من الذاكـرة : الرفيق زكي خيري والأنشقاق والأيام الصعبة/ فائز الحيدر

 الجزء الثاني

بعد وصول الرفيق زكي خيري تم تخصيص غرفة خاصىة لراحة الرفيق المتعب تحتوي على مكتبة عامرة بالكتب السياسية والأدبية لأننا نعلم أن الرفيق ابو يحيى قاريء محترف يواصل القراءة لساعات طويلة دون كلل وبتركيز مما اكسبه طيلة حياته ثقافة عامة واسعة وقدرة على التنظير لذلك كان يقضي معظم اوقات الفراغ في المطالعة، كان يتصل بالرفاق تلفونيا" عدة مرات يوميا" وفي اوقات مختلفة لمتابعة سلامة الرفاق وآخر المستجدات والتطورات في حياة الحزب الداخلية وتأثير الأنشقاق على كيان الحزب.

 كان المرحوم والدي وعند عودته من العمل مساء" يعد له القهوة العربية ويتحدث معه عن ذكرياته عن مضايقات رجال الأمن لشباب العائلة الأعضاء في الحزب ومنهم قصة اعتقال الشهيد ستار خضير وآخرين من العائلة وعن ظلم الأقطاع ومعانات الفلاحين في أرياف العمارة وكيف سجل مجانا" الأرض الزراعية التي يملكها في الفلوجة بأسماء الفلاحين الذين خدموا وعملوا بها بعد إنتقالنا لبغداد لأنهم الأولى بها رغم معارضة العائلة، ويحدثه عن تأريخ عائلتنا عائلة الحيدر التي ارتبط معظم شبابها بالحزب ويشير بأصبعه تجاهنا ويقول له هؤلاء هم جنود الحزب مستقبلا"، وكان يقرأ له الكثير من القصائد الشعرية لشعراءعرب  الجاهلية بالرغم من انه لا يجيد القراءة والكتابة مما يجعل الفقيد ابو يحيى يصغي ويستأنس ويستغرب عن قابلية الوالد في حفظ تلك القصائد في الوقت الذي يعجز عنها الكثير من المثقفين.

أما نحن الشباب فكنا نجدها فرصة لندخل مع الرفيق ابو يحيى في نقاش سياسي قد يكون حاد أحيانا" حول نبض الشارع ، وسياسة الحزب الخاطئة في بعض جوانبها، والموقف من حكومة عبد السلام عارف ومحاولة الأنضمام الى الأتحاد الأشتراكي العربي والتي عرفت بخط آب 1964 التي اثرت كثيرا" على وحدة الحزب وحدوث بلبلة فكرية داخله وكان يصغي لنا ويؤيدنا في بعض ما نقول.

 في احد الأيام وقبل المساء تكلم الرفيق ابو يحيى عبر التلفون ثم دخل الغرفة منفعلا" وبعد دقائق خرج  منها وهو يرتدي الزي العربي البغدادي المكون من الكوفية البيضاء والعقال الجنوبي وعباءة قهوائية اللون وكأنه أحد شيوخ الجنوب العراقي مما اثار استغرابنا لأننا لم نشاهده في هكذا زي من قبل واخبرني ان لديه مهمة حزبية هامة تتطلب منه الخروج حالا" وانه سيعود بعد ساعتين وان لم اعد في ذلك الوقت ارجوا اعلام ستار خضير والرفاق بالموضوع.

 غادر الرفيق على عجل، وبسبب الوضع الأستثنائي الذي يمر به الحزب بدأ القلق يسيطر علينا وأخذنا نعد الدقائق لعودته حتى قاربت الساعتين على الأنتهاء ثم تجاوزتها بنصف ساعة ولم يعد ، عندها لازمتنا الهواجس وأخذنا الأحتياطات اللازمة في البيت وأتصلت بالشهيد ستار تلفونيا" لأخبره بالأمر مما زاد من قلقه ورفاقه أيضا".

طلب منا الوالد بالخروج مع اخوتي الشهيد نافع الحيدر والفقيد النصير سلام الحيدر ( د. أبو تانيا ) للبحث عنه في شوارع المحلة دون جدوى، عدنا للبيت وكل منا يفكر بالأسوأ، ترى ما هو سبب التأخير وهو المتمرس بدقة المواعيده الحزبية؟ هل حدث له طارئ؟ هل يا ترى اعتقل مرة أخرى؟ ومن هي الجهة التي اعتقلته؟ هل اعتقل من قبل زمرة عزيز الحاج من جديد ؟ ام من قبل رجال الأمن وهو احد قيادي الحزب والمعروف لديهم؟ واذا صحت فرضية الأعتقال هذه هل يشك الحزب بأن احدا" من أهل البيت قد وشى به؟

 ساد الصمت في البيت وكل واحد منا ينظر بوجه الآخر، الأعصاب متوترة والأمل بعودته يبدوا بات ضعيفا"، اقترح الوالد ترك باب البيت مفتوحا" وفتح مصباح البيت الخارجي لعل ذلك يساعده ذلك على تبيان ملاح البيت وسط ظلام الشارع، ننظر لساعاتنا وللشارع كل بضعة دقائق عسى نشاهده من بعيد، لا نعرف ماذا نفعل!! كيف نخسر رفيق مثل ابو يحيى بهذه السهولة وقد نجا قبل ايام باعجوبة، كان من المفروض نطلب منه عدم الخروج في مثل هذا الوقت ..  ووسط شرود بال جميع من في البيت وبعد مرور 45 دقيقة أخرى متعبة قلقة عن موعد عودته فوجئنا بسماع احدا" يسعل امام الباب ويطلب الأذن بالدخول وكان متعب جدا" مما شكل مفاجأة لنا

وبعد دقائق من الراحة وشرب قدح من الماء سألته .....

ــــــــــ اين كنت يا رفيق ابو يحيى لقد قلقنا عليك كثيرأ، الوالد قد هيأ لك القهوة وهو بانتظارك، لقد اتصلت بالرفاق وهم قلقون عليك أيضا"، الم تقل انك ستعود بعد ساعتين ما الذي حدث؟

ـــــــــ اسف يا رفيقي لقد عدت في نفس الوقت المتفق عليه معكم ولكني ظللت الطريق وسط الظلام وشوارع المحلة المظلمة والبيوت المتشابهة، لقد وصلت الى مكان لا يبعد عن البيت سوى عشرات الأمتار ولعدة مرات ولكن في كل مرة كنت اعود من جديد أبحث في شوارع عديدة اخرى بسبب شرود الفكر وانشغال البال بأمور كثيرة حتى وصلت أخيرا" الى ضالتي الآن وهذا اخذ مني كل هذا الوقت... آسف على أزعاجكم جميعا" ... بقي الرفيق ابو يحيى بضيافتنا طيلة اسبوع كامل يشاركنا حياتنا اليومية البسيطة ويطلعنا على قدر ما يستطيع عن آخر الأخبار التي تصله عبر التلفون واصبح احد افراد العائلة وحتى انتقاله لمكان آخر آمن.

  ومرت السنين لم التقي بالرفيق مرة اخرى ولم تسمح لي الظروف بلقائه في كردستان حيث كنت اتواجد ولكنه إلتقى هناك مع اخي الفقيد النصير سلام الحيدر ( د . أبو تانيا ) خلال التحضير لانعقاد الأجتماع الموسع للجنة المركزية عام 1986، وكان سلام احد المهتمين به حينها وهو ما زال يتذكر الرعاية والأهتمام والقهوة العربية التي كان يعدها الوالد له والذكريات الجميلة معه.

 ولد زكي خيري في 12 نيسان / 1911، سجل مسيرة كفاحية وطنية واممية، بدأ نضاله الوطني منذ منتصف العشرينات، تحمل السجون والتعذيب والأختفاء، ناضل طوال حياته من اجل تطوير معارفه الماركسية لأدراكه بانها الاساس الفكري لتحرير شعبه وعموم البشرية وهي الاهداف التي كرس لها حياته وانكب على دراستها بمثابرة حتى اخر يوم في حياته. ....حتى رحل عنا في التاسع عشر من شباط 1995، فتحية لذكراه الخالدة.