من الذاكــرة.. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 2 / فائز الحيدر               

الفصل الثاني

استراحة بين الصخور

بعد ان قضت المفرزة ليلتها في محطة ابو حربي استعدت لمواصلة مسيرها قبل غروب الشمس بقليل من يوم 14 / أب / 1983 يقودها الدليل النصير يونس متي ( ابو آذار ) والشهيد الدليل التركي يوسف بايرام ( صوفي ) حتى جاء أبو آذار لكي ينبهنا.....

ـــ رفاق أمامنا مسيرة طويلة شاقة تستغرق يومين أو أكثر وستكون اختبارا" لقدرتكم على تحمل الصعاب ونحن ندرك أنكم كذلك،عليكم التقنين بالأكل وبشرب الماء، لا تبذروا قطرة واحدة منه، حاولوا التحمل جهد الأمكان، اشربوا الماء بغطاء الزمزمية ان استطعتم ذلك.

 بدأت المسيرة بساعاتها الطويلة، صعود جبال شاهقة ونزول منحدرات خطرة وحادة، بان على الجميع التعب الشديد منذ الساعات الأولى وسط هذه الجبال والطبيعة الجرداء الخالية من كل مظاهرالحياة ووصل بنا الحال لدرجة لا نتمكن من مواصلة السير وحمل سلاحنا الشخصي وننتظر فرصة الأستراحة مهما كان قصرها والتي عادة لا تتجاوز العشرين دقيقة لكل عدة ساعات من السير في طبيعة جبلية وعرة ضيقة المسالك لم تطرقها الأرجل سابقا"، وأنا أسأل زوجتي النصيرة ام سوزان كيف نحتت أرجل البشر هذه الطرق الضيقة، كيف استدل هؤلاء الأنصار العرب خاصة من معرفة هذه الجبال والنجوم والسير فيها على ضوء القمر وهي ليست بيئتهم ...فحتما" انها الأرادة والعزيمة والأيمان.

في دقائق الأستراحـة كنت ادخل مع الرفاق في نـوم عميق ونحن نفترش العاقـول والنباتات الجبليـة الجافـة واضعين رؤوسنا فوق الصخور الحادة وكأنها فراش وثير مصنوع من ارقى انواع الحرير، والجميع يسمع الشخيير الذي يصدر عن البعض بسبب التعب مشكـلا" سمفونيات ذات انغام موسيقيـة متعاكسة مضحكـة، وكالعـادة يعلق دليلنـا الفقيد ( صوفي ) ضاحكـا" بأن طائرات الهليكوبتر بدأت بالتحرك. تحركنا من جديـد ولساعات لا اذكر عددها من شدة الأعياء ووصلنا الى محطتنا المتفق عليها بين الصخور لقضاء ليلتنا فيها.

 ــــ رفاق سنقضي ليلتنا هنا حتى صباح غد، كل منكـم يرى المكان المناسب للنوم في هذه البقعـة، لا تبتعدوا عن بعضكم، يمنع التدخين، يمنع نزع الأحذية، نؤكد على التقنن بشرب الماء، السلاح بين أيديكم للحالات الطارئة ونؤكد على الهدوء رجاء.

عند ساعات الفجـرالأولى أستيقـظ الجميع مع النسـيم الجبلي البـارد وأنتهت ليلتنا التي قضيناها بين الأدغال والأحجار الكبيرة على سفح هذا الجبل، لم نفكر بتناول شيئا" حينها، همنا الوحيد كان اخذ أكبر قسط من الراحة والنوم. أخذ البعض من الرفاق يغسل وجهه ويديه بما تبقى لديه من ماء في الزمزميات غير مباليا" للساعات القادمة رغم التوصيات بهذا الشأن، ثم واصلنا من جديد المسيرة الشاقة، وبمرور الساعات يهدنا التعب والعطش من جديد وكأننا وسـط الصحراء وبدت أرجلنـا لا تقـوى على حملنـا، رفاقنـا الأدلاء أبـو آذار وصوفي يكرران قولهم بأننـا سـنصل إلى الماء بعـد نصف سـاعة، وتمر الساعات الطويلة ولم نسمع غيـر كلمة ( بعـد شوية رفيق) أو بعـد اجتيـاز هـذه القمـة..الخ ، تحملـوا لم يبق غير مشـوار قصير ونحن على يقين ان الماء يبعـد عنا مسيرة ساعات طويلة أخرى وليس أمامنا من حل غير التحمل، وعندها يراودني قول الشاعر:

الى الماء يسعى من يغص بلقمة         الى اين يسعى من يغص بماء

الدليلان أبو آذار وصوفي يخففان غضب الرفاق المتعبين بكلمات لطيفة وتأكيدهما بأننا سنصل الماء عن قريب ويرفعون من معنوياتنا.. ويدركون متاعب الجميع فلهم تجربة طويلة مع معاناة مفارزالأنصارالجدد، بضع ساعات من السير المنهك وصلنا إلى قمة أحد الجبال، شاهدنا من هناك وفي الأفق أضواء مدينـة، أخبرنا الرفيق أبو آذار بأنها مدينة زاخو العراقية وهي أول مدينة نشاهدها داخل الوطن.

 سماع هـذا الخبر أعطى الجميع الأمل بالمواصلة بعـد تلك المسيرة الطويلة التي لم نتصور أنهـا ستنتهي، فمرافقينا كانوا سابقا" يكررون وحفظــوا عبارة ( بعد نصف ساعة سنصل إلى...) وتمر الساعات ولم نجــد ما يوحي لنا بالوصول أما الآن فقـد أصبح بمقـدورنا أن نقول أننـا وصلنا الوطن ولقد أمدتنا اضواء مدينـة زاخو بالقــوة والمواصلة بنشـاط أكبر، فلا يهـم الآن كم يوم يفصلنا عن مواقعنـا، واذا أستشهد احدنا فنحن الآن في داخـل الوطن، سـاعات داخل الأراضي العراقيـة ولم نصل بعـد، وتصاعدت احتجاجـات بعض المتعبين نحو أدلائنا، ولكنهم أعادوا ذات العبارة التي سمعناها مرارا"، في هذه الأثناء أختفي صوفي وعاد بعد بضع دقائق وهو يقدم لكل واحد منا حفنـة من ثمار شجيرات برية حمراء اللون لا نعرف اسمها وهـو يقول لنا بأن هذه الثمار تقلل من العطش وتمدنا بالطاقة .

بمرور الوقت أخذنا نشاهـد بعض النباتات الخضراء ومن ثم بعض الشجيرات تزداد عددا" وأرتفاعـا" كلما تقدمنا الى الأمام حتى بانت أشجار كبيرة على جانبي الطريق ولكن لا اثر للماء، فوجود الأشجار دليل على وجود الماء والحياة، استمر هذا الحال حتى مساء يوم 16/ آب / 1983 حيث وصلنا الى ضفاف نهر سريع الجريان وفي مكان ضيق جدا" وذو أنحدار شديد يسمى نهر ( الهيزل )، أنه نهر الخوف والقلق كما يطلق عليه الأنصار، يقع هـذا النهر على بعـد 5 كم شمال غرب مدينة زاخو ويعتبر حدود العراق مع تركيا في بعض مناطقه، ولا يتجاوز عرض هذا النهر عن خمسة عشر مترا" في مناطقه الضيقة لكنه شديد الأنحدار والخطورة ويقع في اسفل سفح جبل ( سر زيارات ) ذلك الجبل المشهور بأرتفاعه ووعورته، الجميع يسرع غير مباليا" بالتعليمات بأتجاه النهر ليروي عطشه منه وملئ الزمزميات وغسل الوجه والشعر.

 الساعة الآن تجاوزت التاسعة مساء، تقرر قضاء الليل والمبيت وسط اشجار الجوز والبلوط والصنوبر والسبندار المتفرقة والمجاورة للنهر والتهيؤ لعبوره صباح يوم غد، الأرض رملية باردة ورطبة جدا" بشكل دائم، الجميع متعب، تناولنا طعام العشاء وهو ما تبقى لدينا من الخبز الجاف، البعض من الرفاق بدأ يعد الشاي في العلب الفارغة الصدئة المتروكة وسط الأشجار منذ فترة طويلة، فعند التعب والأعياء تحس ان للشاي طعم آخر ويصبح فعلا" خمرة الثوار .

تمر هذا اليوم ذكرى زواجنا وأحتفالنا بهذه المناسبة هو من نوع آخر وغير أعتيادي، كانت أمنيتنا ان نقضي هذه الليلة في أحد المطاعم ونعيد ذكرياتنا كما تعودنا سابقا" أو ندعوا الأهل والأحبة لجلسة سمر نعيد فيها ذكريات لقائنا الأول وخطوبتنا ثم زواجنا ونشجع العزاب من شباب العائلة بالأسراع بالزواج قبل ان يفوتهم القطار، ولكننا الآن اننا امام واقع آخر وحياة جديدة، في رحلة للوطن لا نعرف هل سنحققها ام لا ؟ وكم ستطول ؟ وهل ستكتب لنا الحياة أم لا ؟ وهل سنلتقي بالأحبة من جديد ؟ وكحقيقة واحيانا" كنت احمل نفسي مسؤولية مرافقة زوجتي لي في هذه المهمة الصعبة ومعاناتها التي لا تناسب التكوين الفسيولوجي للمرأة عموما" ولكن الظروف التي مررنا بها هي من تحكم رغم عدم قناعتك بها احيانا" وهناك بالتأكيد أسئلة عديدة أخرى تشغل بال كل رفيق من رفاق المفرزة.

لا نعرف كيف علم الرفاق بالمناسبة، وزعت الحراسات الليلية وفق جدول معين، ساعة ونصف حراسة لكل نصير، لم تدرج اسمائنا بهذه القائمة، كهدية مقدمة لنا بهذه المناسبة وأعفائنا من الحراسات لهذه الليلة، انها هدية عظيمة لنا في هذا الوقت، ساعة نوم أضافية لها اثر كبير لراحة المتعبين، في فترة الراحة وقبل الخلود للنوم بدأ كل نصير يذكر ما يحلم به بعد سقوط النظام ذلك الحلم الذي تداوله الأنصار مرارا" حيث كنا نسمع ( أول عيد لرأس السنة الميلادية بعـد سقوط الديكتاتورية، سوف نلتقي عنـد الساعة الثانية عشر تحت نصب الحرية في ساحة التحرير)، كان هذا هو الحلم الذي يعبر به الأنصار الشيوعيين في السنة الجديدة. ومن الجانب الأخر تسمع تعليقا" مازحا" لنصير آخر ( والله راح تعمون على نصب الحرية ( هسه يسمع صدام ويشيل نصب الحرية من كاعه) وهناك من يرد عليه ( حتى لو سواها المجرم، سنعيد بناء النصب ونلتقي تحته، ليش احنه مو جزء من النصب، لا والله نحن الجزء الأساسي منه) . و تسمع تعليق آخر ( احنه ما النا علاقة خمسة، عشرة ، خمسين سنة وحتى لو قرن، هذا النظام هو ورأسه لازم نكسه إلى المزبلة).

افترشنا الأرض الرملية الرطبة ووضعنا طرف البشتين لكي يغطي وجوهنا من البعوض الذي لا يرحم، ثم دخلنا في نوم عميق لغاية فجر اليوم التالي حيث استيقظ الجميع على صوت الطائرات السمتية التركية وهي تحوم في سماء المنطقة، أحد الرفاق أخبرني انه في نوبة حراسته شاهد ثعبان اسود تجاوز طول المتر يمر من فوقي الى الجهة الأخرى ولم يحاول ايقاظي لعلمه ان الأفاعي السوداء غير سامة ولا ادري من اين جاء بهذه المعلومات وهو يؤشر على الأثر الذي تركته الأفعى على الرمال الرطبة بجوارنا.

اليوم 17 / آب / 1983 مهمتنا عبـور نهر ( الهيزل ) الذي يحتـاج الى جهـد ومهـارة وذكـاء، ليس هناك وسـيلة معروفة لعبـور هـذا النهر، تعلم الأنصار ومن خبرتهم وضع شجرة سبندارة ((1  ضخمة يتجاوز عرضهـا النصف متر خالية من الأغصان يتم طرحها على النهر وتثبت من الجانبين في أضيق منطقة من النهر والتي لا تقل عن عشرة أمتار، وعـادة ما تخفي مفارز الأنصار هـذه الشـجرة الكبيرة في مكان آمن في الغابة لكي يتم استعمالها عدة مرات عند العبور او التخلص منها برميها في مجرى النهر، يجب ان تكـون السـبندارة مستقرة على طرفي النهر رغم ميلانها بسبب ارتفاع الضفة الأخرى التي نرغب بالعبـور اليهـا عن مستوى الضفة في جانبنـا وهــذا يتطلب جهــدا" كبيرا"، تعاون الجميع مع بعض القرويين على حمل السبندارة الى المكان المناسب للعبـور، وهنـا يجب ان يكون العبور فوقها بحذر شديد لان سقوط احد الرفاق في النهر يعني الموت المحقق، وسبق ان شـهد هذا النهر قصة غرق احـد الأنصار في خريف 1982، هـو الشهيد جبرائيل رمـو ( ابو سمرة ) حيث اسقطه البغل في مجراه السريع، وباءت بالفشل كل محاولات الرفاق لانقاذه رغم اجادته للسباحة.

 بعد جهود كبيرة وضعت الشجرة في المكان المناسب وتسلق عليها الرفاق الشباب في البداية بخفة وهدوء الى الضفة الأخرى وأنفاسنا تتصاعد خوفا" من سقوط أحدهم في النهر، بقيت انا والنصيرة ام سوزان آخر نصيرين، ربط كل منا البشتين على الخصر وطرفه الآخر مسكه الرفاق بشدة تجنبا" للسقوط، صوت الماء يصم الآذان في وسط النهر بسبب تياره السريع، تحركت النصيرة ام سوزان في البداية وهي مرتبكة بعض الشئ ولغاية وسـط السبندارة وبحركـة لا أرادية منها ألتفتت نحـوي تـود الأطمئنان عليّ فأصيبت بفوهة بندقيتها في جبينها الأيمن واحدث ذلك جرحا" بدأ بالنزف مما زاد من أرتباكها أكثر، الجميع يشجعها بعدم النظر الى الأسفل، دقائق حرجة حتى تم العبور بسلام. بعض المفارز تفضل العبـور من أعرض نقطة في النهر لكون ان جريان الماء فيها أبطأ نسبيا" وعمق النهر يكون أقل مع الاستعانة بالبشتين والأحزمة والحبال الموجودة لكي يمسك بها الرفاق أثناء العبور.

بعد عبورنا لهذا النهر المخيف ومعالجة جرح النصيرة ام سوزان ملأ الجميع الزمزميات بالماء البارد من النهر وبدأت المسيرة العسيرة مرة اخرى من جديد لتسلق الجبل المجاور لنا والذي بدأ يرتفع تدريجيا" .

السير على حافة جبل سر زيارات

انها بداية الجبلً الشاهق المسمى ( سر زيارات ) لم اشاهد جبل مثله حتى في الأفلام السينمائية، تنعدم فيــه الحياة كليـا" بمرور الوقت، علينــا الوصول الى قمته التي تبلغ 5000 ( خمسة آلاف ) قدم تقريبا" ومن ثم النزول من جهتـه الأخرى، وفي قمته تلك قـَطع صخري مائل قليلا ً، وقد حفر الانسان منذ القــدم مواضع قدم تشبه السلالم وان ذلك المشهـد الرهيب يصيبنــا بالأحبـاط لعـدم تصورنا اننـا سنصل قمته عن قريب، العشرات من القمم الكاذبة، فكلما وصلنا القمة ونعتقد لم يبقى لنا غير النزول من جهته الأخرى تظهر لنا قمة جديدة تحبط احلامنا، طريق السير بطول لا يتجاوز 17 مترا" وعرض لا يتجاوز القدمين عرضا" في احسن الأحوال ولكنه من اخطر مراحل مسيرة الأنصار، وعلى جانب الطريق الأيسر هاوية سحيقة تقدر بمئات الأقدام عمقا"، وعلى قمة هذا الجبل يقف الأنسان حائرا ً وأية مجازفة أو خطأ أو فقدان توازن قد تعني السقوط والموت الأكيد وسبق ان انتحرت العديد من البغال في هذا الطريق برمي نفسها بحمولتها في الوادي  ويقال ان الأخوة المسيحيين قد بنوا ديرا" في هذا الجبل في فترة الحكم العثماني للعراق هربا" من الأضطهاد ولكونه عصيا" ولا يمكن ان يتسلقه أحد .

لا يحيط بنا الآن غير الصخور البنية الجرداء الخالية من كل ما هو نباتي أخضر او مظهرللحياة، طرق جبلية وعـرة وضيقة جدا"، حيوانات مفترسة سائبة وثعابين وعقارب وسط صخور هذا الجبل، لا يوجد اثر لعيون الماء أيضا"، الماء في زمزميات جميع الرفاق يوشك على النفاذ وعلى الجميع التحمل حتى المحطة التالية حيث عين الماء والأستراحة، الحرارة تزداد كلما أقتربنا من وسط النهار، استراحتنا الرئيسية عادة ما تكون وقت الغذاء وتناول ما نحمله وما تبقى من الخبز الذي زودنا به الرفاق في محطتنا السابقة مع قدح من الشاي الذي كنا نعمله في علب المعلبات الفارغة المتروكة منذ زمن، القمم الجبلية الكاذبة عديدة، وبمرور الساعات يشعر الجميع بالأرهاق الشديد من جديد لدرجة يصبح السلاح الذي نحمله عبئا" علينا، تخلص بعض الرفاق من كل ما هو غير ظروري لتخفيف الوزن في حقيبة الظهر وشرب البعض منا المياه القذرة من برك فضلات الحيوانات البرية الآسنة، وفجأة سمعنا صراخ أحد الأنصار محدثا" صدى كبير بين الصخور وألتفت الجميع بدون شعور نحو مصدر الصوت وتبين أنه النصير(عايـد ).

.ـــ أين الماء يا رفاق .. أين الماء يا رفيق أبو آذار يا رفيق صوفي .... لقد نفذ الماء منذ ساعات وأنا مرهق ولا أستطيع المواصلة ؟
ـــ عليك بالصبر يا رفيق فأمامنا مسافة لا تتعدى الساعتين لمحطتنا القادمة وهذه هي الحقيقة حيث عين الماء ويمكنك عندئذ ليس شرب الماء بل السباحة أذا أردت.

الأنسان يبكي، يتألم، يحزن، يعطش ويخاف، انها مشاعر أنسانية طبيعية ولا علاقة لها بالبطولة والنضال، ان الأبطال يبكون كما في كل أساطير التأريخ وليس هذا جبنا"، لقد تعود الأنصار ان يسمعوا من الدليل ان عيون الماء على بعد ساعة أو ساعتين وكما يسميها البدوي ( شمرة عصا ) لرفع معنوياتهم ولكن الساعات تمر دون جدوى ... وعندها تنعدم الثقة بين الطرفين وتتوتر الأعصاب ولكن في الحالات الطبيعية تكون مثل هذه الأنفعالات مضحكة .

ـــ هل لدى أي رفيق قليل من الماء ؟ ألا تسمعوني ؟ أنا لست مجنونا" أريد قليل من الماء؟

لا أحد يجيب !!! ..... الكل متعب ويعاني من العطش والأعياء أيضا"، الماء عماد الحياة وسط هذه الجبال الجرداء .. وكل نصير مشغول بنفسه وما يعانيه والمصير مجهول بالنسبة للجميع .
علامات الأعياء الشديد تظهر على الجميع، النصير عايـد يسقط على الأرض مغشيا" عليه، تقدمت أليه وأسندت رأسه بين يدي بسرعة، قطرات ماء من زمزمية النصيرة ام سوزان واستراحة لمدة خمسة دقائق تعيد الرفيق عايـد الى الوعي من جديد .
ـــ شد حيلك يا رفيق عايد فأمامنا مسيرة ساعتين أخرى كما يقولون .
ـــ لا تصدق ما يقولون يا رفيق ابو سوزان، لا أستطيع المواصلة أتركوني لوحدي سأواجه مصيري بنفسي ، أتركوا سلاحي فقط وواصلوا مسيركم .
ـــ كيف نتركك يا رفيق وأنت أصغر نصير بيننا ...عليك الصبر والمواصلة و مساعدتنا نحن الأكبر منك سنا" والمتعبين أيضا" ألا تستطيع السير ساعة أو ساعتين أخرى ؟
ـــ اتوسل أليكم يا رفاق أتركوني فقدماي لا تساعداني على الوقوف ولا أستطيع السير لدقيقة واحدة

 وبأشارة مني تقدمت النصيرة أم سوزان لتساعدني ولترفع معنوياته قليلا" بعد أن يأس الآخرين من ذلك .

ـــ أنت تعرف لا يمكننا أن نتركك لوحدك في هذا الجبل المجهول وسط الصخور والحيوانات المفترسة، وأنت تعلم أن توقفنا عن المسير يضع حياة الجميع في خطر كبير وعلينا ان نصل الى محطتنا القادمة في الوقت المحدد ولا أعتقد أنك تود ان تضعنا جميعا" في خطر، ألم تقل لأبو سوزان عند عبور الحدود أنها البداية وأمامنا الكثير هل نسيت ذلك؟ أبتسم عايـد ونهض بصعوبة وعلامات الخجل والأسف بانت على محياه وواصل السير بصعوبة، طلبنا منه أن يكون في المقدمة وخلف الدليل مباشرة ونظرات الجميع متوجه نحوه فقد يعاود السقوط من جديد.

أستمر سيرنا لساعات قبل ان نصل الى محطة الأستراحة المقررة ليلا" وبدأنا نسمع عن بعد خرير الماء في النهر وسط هدوء الجبال المطبق، علامات السرور تظهر على الوجوه وعندها علق الرفيق أبو آذار :

ـــ ألم اقل لكم اننا سنصل الماء بعد نصف ساعة، واسرع في النزول على مؤخرته لشدة أنحدار الأرض نحو الوادي حاملا" الزمزميات مع بعضها ليجلب لنا الماء بعد دقائق ليروي عطشنا ثم تناولنا كل ما تبقى من الأكل الذي نحمله معنا وهنا بدأ احد الرفاق يدمدم وسط ابتسامة الجميع وطلب المزيد.


          أبات مهموم وأصبح مستجد للهم               ولا واحـد يزيد الكـدر والـهم
        
أنا بيدي لأسحن الزرنيخ والـهم                ولا اكـولن اله بكلبي أذيـه !!

الهامش:

السبيندارة..... هي شجرة القوغ ومعناها في اللغه الكردية الشجره البيضاء تنبت عند منابع الماء وتكون مستقيمه وتستخدم للبناء وعمل الجسور على الجداول الصغيرة.

يتبع في الحلقة الثالثة