من الذاكــرة أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 14 / فائز الحيدر

التحقيق مع اللاجئين في معسكر خوي الأيراني

الفصل الرابع عشر

معسكر خوي عزل ساكنيه عزلا" تاما" عن العالم، لا شيء أمام أعين اللاجئين غير السماء والأرض الجرداء والجبال المحيطة به، مكان ينعدم فيه التأريخ، فلا أحد يعرف الحاظر والمستقبل، لا يعرف اللاجئ متى ينتهي مصيره فمن شروق الشمس وحتى غروبها هناك أسئلة كثيرة ومعاناة يومية وكوابيس تشغل بال كل لاجئ.

الجبال الشاهقة المحيطة بالمعسكر والحيوانات المفترسة والصحـراء والأسلاك الشائكة هي الأشياء الوحيـدة الممكن مشاهـدتها، وكلما مرت الأيام يزداد اللاجئ تعطشا" الى الحريـة ولممارسة حياته العادية، القضية الوحيدة المشتركة بين اللاجئين هي قضية الصراع اليومي للبقـاء على الحياة مع الألم ولوم النفس، ولا شيء يبعـد الألم ولوم النفس غيـر الأمل في المستقبل، أحداث، وقائع، أفكار، همـوم وصراع هي جزء مما تبقى في الذاكـرة طيلـة السنين الماضية، أنهـا أمتزاج خالص بين العواطف والأحاسيس التي تحمل مشاعر الخوف، والقلق والمزاج الصعب تدون في هذه السطور.

في الأيام الأخيرة من شهر آب / 1986 أصبح الوضع في معسكر خـوي لللاجئين يسير نحو الأنفجــار والحديث والتذمر أصبح حال اللاجئين في كل أرجاء المعسكر بسبب سـوء التغذية وقلة الخدمات المقدمة لهم وهم بأنتظار اللجان التحقيقية للمباشرة في عملها وقد يحصل اللاجئ على أمل بعد ذلك.

باشرت هـذه اللجان التحقيقية بعملهـا حال وصولهـا يوم 31 / 8 / 1986 لتقابل اللاجئين وفق القوائم المعدة مسبقا" من قبل أدارة المعسكر، كل لجنة تحقيقية تتكـون من ثلاثـة أشخاص أثنان من الأيرانيين يتحدثـون اللغة الفارسية وهما من دائـرة الأمن الأيراني ( السافاك ) والمخابرات الأيرانية أما الشخص الثالث كان يجيـد اللغـة العربية وهو من أهل النجف كما يبـدو وهذا واضح من لهجته النجفية المعروفة وتبين لنا لاحقا" انه من المجلس الأعلى للثورة الأسلامية في العراق الذي يعتبر نفسه ممثلا" للعراقيين في ايران ولكن معاملته لهم أكثر قسوة من الآيرانيين.

عندما جاء دورنا في المقابلة كانت الأسئلة روتينية حول الأسم الثلاثي، مكان السكن، العمل الوظيفي، الأنتماء السياسي، الموقف من الحرب ومن الذي بدئها، رأيك بالأمام الخميني؟ رأيك بصدام حسين؟ لماذا أخترت أيران كبلد للجوء؟ هل تود البقاء في ايران أم لا؟ هل لديك رغبة بالتطوع بجيش القدس؟ الى غير ذلك من الأسئلة وكان آخر الأسئلة الموجهة لنا ما هي ديانتكم وعندما أوضحت لهم إننا غير مسلمين تغيرت الأسئلة وأخذت تتركز وتطرح مباشرة من قبل ممثل المجلس الأعلى الأسلامي عن رأينا بالدين الأسلامي، ومن هو نبيكم؟ هل لديكم كتاب سماوي وما اسمه؟ لماذ لا تتحول الى الدين الأسلامي وهو آخر وأفضل الأديان؟ لقد أجبت على كل هذه الأسئلة بأجابات هادئة مقنعة حيث ندرك ان الغرض من توجيه هذه الأسئلة هو أستفزازنا بأي شكل وهذا ما كنا ندركه مسبقا" ومتفقين على تجنبه. ولكن أجابتي حول تغيير الدين دفعني لأن أتخذ موقفا" صلبا" أمام اللجنة حيث لم أكن متدينا" يوما" وليس دفاعا" عن الدين بقدر ما هو تبيان الحقيقة وكشف المتاجرة بالدين نفسه من قبل الآخرين ونحن نتعرض يوميا" الى حياة قاسية بسبب قلة الخدمات المقدمة وكان كلامي موجها" الى ممئل المجلس الأعلى وأجابة لسؤاله لكونه عراقي الأصل .

ـــ أعتقد من لهجة حضرتكم انك عراقي ومن النجف وما من عراقي لا يعرف من هم الصابئة المندائيين فهم أصل العراق وحضارته هذا اذا كنتم تعيشون في العراق. كما وتعرفون أن أسم الصابئة ورد في القرآن الكريم في ثلاث آيات واعتقد انك قرأت القرآن وتعرف ذلك، كما وانكم تعرفون أيضا" ان نسبة كبيرة من اللاجئين هم من الأخوة المسيحيين والصابئة والأيزيدين وأديان أخرى والأجدر بكم بدلا" من أن تطلبوا منا نحن اللاجئين تغيير ديننا والتحول للدين الأسلامي وهذا خلاف لقواعد حقوق الأنسان والقوانين الدولية الخاصة باللاجئين عليكم أن تتعرفوا على معانات اللاجئين وهم ضيوف عندكم وقد أوصى بهم الدين الأسلامي وهم يعانون منذ أسابيع من سوء التغذية ونقص حليب الأطفال وعدم توفر الماء الصالح للشرب وأنعدام الخدمات الصحية وعم وجود الحمامات ولم تتوفر لهم الخدمات الضرورية حتى يشعر اللاجئون أنهم ضيوف في جمهورية أسلامية دعت العراقيين للجوء اليها للتخلص من نظام صدام حسين لا لتغيير الدين وهو دين الأباء والأجداد، وبأعتباركم مسؤولين في الدولة فأنكم تتحملون جزء من مسؤولية ما يحدث في هذا المعسكر من مئآسي ترتكب تحت أسباب مختلفة، لقد تم التعامل مع اللاجئين كأسرى حرب وهذا خلاف للقوانين الدولية فأين العدالة وسماحة الدين الأسلامي، أرجوكم القيام بجولة في المعسكر وأستمعوا لأراء اللاجئين ونوع الخدمات المقدمة لهم ومن ثم قرروا.

ــــ هل انت وزوجتك تشعر بالمعاناة مثل الآخرين؟

ــــ نعم اشعر بنفس المعاناة والجميع في مكان واحد وما طرحته عليكم هو الحقيقة.

ـ لماذا لم يطرح أحد غيرك هذا الموضوع؟ من كلامك هذا نعتقد وجود عملاء لصدام حسين في المعسكر يرغبون بتشويه صورة جمهورية أيران الأسلامية أمام العالم ويبدو انك واحد منهم !!!

في هذه اللحظات تذكرت ما قاله الشاعر ( رومي بن سبهان الشعلان البريجي ) وهو من أهالي سوق الشيوخ عندما أستدعي من قبل أحد شيوخ المنتفك وهو( ناصر باشا السعدون ) وطلب منه ومن (داود اليهودي ) أن يأتوه بم لا ينظم الشعر ولا يجيد الغناء حيث قال :

آه يوياـــي
يباشـا الوكـت شـوف شـلون علبـاي
وجثيـر من العـلل بالكـلب علبـاي
أيتخـيلي يكـص السـيف علبـاي
شـيخـلصني لـون تغـضب عليـة
آه يويلــي

ـــ قبل ان تتسرعوا وتحكموا على ذلك يمكنكم القيام بجولة ويمكنني مرافقتكم لتشاهدوا بأعينكم المعاناة التي أخبرتكم عنها ويمكنكم أتخاذ القرار المناسب.
نظر المحققين الى بعضهم وبعد برهة ......قالوا
ـــ هل انت متأكد ؟
ـــ نعم ويمكنكم التأكد من ذلك بأنفسكم ...

قررت اللجنة وقف المقابلات الى أشعار آخر وهم يتحدثون بالفارسية فيما بينهم، بعد عدة ساعات من الغياب عن الأنظار قامت اللجنة بجولة سريعة في المعسكر وطلبوا مني مرافقتهم لأبين لهم الأخفاقات وسوء الأدارة ونوعية الطعام المقدم والمياه القذرة ..الخ .

بعد تلك الجولة السريعة ووقوفهم على واقع حال اللاجئين مباشرة ولأمتصاص التوتر في المعسكر وبعد مشاورات مطولة مع أدارة المعسكر كان باكورة العمل الذي قامت به اللجنة هو أقناع الأدارة كخطوة اولى بأرسال اللاجئين وتحت حماية مشددة من قبل حرس الثورة ( الباسداران ) الى الحمامات الأهلية في مدينة خوي للأستحمام وتم نقل اللاجئين بالباصات وعلى وجبات أستمرت ثلاثة أيام وأعطيت فترة ربع ساعة فقط لكل شخص لغسل جسمه وما علق به من أوساخ وأتربة خلال الأسبوعين الماضيين على ان يتم تحسين الخدمات الأخرى لاحقا" وبالتدريج وفعلا" لاحظنا في الأيام التالية تحسن بسيط في نوعية الغذاء المقدم وقدمت برتقالة أو تفاحة واحدة لكل لاجئ ظهرا" مع 25 غم من الجبن وقليل من المربيات صباحا" ووزعت قطع من اللحم ولو بكميات قليلة ولأول مرة ووفر حليب الأطفال بشكل بسيط وبكمية محددة لكل طفل ولكن بعد انتهاء اللجان التحقيقية من عملها بعد حوالي اسبوعين عاد الحال في المعسكر الى وضعه الأول وبدأ التوتر من جديد يسود بين اللاجئين والأدارة .

في اليوم الثاني من شهر ايلول / 1986 أجري التحقيق الثاني مع اللاجئين ومن قبل لجان عديدة أخرى وكانت الأسئلة مشابهة الى اسئلة اللجنة الأولى ومكملة لها تقريبا" ولم تحدث أية نقاشات جانية ولم تطرح اسئلة استفزازية ولم يطرح اللاجئين معاناتهم من جديد لمعرفتهم انهم سوف يغادرون المعسكر بعد أنتهاء التحقيق، وفي التالي تم تصوير كافة اللاجئين بأجهزة تصوير شمسية بدائية من مخلفات فترة الخمسينات وكانت الصور الناتجة مضحكة للغاية لعدم وضوحها لغرض اكمال ملفات اللاجئين وكان التصوير يعاد عدة مرات للحصول على الصورة المناسبة.

مغادرة المعسكر الى طهران

بعد أسبوع من المعاناة اليومية الأضافية في معسكر خوي ولعدم تحمل المعسكر لأستقبال أعداد متزايدة من اللاجئيين تصله يوميا" جاء قرار من السلطات الأيرانية بنقل كافة اللاجئين الى معسكر آخر على وجبات، ففي الساعة العاشرة ليلا" من يوم العاشر من أيلول / 1986 تم نقل غالبية اللاجئين بالباصات الى طهران لغرض نقلنا الى معسكر آخر لا نعرفه، أستمرت الرحلة طيلة الليل ولغية صباح اليوم التالي ولفترة تجاوزت ثلاثة عشرة ساعة متواصلة مررنا خلالها بعدة مدن ايرانية من بينها مدينة خوي ومحافظة أرومية وتبريز ( Tabriz )ومدن صغيرة أخرى، الباصات غير مريحة والمقاعد ضيقة وحرارة الجو لا تطاق وبسبب الجوع الذي لازمنا طيلة الليل لم نتمكن من النوم حتى لساعة واحدة.

في الساعة الحادية عشرة ما قبل ظهر يوم الحادي عشر من أيلول/ 1986وصلنا العاصمة طهران، مدينة طهران مدينة عصرية ولكنها تحمل كل التناقضات من عمارات شاهقة حديثة الى بيوت بائسة فقيرة، الحركة دائمة ونشطة، مررنا باحياء عـــدة أصابتها صواريخ سكود العراقية وشلت الحياة فيها، لا أثر لوجود حرب مع العراق في المناطق التي مررنا بها، بعد نصف ساعة وقفت السيارات أمام مبنى محافظة طهران لمدة أكثر من ساعتين ونحن نجهل سبب هذا التوقف ووجهتنا اللاحقة وسط حرارة الصيف اللاهبة مما زاد من تعبنا وتوتر اعصابنا المنهارة أصلا" وحالنا يقول ( كلها مني أنا بيدي جرحت أيدي ) ولعنة على الساعة التي دخلنا فيها اراضي ايران .

تحركت الباصات مرة اخـرى الى جهـة مجهـولة وأتحـذت طريقـا" خارجي بعيـدا" عن العاصمة ولمدة دامت أكثـر من ساعتين وبسبب الجـوع والأرهاق الذي أصابنا لم يتسنى لنـا رؤية الطريق الذي سـرنا فيه بشكل جيــد حتى توقفـت في الساعة الثالثة ظهرا" من يوم الثاني عشر من أيلول امام بناء قديم معزول يشبه أبنية قصور العصر العباسي قيل لنا انه ( معسكر وارمين Varamine ) لللاجئين، يتكون هذا البناء  من عدة غرف وكل غرفة لها قبة في أعلاها على شاكلة قبب المساجد، البناء تأريخي مبني من اللبن ومحاط بالأسلاك الشائكة وتحت حراسة مشددة أيضا" ، وارمين مدينة تقع في الجنوب الشرقي للعاصمة طهران، غالبية سكان المدينة من العمال الأكراد المهاجرين من القرى الأيرانية ويعملون بالبناء، ونسبة النساء عالية في المدينة قياسا" للرجال.

 ترك الجميع الباصات تحت حراسة مشددة بأنتظار الفرج، الساحة الخارجية للمعسكر عبارة عن ساحة ترابية مكشوفة تخلوا من الأشجار أو من أي نباتات خضراء، تجمعنا وكافة اللاجئين المساكين في هذه الساحة بأنتظار الدخول الى البناء للراحة وتخلصا" من حرارة الشمس، تم تبليغ الجميع بالبقاء والوقوف في الساحة تحت الشمس لغاية تدوين أسمائهم وخضوعهم لعملية تفتيش دقيقة أخرى، لم يتناول الجميع أي طعام من مساء يوم أمس، الحرارة لا تطاق، الجميع عطشى ويبحثون عن قليل من الماء.

يحتفل الأيرانيون سنويا" بمناسبة إستشهاد الأمام الحسين وأهل بيته في كربلاء وهم عطاشى وترك ذلك أثر ولوعة في قلوب المحبين والموالين له لقرون عديدة، واليوم أصاب النسيان الحكومة الأيرانية وتركت اللاجئين العراقيين عطشى في وارمين وهم يتذكرون عطش الحسين وأهل بيته في الأراضي الأيرانية وكأن التأريخ يعيد نفسه من جديد، الجميع عطشى وخاصة أولياء الأطفال يضغطون على الأدارة طلبا" للماء وهم تحت حرارة الشمس المحرقة دون جدوى، فالأدارة من جانبها تطلب التريث من الجميع لغرض الحصول على الماء بالهدوء ولتدوين أسمائهم لدى الأدارة وخضوعهم للتفتيش الدقيق والأعلان عن ما يحملونه معهم وهو تكرار لما تم القيام به في أرومية ومعسكر خوي طيلة الفترة الماضية، وقف الجميع في طوابير طويلة تحت الشمس وكأنهم محكومين وفي طريقهم الى الأعدام.

بعد عدة ساعات جاء دورنا وتم تدوين أسمائنا وتفتيش ملابسنا وأخذ المبلغ البسيط الذي سمح لنا بالأحتفاظ به سابقا" في محافظة ارومية لقاء وصل أمانة كما وتمت مصادرة الراديو الصغير الذي أحمله ومن خلاله كنا نتابع اخبار الحرب والعالم بعد ان اخبرونا بمنع استعمال الراديوات داخل المعسكر، وبعد عدة ساعات تم أعادته لي بعد ان كلفت أحد الأخوة الكرد لأقناع الأدارة بأستعادته حيث كان الوسيلة الوحيدة لمعرفة ماذا يدور خلف هذا المعسكر.

عند المساء وما بعد السابعة تم الأنتهاء من تفتيش وتدوين اسماء كافة اللاجئين وتم توزيع الجميع على غرف المبنى، كل عائلة في غرفة أو أكثـر وحسب عـدد افراد كل عائلـة، يعتبر هـذا المبنى أفضل من معسكر خـوي نسـبيا"، الغرف أكبـر ومفروشة بالبسط وباردة نسبيا" لتوفر المراوح السقفية في كل غرفة مع وجود مبردة ماء كهربائية في وسط الساحة، عند غروب الشمس تم توزيع الطعام على كل العوائل وهو عبارة عن قليل من التمر والخبز واللبن الرائب. المراحيض قذرة كسابقتها في معسكر خوي وهي عامة ومعزولة أحداها للرجال واخرى للنساء، هناك سـاحة لكرة السلة بجانب البناء من الصعب الدخول اليها الا بموافقات خاصة من قبل الأدارة. حياتنا روتينية قاسية، الطعام الذي يوزع على اللاجئين افضل مما حصلنا عليه في معسكر خوي، ما بعد الغروب وأنخفاض درجة الحرارة نقوم بالتجوال في الساحة الخارجية لتنشيط أجسامنا والقيام ببعض الحركات الرياضية وقراءة بعض الكتب الدينية المتوفرة في مكتبة المعسكر، لا توجد أية وسيلة للتسلية لذلك يلجأ الجميع للنوم المبكر تخلصا" من الفراغ والتفكير الذي يشغل بال الجميع حول المستقبل المجهول.

دامت اقامتنا في هذا البناء اسبوعا" كاملا" متعبا" وحتى يوم الثامن عشر من أيلول / 1986 حيث بلغنا بالأنتقال الى معسكر (جهرم ) الصحراوي الواقع في الطرف الجنوبي الغربي من أيران وهذا ما سنتحدث عنه في حلقتنا القادمة .
 

يتبع