أوراق أنصارية .. مذكرات الفقيد النصير سلام الحيدر ( د. أبو تانيـا )/ إعداد فائز الحيدر

فصيل الأعلام المركزي

الفصل العاشر

              فصيلي مكتب الأنصار وأسفل منطقة أرموش  

في الليالي الباردة كانت تسـليتنا القراءة ولعـب الشـطرنج على ضوء الفانوس الخافت ونتبادل الأحاديث العـامة وخاصة أحاديث الرفيق ( فوقي ) المضحكة، حدثنا فوقي مرة عن الرفيقات الجديـدات اللاواتي وصـلن من الخارج وذهـب مع عدد من الرفاق لمرافقتهن الى ( لولان)  ولاول مرة يرى أن الرفاق يتسابقون للمشاركة في المفرزة، بقيت الرفيقات في الفصيل لفترة وجيزة ثم وزعن على الفصائل الأخرى.

في أحد الأيام دار حديث بيني وبين الرفيق ( أبو حازم )حول سبب نقلي الى هذا الفصيل رغــم أني كنت أقدم الأفضل وأعمل أكثر في (فصيل الأعلام في لولان) وحتى الرفاق هناك عارضـوا نقلي الى هذا الفصيل ولم أكن أعرف سـبب أصرار الرفيــق (أبو عامل )على نقلي ، فأخبرني أنه ستجرى في الأيام القادمة ترتيبات جديدة لأوضاع الفصائل وأماكن تواجدها أرتباطا" بالوضع العسكري ( الحرب العراقية ـــــ الأيرانية ) وستكون منطقتنا خطرة بعض الشئ وربما ستطرأ على حزبنا بعض الأمور السياسية والتي تتطلب ترتيب الفصائل من جديـد، وأقتـرح أبو حازم  بنقلي الى الفصيل الآخر لأكــون بالقرب من الرفيق ( ثابت حبيب العاني ) ( أبو ماهر ) والأهتمام به والـذي كان يمـر بظروف صحية غير جيدة أرتباطا" بأمور خاصـة  صعبة كان يمر بها.

 أنتقلت في اليوم الثاني الى الفصيل الآخر والذي شغل مقر اقليم كردسـتان القديم، كانت القاعـة التي شـغلها الرفاق واسعة جدا" وقد تكون أكبر قاعة في جميع مقراتنا، وأضافة لها فقد كانت هناك قاعة لحضيرة المتفجرات مكونة من الرفاق ( أبو عوف، أبو زينب، بولا، وناديـة )، وفيما بعـد قمنا بتنظيف وتهيئة أحدى القاعات المتروكة التي أستقبلت بدفأ الرفاق الجـدد الذين وصلونا وهم ( أبو شهاب، رمزي، أبو لمى، أبو فيدل ، موسـى وجميل وآخرين ) وهناك غرفة واسعة حولت إلى أن تكون مطبخا" ولحفض التموين أيضا". فأضافة الى مهمات النصير اليومية كانت للفصيل سـلاح دوشكا وضع على تلة مرتفعة ونصب بقربـه خيمـة تحمي الرفاق من البـرد شتـاء" .

 وكان مكتب الفصـيل مكون من الرفاق ( أبو نورس / عسكريا" وأبو عوف /  سياسيا" وساطع / أداريا" ) .

في أسفل مقرنا كانت هناك عدة بيوت لقرويين لم تكن علاقاتنا بهم جيدة في البداية وكان الشيخ الأكبر سنا" فيهم لم يكن راضيا" عن تواجدنا بجواره و يدردم كثيرا" وكان يقول دائما" أنه سيشـكوا أمرنا الى الشيــخ محمد في أربيل وأن القرويين أصحاب هذه البيوت سيعودون قريبا" ( كانت هذه البيــوت تعود لقرويين هجروها للعمق الأيراني خوفا" من تقـدم القوات الأيرانيـة ومعظـم هـولاء القرويين لهم علاقـة مع الجحـوش وكــريم خان بالذات )

في أحد الأيام توجهوا الى الرفيق ( أبو أزهار ) يشكون الأمر والذي قام بإقناعهم وبشكل ودي بأن بقائنا هنا هو مؤقت وليس بأستطاعتنا الآن بناء قاعات لقرب حلول موسم الشتاء وأستمرت علاقاتنا معهم بهذا الشكل فترة من الزمن الى أن حصل ما كان في الحسـبان، فلقد شاءت الصدف أن تمرضت أحـدى النسـاء عندهـم وكانت قد ولـدت توا" بألتهاب حاد صاحبه أرتفاع في درجات الحـرارة ولم تتمكـن من أرضاع وليدها فهرعوا ألينا طالبين النجدة وفيما أذا كان بيننا طبيب يمكنه تقديم المساعدة لهم، كانت زيارتنا أليهــا ولأيـام عديــدة وبجرعات من المضادات الحيويـة ولعــدة مرات في اليوم مع أدويــة آخرى تـم أنقاذها وتحسن وضعها الصحي وكنت أذهب أليها كل يوم بصحبة الرفيقة ( نادية ) للأطمئنان عليهـا وعلى طفلها وكانت الرفيقـة ناديـة تقدم لهم المساعدات والأرشادات في النظافة ورعاية الطفل. كانت هذه الحادثة وما تلاهـا من خدمات طبية قـدمت لهم قـد غيرت الوضع تماما" فتحسنت علاقتنـا معهم وأصبحوا كرماء طيبون ولطفاء معنا ويلحون علينا بالزيارة الى بيوتهم .

أحد رفاقنا الأكراد ( نوبار ) بدأ يعلم أولادهم الذين يأتون كل صباح الى المقر الأوليات في القراءة والكتابة وقد جلب لهم الأوراق والأقلام وكانت لديه فكرة فتح صف تعليمي لهم حيث أوصى بجـلب كراريس تعليميــة. أخـذنا نزورهم بأستمرار ونتبادل الحديث معهم شارحين سـياسة حزبنا وموقفه من الحرب ودخول القوات الأيرانية أراضينا، وفي أحد الأيام أخـبرنا الشيخ المسـن أنه عنـد زيارتـه لأربيل قابـل الشـيخ محمـد وأخبره بأن الشـيوعيين أنقـذوا حياة أبنتنا وأنـهم طيبـون ويعلمون أولادنا القراءة والكتابة وهم ضد دخـول الأيرانيين أراضينـا فـرد عليـه الشـيخ محمد بقوله أنه يعرف كل شئ عنهم وكل القرى تحبهم وتخدمهم وعليكم ان تساعدوهم في أي شئ يطلبون.

أتذكر بألم آخر أيامنا معهم صيفا" عندما أنتقلنا الى أماكن أخرى كيف أصطف رجالهم في طـابور ووجـوههم حزينـة يلقـون علينا التحية وقد أنهمرت دموع نسائهم وكانت هناك أمرأة طاعنـة في السـن تبكي وقـد مسـكت بيدي متوسـلة البقاء ورددت ( لا تتركونا وحدنـا ) وأخبرهم الرفيـق ( نوبار )  بأننا سوف لن نتركـهم أبدا" وسوف نزورهم  بأستمـرار والطبيب سيأتيهم دائما" ويقدم خدماته لهم .

خمسة عشر رفيقا" شغل القاعة الكبيرة، كان بجواري رفيقنا العزيز الفقيد ثابت حبيب العاني ( أبو ماهر ) ذلك الرفيـق الـوديع الطيب والذي أصبح الأب الروحي لكل الرفاق، كان ودودا"،  يكن الحب والأحترام لكل الرفاق،  يفرح بشدة لسماعه خبر سار من رفيق ويتألم كثيرا" لحادثة تلم برفيق أو أستشهاده، كان شيوعيا" حقيقيا" وبطلا" وأذكر كلمات الرفيق ( أبو سعود ) عندما أوصى الرفاق بالأهتمام به ( ديروا بالكم على الرفيق أبو ماهر فهو بطل من أبطال الحزب )، محبا" لشعبه ووطنه وحزبه، طلب منه الرفاق في قيادة الحزب مرات عديدة للسفر للخارج والعلاج لوضعه الصحي السيئ  فكان دائما" يرفض مغادرة الوطن وفراق الرفاق.                            

كان الفقيد يتفقد الرفاق ويحاول معرفة أخبارهم في القواطع الأخرى ويسأل عنهم دائما" فعنـدما غادرنـا الى فصـيل أرموش بعـد فتـرة كان يراســلني بأستمرار ويرسـل الأمنيـات السـارة للرفاق ليدخــل الفرحة في نفس كل رفيق، بعث لي مرة من أرموش مسجل صغير وكاسيت للمطربة نجاة الصغيرة وهو يعرف بأني أحب صوتها فكنت أسمع أغانيها من المذياع في القاعة في أيام الشتاء الطويلة المملة ولا أعرف كيف حصل على الكاسيت، وحتى بعد خروجنا من كردستان وسفره الى هنكاريا ومن ثم الى بريطانيا كان يرسـل تحياته لكل الرفاق ويسأل عنهم وأخبارهم، كتب لي مرة بمناسبة تأسيس حزبنا .

( كم هي كثيرة هذه المفارقات في زمننا، تصور يا عزيزي أبو تانيا الآن أنا وأم حسان نعيش على الضمان الأجتماعي لدولة حاربت نظامها وسياستها الأمبريالية طيلة أربعين عاما") ولا زلت أحتفظ ببطاقة تهنئة بعثها لي قبل اثنى عشر عاما" وكانت مكتوبة بخط ركيك وعلمــت فيما بعد انه كتبها من المستشفى حيث يرقد بعد أن مر بأزمة قلبية حادة ألمت به .

كان في أوقات الفراغ يسير على ســطح القاعة الكبيرة يستمع الى الأخبار من المذياع المعلق في رقبته والذي لا يفارقـه أبدا" وحتى ساعــة متأخــرة من الليل، يبادل الرفاق الحديث في مواضيع عامة ويقــدم المشورة والنصيحة لهم، كثيرا" ما حدثني عن عائلتـه وأبنه الذي أستشهد في الحرب ( و كان نادرا" ا يتحدث عن هذاالمضوع )، وعن الجريدة العلنية في بغــداد حيث كان صاحب أمتيـازها، حدثني مرة عن أبن عمي الشهيد ( ستار خضير ) والفترة التي عملوا بها سوية، عن التعذيب الذي تعرض له في بداية السبعينات، ( تعرض الرفيق أبو ماهر لتعذيب وحشي على أيدي النظام البعثي وصمد صمودا" بطوليا" وأنقذت حياتـه بعد تدخــل الحزب الشيوعي السوفياتي حينذاك وسـافر مباشرة للعلاج في الأتحاد السوفياتي وقد ألتقيته مع الرفيقة أم أيمان زوجة الشهيد سلام عادل في موسكو في حينها )  .

كان( أبو ماهر ) يتضايق من حرارة المدفئة العالية بالعكس من ( سالم البزن ) ( أتمنى أن لا ينزعــج الرفيق سـالم من هــذه التسمية التي لازمته فترة طـويلة وأصبحت نوعا" من التحبب له وجاءت التســمية لسمار وجهه المائل للسواد وشعره الأسود الكث ) الذي كان يحتضن المدفئة دائما" وخاصة بعد أنتهاء نوبة الحراسة ليلا" ، يتطلع الى الرفيق أبو ماهر للتأكـد هل هــو نائم أم لا، وبعـد أن يطمئن يزاول هوايته المفضلة وهي وضع الخشب وتقليبــه ولن يترك المدفئــة الا وقد أصبحت حمراء من شـدة الحرارة ويكون الرفيق أبو ماهر قد فاق من نومه من الضوضاء ومن شدة الحرارة، أما في الصباح فيقف الرفيق أبو ماهر له بالمرصاد بقوله .... (( سـولة... مو الصوبة مشتعلة والغرفة دافية يعني لازم تسـويها حريجة )) ويضحك سالم مكشـرا"عن أسـنانه البيضاء ( ها أنت جنت كاعــد رفيق والله عبالي نايـم ) ويرد أبو ماهـر ( هوأنت تخلي واحد ينام عندما تكابل الصوبة ) وتتكرر العملية كــل يوم تقريبا" وأحيانا" أثناء النهار أيضا" عندما يحضن ســالم المدفئة ويتطلع الى الرفيق أبو ماهر الذي يبادره بأبتسامة ولن يعلق ويبدأ الجميع بالضحك.

في تلك الليالي الطويلة يمارس كل رفيق هواية ما  بين سماع مذياع، كتاب، سيكارة وتأمل، كان الرفيق (  أبو تحرير ) يقضي الليالي برسوماته التخطيطية وقد برع  فيها، يفرش على بطانيته الأوراق والأقلام والحبر الأسود ويبدأ العمل والسيكارة في فمه وقد برع بالتدخين أيضا"، يتخيل فكرة ما ويرسمها وبعد الأنتهاء منها يطلب منا أختيار بيت من شعــر شاعرنا الكبيـر الجـواهـري مناسب لها، وكنت قد حفظت الكثير من أشعاره ويشارك جميع الرفاق وكذلك الرفيق أبو ماهـر ( الذي حدثنا عن ذكرياته مع الجواهري عندما كان في براغ وهو يقود تنظيم الخارج ) في قراءة الأبيات الشعرية المناسبة للوحة وتبدأ المطارحات الشعرية وذكر الشعراء ونقضي بذلك ليلة ممتعة مع الشعر والأدب .

أما الرفيق الفقيد سلام صالح جبر( أبو سـلمى ) ( وكم آلمني فقدان هذا الرفيق العزيز المبكر في أمريكا تاركا" زوجة وطفلـة ) فكانت له هــواية جميلة فــهو يختلي بزاوية القاعة ويتسـلى بعمل ( السبح ) من حبة الخضرة حيث كانت المنطقة مليئة بأشجار حبة الخضرة، كان يجمع الكثيــر منها وينزع قشــرتها الخضراء وبصبر وتأني يثقب الحبات الواحدة تلو الأخرى ويدخلهــا في خيط لتكـون المسبحـة جاهزة ويهـديها الى الرفاق وحتى في قواطع آخرى وأحلى سبحة عملها للرفيق أبو ماهـر.

لم يكـن أبـو سـلمى يعرف أني أعرف عائلتـه جيدا"، لقد كانت علاقتي مع أخيـه علاقة صداقـة وديـة أستمرت سنوات عديـدة أثناء الدراسـة في مدرسة واحدة وما بعدها وكنت أحتفظ بالكثير من الذكريات والأحاديث عن والديه وأخوانه الذين درسوا في الخارج وفي أحـد الأيام عندما كنـا سوية في نوبــة الحراسة على سلاح الدوشـكا فاجئته بالحديث عن عائلته وعن ذكريات طفولته فوقف مندهشا" وكأنه في حلم يسألني ( منو أنت ؟ ) كم فرح عندما عــدت به الى ذكريات عـزيـزة لديه عنـد ذكر والده وأخوانه ولكونه كان حساسا" رقيقا" كان يبكي عند ذكر والده أو والدته، لقد فرح كثيرا" عندما  قدم أخيه الى كردسـتان للمشاركة في مؤتمر الحزب وقد جلب له حذاء شتوي هدية له ..

كان يحدثني عن دراسته الجامعية / كلية الزراعة وكيف خدمه الحظ أثناء أداءه الخدمة العسكرية فقد أعجب آمره العسكري بمهارته الزراعية وطلب منه الأهتمام بحديقة منزله فكان أبو سلمى يذهب يوميا" الى دار آمره العسكري يزرع أقلام الورد ويعتني بالأشجار ويسقيها بعيدا" عن الواجبات العسكرية، كانت أمنيته أكمال دراسته في هنكاريا بالقرب من أخيه ولكنه فضل المجئ الى كردستان ملبيا" نداء الحزب .... بعد سنوات وفي أمريكـا غادرنا الحبيب أبو سلمـى فتألمت كثيرا" عندما قرأت نبأ وفاته في مجلة رسالة العراق ورجعت بيّ الذكريات الى تلك الأيام .

يتبع في الفصل الحادي عشر