30-09-2023

(الموتى لا يحتاجون الى الابصار )

ليست هذه المرة الاولى التي يزور سليم شوكت فيها العراق بعد 2003, هذه المرة الخامسة بعد فراق أكثر من ثلاثين سنة . لكل زيارة لها ظروفها وتفاصيلها ونكهتها الخاصة ...كانت الزيارة الاولى لها طعم خاص حيث التقى الاهل والاقارب في بيت اخية الاكبر منه بست سنوات (لكن بدون وجود والدته التي ماتت حزنا وكمدا علية وهي الوحيدة عندما تبكي تجعله يشعر بالاختناق بالبكاء) ا

كان اللقاء مزيج من الفرح والغبطة والبكاء ,لكن البكاء كان حد الجفن كما يقول مظفر النواب . لا يعرف لماذا؟ لم يستطع سليم شوكت البكاء بحرية لكي ربما يفرغ طاقته السلبية والايجابية ,او ربما التقاليد الاجتماعية الذكورية التي جعلت من العيب على الرجل ان يبكي امام الاخرين... مرت الزيارات اللاحقة كزيارة روتينية عدا الزيارة الخامسة بالطبع. ا

الزيارة الخامسة تركت لدى سليم انطباعا متميزا غير عادي له صله بالماضي ويدخل في عمق التاريخ، من الطقوس والتقاليد والموروث السلطوي والشعبي الذي فرض عبر الحاكم وبمختلف الوسائل، القوة والمال والمقدس، وترسخ شعبيا عبرة الازمان لمنفعة الحاكم وزبانيته وهذا ما نبهته اليه اخته سمره عند ذهابهم الى مقبرة النجف التي دفنوا فيها ذويهم

اخته في العقد السابع من عمرها قصيرة القامة حنطية الوجه تجاعيد وجهها يبدو قست عليها الظروف وهذا ما قالت له في احدى المرات عندما سألها عن ظروفها (خويه جبته ظيم بظيم )

بعد يومين من الراحة في بيت أخيه المتوفى حديثا تحدث سليم شوكت مع أخته وزوجة أخيه غدا نذهب لزيارة قبور أهلنا في النجف، وأضاف من يرغب يأتي معنا فأهلا به!ا

ترك الامر الى ابن أخيه عاكف لتولى تأجير سيارة صالون لثمانية عشر راكبا، نهض الجميع قبل الساعة الخامسة صباحا. عاكف شاب ضعيف البنية جدا بالرغم انه يأكل بشكل جيد جدا خريج معهد مختبري لكنه لم يحصل على فرصة عمل لكنه ذهب باتجاه اخر لكي يعيل نفسه، بدراسة الفقه في الحوزة الدينية في النجف التي تدفع له راتبا ثلاث مائة ألف دينار.ا

حال صعودهم في السيارة بدوا بالصلوات والتكبير معتقدين من خلال ذألك سوف يجنبهم اي مكروه يحدث في الطريق الى مدينة النجف، ولكي يبعد الخوف منهم بسبب حادثه سابقة حصلت معهم قبل عدت سنوات في نفس الطريق وتوفيت اخت سليم !!ا

قال لهم بصوت يسمعه الجميع وفيها شي من الجدية والمزحة معا (لا تخافوا وأياكم ابن سادة وما يصير اي شي ويانة )

قالت اخته مؤيدة كلامه ومتعاطفة معه في ما قال (خويه صِدك انت ابن سادة)

بعد بضع دقائق صار هدوء في السيارة بعدها اغلبهم بداء يكلم نفسه والصوت يرتفع تدريجيا بالصلوات والتكبير الى حين وصولهم مدينة النجف

 

رزق المقابر...! ا



دخل سليم شوكت في مدخل المقبرة التي دفن فيها اهله وبعض من اقاربه برفقة اخته التي احيانا تطلب المساعدة لكي يمسك بيدها لكي يعينها على السير بين القبور، وقفَ برهة لينظر باتجاه البعيد لنهاية المقبرة كأنها اطلالا غير متساوية البناء ومختلف الحجوم تركوها اهلها منذُ زمن بعيد. بالرغم كأبة الموقف رأى سليم هناك في الافق دائما يبحث عن الامل والاستمرار في الحياة

أُقامرُ منذُ سنينَ من أجلِ "بيدرِ فَرَحٍ ليلةَ الحصاد...! ا

أَتلهَّفُ لفرحةٍ ،...ا

أحببتُ بلاداً رَحلتُ عنها.. أُريدُ زيارَةَ أمسِي...ا*

انتبه سليم لهذا المشهد وصار لديه فضول وسأل بقليل من الخبث اخته سمره لماذا القبور غير متساوية في الارتفاع والحجوم ؟ اجابت كأنها قرات ما بين السطور(خويه عرفت قصدك) واضافت خويه هذا رزق...! فكر سليم بهذا الجواب المختصر الذي ربما له دلال عميقة ,لابد ان استوضح الامر ماذا تقصد بالرزق ربما تعني بما أفكر به!ا

واضافت بعفوية خوية لا الدوخ نفسك بالحجي !) وصلنه قرب قبر اخوك بعدين الي أتريدَ اجاوبك عليه!!.فكر مع نفسه ربما تجارب الحياة تعلم الناس البسطاء الغير متعلمين الحكمة في فهم الناس

البكاء يساعد الانسان عن التنفيس عن حزن القلب الذي قد تراكمت عليه الهموم عبر الزمن وربما يريح العيون لكي لا تجف هكذا يقول الناس في القديم

هذه كانت فرصة لسليم شوكت ليبكي بعد ان بدأت اخته تنعي وتبكي بحرقة قلب على اخوهما ّ وهذا ذكره بوالدته عندما تنعي ,لم يستطع ان يمسك نفسه بكى بكاءاً مرا وبحرقة قلب من الاعماق ليعوض السنين التي فاتت من عمره التي لم يبكيها الا مرات بعدد اصابع اليد عدا طفولته. بعد ذألك رجاء وطلب من اخته ان تكف عن البكاء لكي يكملوا زياراتهم .

كان هناك رجل وشاب قريبين اليهم .الرجل يقرا آيات وتعاويذ بصوت عالي وينظر الى سليم واخته سأل سليم اخته لماذا هذا الرجل يقرا وينظر الينا ؟

اجابت اخته بنظرة كأنها تعاتبه على عدم معرفته بهذه الظروف ,قالت هذا هو شي بسيط من الرزق اللي كتلك عليه !! قال سليم مع نفسه ربما هنا يجب ان اتعلم من الواقع، والشاب كان حامل اثنان جلكانين اثنين من الماء ويطلب من سليم واخته شراء الماء

الجو حار رغم انه منتصف ايار طلب من الشاب ان يبتاعه جلِكان ماء واحد، تعاطف مع الشاب في هذا الجو الحار ويكسب رزقه بطريقه معقولَ، قال هذا مع نفسه

قال سليم لأخته يجب ان نسرع لكي نرجع الى البيت قبل حلول الظلام! ا

اجابت ( خويه بعدنه بأوله مثل ما تعرف ورانه زيارة وصلاه...و)

رد ...تمام ...تمام وعلى راحتكم!! سألها بشكل مباغت ؟ تكدري تجاوبيني ماذا تقصدي بالرزق على المقابر؟ اجابت وهي تبدو لديها القناعة بما تقول ( خويه اللي عندَ فلوس هواي يبني قبر كبير وعالي واللي ما عند يبني على كد حاله) رد بسؤال مفاجأة لها وبه هدف ابعد ,تقصدين الامام علي اللي تريدين ازورين قبره كان غني ويملك هواي فلوس ! اجابت بعفوية وبدون تردد

لا لا … يكولون كان فقير ومع الفقراء لكن اللي بنوا القبر كانوا من الاغنياء والسلاطين !!ا

قال سليم لأخته (اللي تكوليه كلش صحيح) لكن عندي سؤال برأيك ليش يبنون بهذا الحجم ومطلي بالذهب في الداخل ومن الخارج!؟

ردت بعفويه ولا تستغرب من الجواب

قال وبثقة طبعا لا!!ا

قالت هذا رزق للسلاطين ...وللناس اللي امنت بما يؤمِن به

قال سليم مستغربا فعلا بجوابها، شلون وضحي الجواب. قالت من اروح للزيارة اشوفك الرزق بعينيك!!ا

بعد ساعة من الوقت قضوها في زيارة الأحبة والاقارب في وحشة المقابر

خطر في بال سليم سؤال يلح في راسه لماذا يأتي الناس الى هنا وانا منهم؟

بقي هذا السؤال مؤجلا لوقت اخر، ربما الكثير يستطيع الجواب على هذا السؤال السهل والصعب او ربما أجد الجواب في هذه الزيارة هذا ما قاله سليم لنفسه.!ا

وصلوا الى السوق القريب الى شارع قبر الامام علي ابن ابي طالب*، كان مزدحم بالناس من زائرين وباعه ومحلات للملابس ومطاعم والصياح يأتي من كل جانب

وقفت سمره برهه ونظرت الى اخيها سليم!! نظره اليها مستفهما (شنوا الصار؟)

خويه هذا الرزق اللي كتلك عليه بواسطة الامام علي السلطان وزبانيته يأكلون المفلطح وقاعدين بقصورهم وهاي الناس الفقراء تأكل بس على كد رزقه وكل شي يخطر وما يخطر على بالك يبيعون عَلَك*، تربه وغيرها...) ا

وهم واقفون يتحدثون مع بعض مر شخص يطلب منهم (يقول المال مال الله بخت الامام تعطوني فلوس) التفت سليم الى اخته وفي عينيه سؤال فهمت السؤال وقالت هذا رزق علينه احَنَ الفقراء ندفعه!!ا

شعر سليم بالضيق انه اتعب اخته بالأسئلة الكثيرة وهمسه بأذنها تعَبتك اليوم !!) ا

قالت وبصوت بالكاد يسمعه (خوية تعبك راحة وأضافت وبصيغة سؤال تجي ويانه لزيارة الامام علي!؟ أجاب انا زرت اهلي واقاربي الذين اعرفهم ورد عليها بسؤال هل هو من اهلك او اقاربك؟

قالت لا... لكنني منذ الصغر تعودت على ذلك...! ا

قال سليم ...أنتم روحوا وانا بانتظاركم هنا...! ا

------------------------------------------

مقاطع من قصيدة كوابيس, للشاعر يحيى علوان*

عَلَك قطعة قماش يشدها الزائرين على أيديهم تبركاً*

اول من شيد القبر في عهد هارون الرشيد في سنة 165هجرية*