*ثقافية الصباح البغدادية عدد 2025/05/04
في محاولة من يوسف أبو الفوز للجمع بين هموم الحاضر والآمال والأحلام والذكريات التي تحمل في طياتها إرثًا من التجارب، قدم مراجعة إنسانية عميقة في كتابه الجديد "بعيداً عن البنادق". لم يرد العمل أن يكون محاكمة سياسية أو فكرية جافة لتلك المرحلة التاريخية، بل سعى إلى استنطاق البعد الإنساني المختبئ وراء الوقائع، عبر تدوين عشرات الملاحظات الدقيقة التي جمعت صدق الذاكرة ومرارة الخيبات.
لقد اعتمد أبو الفوز منهجيَّة تلامس التفاصيل الإنسانيّة اليوميّة عبر عناوين المجموعة "جذور، حياة، اختيار، علاقة ما، المعلم، الرجل صاحب الكلب، روائح، صورة، نساء ومناديل، المريض العراقي، عمى، السفينة" وهو يبتعد عن الخطاب التمجيدي أو الاتهامي، غاية في يرسم صورة أقرب إلى الواقع، وهي تحمل في ثناياها أسئلة الهوية والوجود، ففي بداية رحلتنا مع المجموعة الصادرة عن دار الرواد المزدهرة، نقرأ قصة "جذور"، حيث يطرح أبو الفوز تساءلاً عن كيفية الحفاظ على الهوية حين تصير الغربة وطناً؟ عبر عبارات مثل "أن نسكن في منفى داخل منفى"، وكذلك "صرت أخاف هذه الجذور الجديدة.. أن تسرقنا من جذورنا الأولى"، لخلق حوار بلون الانتماء والضياع. فالقصة لا تكتفي باستحضار ألم المنفى، بل تقارب ثقافة الآخر، كوصف الساونا الفنلندية باعتبارها المكان المقدس الذي تغسل فيه الأجساد الميتة وتستقبل الأرواح الجديدة، وكأن الكاتب يلمح إلى أن أننا نظل عالقين بين الولادة والموت.
أما في قصة "روائح"، فالماضي يتحول عبر سطورها إلى شبح يطارد الحاضر، وأن المشهد الذي تجسده عبارة "كان ينظر إليها، جالسة بفخامة خلف مكتبها، وفي باله كل ما حكاه نبيل عنها وهو يتقصّى منه أخبار من بقي من زملائهم ولم تأكله حروب أو سجون نظام الديكتاتور"، يلخص مأساة جيل ابتلعته آلة العنف.. أما الروائح هنا، فهي ليست مجرد حكايات، بل محاولات للهرب من نسيان العالم.
وقصة "نساء ومناديل"، تكشف عن وجه آخر، فنقرأ "سنوات وهي تتحرك داخل هذا الاطار المعقد. في البدء كانت تتفاخر به، لكن ما أن راح الاخرون يدفعونها اليه، مستغلين حبها ووفاءها لحبيبها، حتى صارت تضيق منهم. في كل مناسبة، في كل حدث يرنّ هاتفها المحمول الذي صار الجميع يعرفون رقمه".
ويوسف أبو الفوز أحد الأصوات الأدبيّة التي حرصت على طرح الرؤية النقدية للواقع. فقد نال إعجاب نقاد كبار مثل الروائي فؤاد التكرلي الذي أشاد بأقاصيص مجموعته "طائر الدهشة" على المستوى التقني والتعبيري، والناقد ياسين النصير الذي كان يرى أنه "من كتاب القصة الناضجة واللماحة والسهلة. مادتها أشخاص وحالات وفكرها ينمو في خضم غابة من الأحزان العراقية المفرحة المحزنة على أرصفة وبارات وحانات المدن الغربية، بينما الباحث والأستاذ الجامعي والمهتم في شؤون تعدد الثقافات الدكتور ماركو يونتنين الذي ترجم مجموعة "طائر الدهشة" إلى اللغة الفنلندية، فقال إن "يوسف هداد، يوسف أبو الفوز، يوسف العراقي، يوسف الفنلندي، ويوسف الكاتب العالمي يشكل جسرا حقيقيا بين ثقافات ومجتمعات مختلفة. ربما لم يحدث قط في التاريخ المعاصر أن احتجنا إلى مثل هذه الشخصيات كما نحتاجها اليوم".