ!
****
تُتَهَمُ اللوحةُ... بـ:
الشكِّ بسلطانِ النَزوةِ...
نَشْرِ الضَوءِ الساطعِ في حَلَكِ الإحباط المتواتر ...
إيقاظِ الأمةِ من رَقدَتِها في أقبيةِ المُدُنِ العُريانَةِ!
****
تُباعُ اللوحةُ في سوقِ الخُردَةِ ثَمَناً لرغيفٍ أعجف ...
تَنبُذُهُ الديدانُ المنهومةِ!
****
تُصْطادُ اللوحةُ في أنفاقِ التفتيشِ المبقورةِ في أدمغةِ الأمةِ ...
بحثاً عن فجرٍ سريٍّ قد يَبزِغُ منها ...
فيزلزلَ أركانَ حصونٍ يَنخرُها السوسُ!
****
يَتَدفَقُ الخيالُ من رحابِ الفنانِ المُضطَرِمِ الأوجاعِ ...
يَتَفَسَحُ المدى للسطوعِ في اللوحةِ ...
تَنحَسِرُ الأوهامُ عن الساحاتِ العامةِ!
تَتَردى الخيولُ الهزيلةُ إلى فَيءِ الخمولِ ...
يَهجِرُها القَرادُ في مواسمِ الخَوفِ ...
تُحيكُ الرياحُ ثياباً لربيعِ الطفولةِ من قِدّاحِ الليمونِ ...
تَنشرُها خِصباً وعَبيراً في شُرفاتِ اللوحةِ!
تَرتَصِفُ المواعِظُ للإِرثِ الراكدِ في خرائبِ الماضي الحائلِ ...
والظلمةُ لسيوفِ الزمنِ المُتَقَيِّحِ!
تَمْحو الأشياءَ المغمورةِ بالرفضِ ...
تسفي الآهات المكنونةِ في صيحاتِ اللوحةِ!
****
دربٌ مُكتَظٌّ بالعشاقِ يُنَفَذُ فيه الإعدامُ بفجرِ العيدِ ...
مِشنقةٌ وسطَ الشارعِ تَقصِلُ طلاّب الفنِ الرافضِ!
****
تولَدُ الحروبُ من قرارةِ الأسفلتِ!
تولَدُ اللوحةُ من خيوطِ الشَمسِ!
يَرتَقي الغُزاةُ بالدماءِ للعروشِ!
تَنكَفِئُ اللوحةُ للوَجدِ الهائمِ بالغربةِ!
يَرْقُدُ التاريخُ تَحتَ ظِلالِ السيوفِ!
تَنْفَلِتُ اللوحةُ من سيوفِ التاريخِ ...
تَمنَحُ أنفاسَها نَبْضاً في أعراقِ الزَمَنِ...المُمْتَدِ مِنَ اللَهَبِ الأولِ ...
لسطوعِ اللونِ المُبْهِرِ في لوحةِ طفلٍ يَحْبو!
يوسف: النبي يوسف
الثورة: مدينة عراقية.
نصب الحرية: النصب الذي يتوسط ساحة التحرير ببغداد من اعمال الفنان جواد سليم.