من الذاكــرة.. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 1 / فائز الحيدر 

الفصل الأول

استراحة الطريق بين الجبال داخل تركيا في الطريق الى الوطن

هذه فصول من ذكريات لا تنتهي، كتبت بعد سنوات طويلة من وقوعها، وهي تحمل يوميات فيها دفئ التجربة ونبض الحياة وتداعيات تلك الأيام، وصورا" عن أولئك الأبطال الذين تقدموا في العطاء الأنساني وقدموا أرواحهم فداء للوطن ومن أجل عراق ديمقراطي حر، هذه الذكريات لأبطال حقيقيون عايشوا الصعوبات بساعاتها وأيامها وسنينها، أولائك الذين حلموا بشمس الحرية في أرض الرافدين، لا في المهاجر والمنافي البعيدة .

 إن تجربة الكفاح المسلح في العراق غنية بالدروس والعبر، وتتطلب الدراسة والتوثيق لكل أحداثها وما كتب عنها من قبل العديد من الأنصار وحسب تجاربهم ليس بكاف، وعبر المراحل التأريخية التي مرت بها. كما ان الكتابة عن هذه التجربة ليس عملا" يسيرا"، اذ لابد من المسؤولية والدقة والموضوعية، والحكم التأريخي، حيث سقت دماء الشهداء أديم أرض الوطن، لقد أستشهد عدد من أبطال هذه الذكريات، عسى أن نذكر لهم في هذه السطور شيئاً من الجهد والتضحية والحلم والأمل الذي دفعهم الى السير في تلك الطريق وفي تلك الأحداث وفي هذه اليوميات، فألى الشهداء جميعا" نهدي هذه الذكريات.....

بعد تلبية نداء حزبنا الشيوعي بالتوجه الى كردستان والألتحاق بفصائل الأنصار هناك غادرت وزوجتي في أواسط تشرين الأول / 1982 عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية متوجهين الى دمشق ومنها بعد عدة أيام الى مدينة القامشلي الواقعة في الشمال الشرقي لسوريا، استمر بقائنا في هذه المدينة عدة أشهر أنتظارا" لوقت العبور المناسب، تجمع شباب من مختلف الأعمار، المهن  ،الأحلام، جائوا من بلدان العالم عدة وألتقوا هنا في هذه المدينة. كل يحمل معه حقيبة سفر صغيرة تظم ملابس شتوية وأحذية رياضية تناسب الطرق الجبلية وادوات حلاقة وراديو صغير أحيانا" وصورا" شخصية للأهل والأحبة، وهناك من يحمل بعض الأدوية وعلبة خياطة سفرية، أضافة الى ما يحمله كل واحد من الهموم والأشجان. البعض منا دخل دورات تدريب عسكرية في جمهورية اليمن الديمقراطية أو في المخيمات الفلسطينية في لبنان والبعض الأخر قطع دراسته في اوربا أو ترك عمله أو عائلته ولا يعرف كيفية مسك البندقية ومبادئ القتال الأولية. لهؤلاء جرت تدريبات بسيطة لبضعة أيام بضواحي مدينة القامشلي استعدادا" للسفر.

طالت فترة أنتظارنا في مدينة القامشلي أكثر من المتوقع بسبب تراكم الثلوج على قمم الجبال وحشود القوات العراقية والجحوش على طرق عبور الأنصار والظروف الأمنية على الحدود السورية التركية واحداث بشت آشان الدموية، الجميع يعيش في بيت واحد بسيط مكون من عدة غرف وتتوفر فيه الخدمات اليومية البسيطة، لا يسمح لأي شخص  بالخروج والأختلاط مع آخرين الا بموافقة خاصة، تسليتنا الوحيدة في هذا الدار الواقع على أطراف المدينة لا تتعدى عن إداء الخدمات اليومية ومتابعة المسلسلات العربية في التلفزيون العربي السوري ولعب الدومينو وقراءة الصحف على قلتها، انصار يغادرون وآخرين قادمون من ارض الوطن يتحدثون لنا عن تجربتهم وبطولاتهم .

في بدايـة شهر آب / 1983 وقبل بضعـة ايـام من السفر وزعـت الأسلحة على مجموعتـنا، عندها علمنا ان موعد تحركنا نحو الوطن قد بات وشيكا" مما زاد من فرحنا، الكل مشغول بالتهيئة للرحلة الطويلة، أختيــار الزي الكردي المناسبة للمنطقة، تفكيك بندقية الكلاشنكـوف وتنظيفها بالزيت، ملء مخازن العتــاد، ربط النطاق والعتاد على الخصربالشكل المناسب، كيفية لبس البشتين ولفه على البطن.. الخ. وأخذنا نحسب الساعات بأتجاه ساعة الصفر لبدأ الرحلة.

في اليوم الثاني عشر من شهر / آب / 1983 وفي ليلـة حالكـة الظلام وفي ظل غياب القمـر كليا"  بحيث اصبحت الرؤية عن بعد معدومة تماما" وهي الليلة الملائمة التي ينتظرها الأنصار لعبور الحدود، تحركت مفرزتنا المكونة من الأنصار الشهيد خيري ياقـو توماس، الفقيـد عباس طالب كاظم (عايـد)، الشـهيد جماهيـر أميـن خيـون (ياسـين)، أبو مازن، قيس الصراف (أبو هـلال)، كفاح، ابو ميادة، أبو سـوزان والنصيرة أم سـوزان، بأتجاه قريـة المالكيـة السـورية الحـدودية مع تركيـا متوجهيـن نحـو الوطـن يرافقنـا الدليـل التركي المعروف جيدا" لدى الأنصار هو الشهيد ( صوفي ) وأحد رفاقه الأتراك.

تعليمات وتوجيهات مشددة عديدة من قبل المنظمـة، على المفرزة ان تعرف أن المسيرة شاقة جدا"، الطريق قد يستغرق أسبوعين على الأقل سـيرا" على الأقـدام وسط طرق جبليــة وعـرة، لا يسمح لأي نصير بحمل أكثر من 2 كيلـوغرام من معلبات السمك واللحـوم ورغيفين من الخبز والحاجـات الشخصية البسيطـة في حقيبـة الظهر المصنوعـة من القماش أضافـة الى السلاح الشخصي المكون من بندقيـة كلاشنكوف وخمسة مخازن عتـاد وقنبلتين يدويتين والأستغناء عن كل شئ غيــر مهم، التوجيهات تشدد علينا السير بنسق واحد وخطــوات مدروسة، نزع الساعات اليدويـــة والخواتم الذهبيـة، رفع بطاريات الراديو أن وجـدت، عـدم التحدث مع أي نصير إلا في الحالات القصوى، عدم التدخين، كل نصير يتبع النصير الذي يتقدمه ويعتبره دليلا" له، اتباع تعليمات الدليل (صوفي ) ( يوسف بايرام ) بحزم.

الدليل الشهيد صوفي ( يوسف بايرام )

طريق مسير الأنصار بأتجاه الوطن يمر داخل الأراضي التركية وبين أبراج المراقبة الحدودية التركية والموزعة على طول الشريط الحدودي والتي لا يبعد أحدها عن الآخر سوى 200 متر في الغالب، وهي أخطر مناطق العبور التي تواجه الأنصار، وأتذكر هنا أن وفدا" صحفيا" من أحدى الصحف اليسارية الفرنسية جاء الى القامشلي يود التوجه الى العراق حاملين على ظهورهم أجهزة تصوير ومعـدات صحفية كبيرة وكأنهم في جولة سياحية اوربية لتغطيـة نشـاط حركة الأنصـار في الوطن، دعيت من قبل الرفيق مسؤول المنظمة الرفيق ( ابو محمود ) لغرض الترجمة من العربية الى الأنكليزية ولتناول طعام العشاء معهم في احد المطاعم وأطلاعهم على طريقة عبور الحدود الخطرة وهم محملين بهذه الأجهزة الكبيرة وعند سماعهم الحديث بأن عملية عبور الحدود سيتم من بين ابراج المراقبة التركية أدركوا خطورة الأمر فتخلوا عن المهمة التي جائوا من اجلها.

بدأت حركتنا من قرية المالكية بنسق جيـد دون حدوث أي طارئ وألتزم الجميع بالتعليمات، وفي الخطوات الأولى لتجاوز الأسلاك الشائكة وتحركنا أنهال الرصاص فجأة على خط سـير المفرزة من ابراج المراقبة، الرصاص يئز فوق الرؤوس كأنه قطعة موسيقية شيطانية ثم سلطت الأضواء الكاشفة على مصدر حركتنـا، أتخذ الجميع موضع الأنبطاح أرضا" وسط الأدغال والأعشاب الجافة، وألتزم الجميع الهدوء التام وسط أزيز الرصاص الذي يمر فوق رؤوسنا وعلى بعد أقدام منا، قرأت مرة رواية تقول ان الرجل الحقيقي لا يخاف الطلقة التي يسمع صوتها حتى تصيبـه، واصلنا الهـدوء والزحف على الأرض، الرصاص الكثيف لا زال يطلق بشكل مستمر من ابراج المراقبة، أنتظرنا عدة دقائق ونحن على هذا الحال، لم تصل أي تعزيزات عسكرية، ومن تجربة الأنصار في العبور لا يبدوا أننا وقعنا في كمين لجندرمة الحدود الأتراك حيث عادة ما يقومون بأطلاق النار على أي مصدر لصوت يسمع وبشـكل عشوائي لأنعدام الرؤيـا بسبب الظلام القاتـم وتأدية للواجب العسكري المكلفين به دون ان يكون هناك هدف معين أو تحديد لمكان عبور مفارز الأنصار التي عـادة ما تعبر الحـدود في فترة غياب القمر وإشـتداد الظلام، وسبق وأن إسـتشهد العديـد من الأنصـار وجرح آخرين بعد وقوعهم في كمائن لرجال الحدود الأتراك عند محاولاتهم دخولهم الأراضي التركية كما وعادت مفارز أخرى لداخل الأراضي السورية مع عدد من الجرحى لنفس السبب.                                                                      

أصاب الجميع الأرتباك، لا نعرف ماهي الخطوة التالية فهي التجربة الأولى لرفاق المفرزة !! ننتظر التعليمات من الدليل صوفي ... بعد دقائق خفت حدة النيران، توجيهات من الدليل التركي صوفي يطلب منا مواصلة السير السريع والأبتعاد عن المنطقة تفاديا" لتحديد موقعنا، الجميع يندفع نحو الأمام في نسق واحد وليس أمامه غير شـبح رفيقـه في المقدمة، وكل واحـد منا يسأل نفسه هل تجاوزنـا مرحلـة الخطـر أم لا ؟ عشرات الأسـئلة تـدور في بـال كل واحد منا وتحتاج الى جواب ووسط هذا الأرتباك والتفكير والظلام وقلـة التجربـة، وفي وسط هـذا الأرباك ولسوء الحـظ دخلت قدمي اليمنى خلال السير بين صخرتين كبيرتين لم أتمكن من رؤيتهما عن بعد بسبب شـدة الظـلام وأصبحت مشلول الحركة كليا" ولم أستطع من تحرير قدمي رغم المحاولات العديدة، الموقف حرج للغاية، رشقات من رصاص الأسلحة الرشاشة لا زالت تمر فوق روؤسنا بشكل عشوائي بين الحين والآخر وعلى خط سير المفرزة.

يا له من حظ تعيس ونحن في بدايـة الطريق، ما العمل الأن ! حاولت بطرق عديدة تحرير قدمي دون جدوى، ما زالت رشقات الرصاص وأزيزهـا تمر فوق رؤوسـنا، حملّت نفسي ما حـدث ؟ كان عليّ الأنتباه الى هاتين الصخرتين الكبيرتين ؟ كيف دخلت قدمي بهذه السهولة ولا استطيع أخراجها الأن ؟ زوجتي النصيرة أم سوزان بجانبي تحاول مساعدتي وفي عيونهـا الحيرة والأرتباك وهي تحاول عمل شئ ما ونحن في هـذا المكان الخطر، ابتعد عنا بعض رفاق المفرزة، ووصل الخبر الى الدليل (صوفي) وتوجه ألينا مسرعا"......

ـ  ما الذي يحدث هنا ؟ هيا اسرعوا قليلا" .

ـــ  رفيق صوفي لا أستطيع الحركة ... أحتاج الى مساعدة ، يا له من حظ تعيس هذه الليلة، عاد صوفي الى الأمام وهو ينظر أليّ محتارا" وطلب من مساعده قيادة المفرزة نيابة عنه ومواصلة السير وعاد ثانية بأتجاهي وسأل :

ـــ  ماذا حدث يا رفيق أبو سوزان ؟ 

ـــ  لقد علقت قدمي بين الصخرتين ولا أستطيع تحريرها !

ـــ  بسرعة يا رفاق ليس أمامنا من خيـار أتركـوا أبو سـوزان هنا في مكانه وسوف نعود أليه حالما يتوقف اطلاق النار ونطمأن للوضع لا أستطيع التضحية بالمفرزة من أجـل نصير واحد، لنواصل السير إننا في موقع خطر وعلينا تجاوز تلك التلال التي تشاهدونها أمامنا في أقل من ساعتين حتى نصل الى نقطة أستراحتنا الأولى، رفضت زوجتي النصيرة أم سوزان والنصير ( عايـد ) مواصة السير وأصرا على تقديم المساعدة جهد الأمكان.

 ـــ  رفيق صوفي لا نستطيع ترك الرفيق ابو سوزان لوحده هنا وهو بهذا الحال ربما يقتل لنحاول مساعدته !!!

 ـــ  حسنا" حاولا ما أستطعتم ولكن بصمت وأنتم ملاصقين للأرض، لا ترفعوا رؤوسكم عاليا" سننتظركم عن بعد وسوف نوفر لكم الحماية كونوا حذرين جدا"..

ـــ   نعم يا رفيق صوفي سنحاول .... ولكن أنتظرونا فربما نفقد أثركم لا تبتعدوا عنا كثيرا".

وبخطة ذكية وهدوء وبعد عدة محاولات أستطاعت يد النصير ( عايـد ) ووسط العتمة أن تفتح قيطان الحذاء الجبلي وأخراج قدمي منه ومن ثم أخراج الحذاء من بين الصخرتين وقمت بلبسه على عجل من جديد ...  وبدت على وجه ( عايـد ) علامات الأرتياح والرضا وهو يقول :

ـــ  الحمد لله نجحت الفكرة لنحاول اللحاق ببقية المفرزة ... وثم بادر بقوله أنها البداية يا رفيق أبو سوزان وأمامنا الكثير من المتاعب في الطريق فعلينا الصبر والتحمل.

ـــ  شكرا" رفيق ( عايد ) على إبداء المساعدة بالفعل أنها البداية وأمامنا الكثير وعلينا التحمل، هيا بنا نسرع فعلينا الآن الألتحاق برفاق المفرزة بأسرع وقت. كان ( عايد ) أصغر نصير في المفرزة ، لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره، رياضي وأكثر نشاطا" وحركة من أي نصير آخر في المفرزة وخاصة نحن الذين تجاوزنا الثلاثين من العمر لطيف المعشر، مرح، هادئ لدرجة كبيرة، ذو أخلاق عالية عارضت عائلته في البداية إلتحاقه بفصائل الأنصار لصغر سنه وقلة تجربته الحياتية وسبق وإعدم أثنين من أخوته من قبل النظام الدكتاتوري وفضلت أن يكمل دراسته بعد ان حصل على زمالة دراسية في أحدى الدول الأشتراكية ولكنه أصر أصرار الرجال على مواصلة الرحلة الشاقة وخوض التجربة الجديدة مع رفاقه وأنتقاما" لأخوته الأبطال.

بعد ساعات من السير وفي خط مسير المفرزة وعند خطوط انابيب النفط العراقي عبر تركيا والمحروس بشكل جيد من قبل القوات التركية غمر المزارعون أراضيهم الزراعية استعدادا" لزراعتها في الموسم القادم وغمر معها طريق سير الأنصار الوحيد المار وسط هذه المزارع بالمياه واصبح الطريق موحلا" والسير فيه مستحيلا" وهذا الأمر لم يكن في الحسبان، نزعنا أحذيتنا الجبلية وجواريبنا ورفعنا الشراويل الى ما فوق الركبة، حقيبة الظهر تشدنا الى الخلف وكأنها صخرة اسطورية. بدأنا السير حفاة وسط الأوحال لمسافة تقدر بنصف كليلومتر حاملين أحذيتنا حول رقابنا وسط نباح الكلاب ومشاهدة المزارعين للمفرزة وغالبا" ما يكون هؤلاء من المتعاونين مع المخابرات التركية وهذا الأمر زاد من قلقنا.

تم تجاوز هذه المرحلة بصعوبة وبسلام، معظم الرفاق قد أنهكهم التعب، لكن الحماس والإصرار على مواصلة السير منحهم القوة للتغلب على التعب، خصوصا" وأن المكان الذي سنجتازه بعد قليل هو الشارع الدولي المرتفع والموازي لأنابيب النفط والذي يعتبر من اخطر الأماكن في مسيرة تلك الليلة بعد دخول الحدود وعادة ما تسير عليه دوريات الجيش التركي في اوقات منتظمة، جلسنا متخفين على جانب الطريق وسط العتمة نراقب الشارع لفترة طويلة للتأكد من عدم وجود دوريات عسكرية او كمائن في احد زواياه، الجميع مشغول بتنظيف اقدامه من الوحل ولبس جواريبه وحذائه وهم يصغون بانتباه وترقب في وضع الانبطاح مع حمولتهم والأنفاس تتسارع والعيون مفتوحة في هذا الظلام، ليس هناك من ضوء سوى الضوء الباهت الذي كان يأتي من الربيئة البعيدة المشرفة على ذلك الجزء من الشارع الدولي المحاذ لأنابيب النفط .. الكل ينتظر نتيجة الاستطلاع الذي يقوم به (صوفي) ورفيقه وبدورهم ينتظرون  مرور سيارة الدورية للتأكد من خلو الشارع من الكمائن. لم يمض وقت طويل حتى علا في الأفق ضياء سيارة الدورية التي وقفت لفترة وجيزة بالقرب منا ثم واصلت طريقها حينها تبين بعدها  للمستطلعين أن الطريق أصبحت آمنة.

جاء الإيعاز من الدليل  للمجموعة ببدء الصعود إلى الشارع والعبور بخفة وهدوء خوفاً من انتباه عملاء النظام في المنطقة، في دقائق تم عبورنا الى الجانب الثاني وواصلنا المسيرة، وعلينا في هذه المرة عبور الجسر الذي يقع على أحد الأنهار التي لا يبعد عنا كثيرا" وعادة ما تكون هناك كمائن للجيش التركي على جانبي هذا الجسر، تم اٍستطلاع الجسر من كافة الجهات ثم اعطيت الأوامر بعبوره بسرعة واتخاذ مواقع على الضفة الأخرى من النهر ثم واصلنا السير الى الأمام حتى طرأ لسماعنا وعن بعد صوت محرك احدى السيارات فأخذنا مواقع القتال وكان كل ظننا انها دورية عسكرية للجيش التركي وصلها خبر تواجدنا في المنطقة ولكن عند اقترابها تبين انها تراكتور زراعي يحمل العديد من المزارعين، خرج لهم الدليل صوفي وتكلم معهم بعيدا" عن مواقعنا وأستطلع منهم عن سلامة الطريق القادمين منه وان كانت هناك كمائن للجيش التركي في الطريق ام لا ؟

بعد مسيرة الليل بكامله بطريق وعرة وجبلية ثم الى سهل مفتوح وصلنا قبل شروق الشمس الى نهر الخابور متأخرين عن الموعد المخطط له بساعتين بسبب المشاكل التي واجهتنا في بداية الطريق وعلينا في هذه الحالة عبوره على الكلك المصنع يدويا" والذي لا يخلوا من الخطورة خاصة وقت ارتفاع مناسيب النهر وسرعة تياره، ثم تم تأمين مكانا" ملائما" لتهيئة وتركيب الكلك.

كان الجميع قد أنهمكوا بنفخ الإطارات بأنفاسهم المتعبة، ربطت الإطارات إلى بعضها بالحبال بشكل جيد وبسرعة، أخذ ذلك منا ساعة ونصف من العمل الدؤوب حتى أصبح الكلك جاهزا" لعبور النهر وكالمعتاد يجب وضع الحمولة على الكلك ويصعد الأنصار تباعا" وعلى وجبات حسب حجم الكلك وتحمله وهم يواصلون الجذف بالأيدي للمساعدة في دفع حركته نحو الطرف الثاني للنهر بأســـرع وقت وهكذا تم عبورنا الى الضفـة الأخرى من النهـر بسرعـــة وعلى ثلاث وجبـات، الشمس سـبق وأشرقت قبل أكثر من ساعة وهذا يضعنا في موقع خطير جدا" ومكشوف أمام دوريات السمتيات التركية التي عادة ما تجوب المنطقة بعد شروق الشمس.

بعد مسيرة اكثر من ساعة في طرق جبلية معقدة كان في أنتظارنا رفاق الطريق من الأنصار بموقعهم داخل الأراضي التركية ومهمتهم استقبال الأنصار الجدد القادمين من سوريا وقيادة مفارزهم الى مواقع الأنصار المتقدمة والتي تبعد مسيرة عدة أيام أخرى سيرا" على الأقدام. 

يعتبر الأنصار أن مسالة عبورهم الحدود التركية بإتجاه الوطن من أخطر المهمات التي تواجههم، وفقدت الحركة الأنصارية العديد من الشهداء في هذا الطريق منهم...الشهيد (حسن جميل علي)، وهو من أهالي بامرني الذي أستشهد أثناء عبور مفرزة الطريق من تركيا الى سورية في قرية باب الهوى السورية عام 1982 ودفن في مدينة القامشلي، كما وأستشهد الرفاق( نمير عبد الجبار)، ( بهاء الأسدي )، و( سلمان جبو ) في 21 / 9 / 1982 خلال عبورهم من قرية معشوقية مع أولاد ( د.د.ق.د) وجرح الرفيق ( نجم خطاوي )، كما جرح العديد من الأنصار خلال عبورهم النهـــر وآخرها كان إستشهاد  ستة رفاق من مفرزة الطريق بعد وقوعهم في كمين محكم من قبل الجحوش  وقوات النظام وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا".

 

         الشهيد راضي محمد ( أبو ايمان ) مع النصير أبو عليوي في أحدى كهوف محطة أبو حربي

هذه هي محطتنا الأولى المسماة محطـة ( ابو حربي ) وهي احدى محطات الطريق التابعـة للحزب لأسقبال القادمين الجدد من سوريا وسبق ان تغير أسم المفرزة من مفرزة النقل إلى مفرزة الطريق بسبب تنوع  المهام وأصبح لدى مفرزة الطريق مقر شبه دائم في أحدى ممرات سفح جبل ( ﮔلي كورتك ) التركي، وهو عبارة عن شكفته ( مغارة ) بسيطة لا تسع لأكثر من عشرة افراد، ويتذكر كافة الأنصار تلك المحطة التي تقع على سفح الجبل وكيف كان يجري استقبالهم وفي بعض الأحيان تجري حفلات ترفيهية بسيطة لهم، وبعد يوم أو يومين من الاستراحة يتم مرافقتهم مع بعض رفاق المحطة نفسها وإيصالهم إلى قواعد الأنصار الداخلية من خلال المرور بموقع ( كيشان )ومقر الفوج الثالث للأنصار ومن ثم قاطع (بهدينان ) والقواطع الأخرى.

 

لا يمكن تصور فرحتنا ونحن نلتقي بمن يستطيع أن يتكلم معنا من الرفاق ويجيب على أسألتنا، سمعنا كلام الرفاق ( أبو وسـن ) وتبعـه صوت ( أبـو أفكار ) وثم  ( أبـو آذار )، بعـدها شـاهدنا ( أبو هـدى ) ورفاق آخرين، لا يمكن وصف مشاعرنا في تلك اللحظات الرائعة ونحن نرى هؤلاء الأبطال وهم يعيشون في هذه المحطة الجبليـة النائية وخطورتها لأشهر طويلة، وبسرعة تمت تهيئة بطانيات للجلوس وعملوا لنا الشاي، ووضعـوا أمامنا الخبز وشوربة عدس وهو طعام الأنصار المفضل والمتوفر في مثل هذه المواقع، صحيح كنا نشعر بعطش وجوع وتعب، لكن وجود رفاق يمكن التفاهم معهم شيء كبير بالنسبة لنا في مثل تلك الظروف وينسينا تعبنا وعرفنا فيما بعد أن المجموعة الموجودة في تلك المحطة تسكن في خيمة نصبت في مكان مموه بشكل جيد.

بعد كل هـذا الجهـد والقلق والأنهاك لليلـة الماضيـة وتناول الخبـز والشوربـة والشاي صباحا" كان بإنتظارنـا اللحم المشوي لبزن ( صخلة ) صغيرة لوجبة الغذاء أعده الأنصار في هذا الموقع الجبلي المعزول والخالي من أي حياة ولا تسكنـه غير الحيوانات المفترسة والأفاعي، سحب أحد الأنصار في الموقع مديته من حزامه وبـدأ يدلكهـا بلحاء شجرة الجوز وبصخرة قريبـة منهـا، ساعده آخرين على نحره وعلقـه على غصن شـجرة بجانب عين الماء، وبسبب الجـوع تم تقطيعه بسرعـة وتوزيعـه على الرفاق لكل واحد كميـة من اللحم يشويهـا بطريقتـه الخاصة.

تحركت مجموعـة من الرفاق لجمع الحطب وإشـعال النار اسـتعدادا" لشوي اللحـم، لا يوجد حل آخر سوى الشـواء على طريقـة البيشمرﮔة ، لا وجـود لأساليب التحضر وسـط الجبال، تعلمنا كيف نستعمل قطع أغصان الأشجار الغضـة وإزالـة الأوراق منهـا لجعلهـا بمثابة شـيش طويل لغرز اللحم، كانت وجبـة دسمة أمدتنا بكثير من الراحة والطاقة تبعها عدة أقداح من الشاي الأسود وتمدد أثر ذلك عدد من الرفاق بعد تعب الطريق ودسم الغذاء وصعوبة عملية الهظم.

في هـذا الموقع كهـوف عديـدة منتشرة على جوانب الجبال اضافـة الى العديد من الكبرات التي بنيت من سيقان وأغصان الأشجار وهي أماكن نوم وأستراحة المفارز وهم في طريقهم لمواقع الأنصار المتقدمة في العمق العراقي وبعد هذه الأستراحة جاء أحد رفاق الموقع  ليقول ....

ـــ  رفاق امامكم مسيرة طويلـة وشاقـة يوم غد وسط طبيعة قاسية وقلـة في المياه فعليكم أخذ قسطا" كبيرا" من النوم والراحة والتزود بالأكل والماء من الأن وستغادرون في الساعة الرابعة عصر يوم غد لتواصلوا المسيرة طول الليل وعلى ضوء القمر.

 قضينـا طوال اليـوم نقـوم بالواجبـات الأنصاريـة، النزول الى النهـر وملء الماء، خبـز الخبز بالتنور لليوم الثاني،تنظيف السلاح وتزيته، تنظيم الحراسات اليومية والليلية، التأكد ان كل شئ على ما يرام للمشوار القادم وبعد العشاء دخلنا في نوم عميق حتى صباح اليوم التالي لنواصل مساء رحلتنا الصعبة بإتجاه الوطن.

الهوامش/ ـــــ

1 ـ عايـد ... هوالفقيد عباس طالب كاظم من مواليد 1964 من عائلة مناضلة، توفي في كانون الأول / 2004 في مدينة مالمو السويدية جراء أزمة قلبية مفاجأة وهو جالس أمام الكمبيوتر يتحدث مع رفاقه الأنصار .

2 ـ النصير ياسين ( جماهير ) مواليد 1961 ، هو أبن المناضل أمين خيون الذي اغتيل في سبعينات القرن الماضي من قبل النظام الديكتاتوري، إعتقل وغيبت أخباره خلال اداءه لمهام حزبية في بغداد نهاية ثمانينات حتى سقوط النظام الديكتاتوري، عثر على اسمه في سجلات المعدومين من قبل النظام المقبور.

3 ـ  صوفي ... ( الشهيد يوسف بايرام ) ... من أكراد تركيا، عضو في حزب كوك التركي ، خبير في طرق عبور الأنصار، قتل في أحدى المعارك مع القوات التركية بعد وقوعه في كمين محكم في 22 آذار / 1987 .

4 ـ  الجحوش ..... من كلمة جحش ، وباللغة الكوردية تكون ( جاش ) وهذا تعبير يحمل كره وعدم احترام الشعب الكردي لابناء جلدتهم الذين يشكلون قوام وحدات المرتزقة التي يديرها النظام الديكتاتوري تحت اسم ( قوات الفرسان )

5 ـ الصور العليا المرفقة هي صور حقيقية أخذت أثناء الرحلة نفسها ولنفس الأنصار.

6 ـ الشهيد خيري.....هو خيري ياقو توماس، أستشهد في 6 نيسان / 1986 في منطقة فايدة أثر كمين للسلطة .

7 ـ د. د . ق . د ..... احدى المنظما ت الحزبية التركية

يتبع في الحلقة الثانية