في الثالثة والنصف عصر الحادي عشر من آب 1981، اصطف أنصار سرية زاخو (السرية الرابعة) في نسق طويل، فاللحظات القادمة ستفصل السرية عن المقر الثابت (مقر يك ماله) الذي أمضت فيه أيامها الأخيرة، وهي تستعد للتوجه للداخل. الانصار مشغولون جميعاً بالإستعداد للحظة القادمة، المتهيئون من أنصار السرية يتفحصون اخر إحتياجاتهم ويستكملون ما ينقص، ورفاق مقر يك ماله يودعون ويتمنون السلامة ويوصون بالعمل المميز. كنت مثل بقية الأنصار الجدد مبهوراً بالأجواء الحماسية، تملؤني ثقة لا أدرك مصدرها إنني مقبل على حياة جديدة ممتعة وممتلئة، لذلك كنت أبادر  لحمل ما يرفض البعض حمله من أدوية وعتاد إضافي فتطوعت لحمل مخزن العفاروف الثقيل مستغرباً أن أحد الأنصار رفض حمله، كنت أقيس قدرتي على التحمل على اللحظة الحالية حيث لا أزال أقف وسط مقر يك ماله فوق أرض منبسطة تماماً، ولم أكن أحسب تعقد وصعوبة الطريق الذي سأسلكه بعد ساعات، ولا بكارة خبرتي حتى في الأساسيات ومن بينها شد حزام الشواجير على وسطي، وطريقة تنفسي أثناء الصعود …الخ، وكما هي المفاجئات في مثل حياتنا الجديدة فقد فر البغلان اللذان كانا سيرافقان المفرزة لحظة إستعدادنا للمغادرة، وعبرا (الروبار) الصغير الذي يفصل مقرنا عن الأراضي التركية، ولم يكن سهلاً إسترجاعهما الأن فالجندرمة الأتراك يقابلوننا ونسمعهم ويسمعوننا، ولا يمكن أن نتجاوز حدود دولتهم دون إذن وإتفاق مسبق، لكن البغلين لا يدركان هذه الحقيقة! فالأرض أمامهما واحدة، والخط الوهمي الذي يفصل البلدين، هو بالفعل وهمي لديهما! كما إنهما لم يفكرا بأن مفرزتنا ستتحرك الأن، وإن عليهما واجب حمل المدفع 82 ملم وقذائفه، بالإضافة للأدوية والتموين ومخازن الأسلحة! ولم يكن أمام المفرزة وقد أكملت كافة إستعداداتها للحركة إلا ترك المدفع وقذائفه على أن تلتحق بالمفرزة فيما بعد، وأن توزع الأدوية والعتاد الضروري على الأنصار وأنا من بينهم.

الساعة الثالثة عصراً تحركت المفرزة من مقر يكماله بإتجاه قرية (كيشان) المهجرة … الطريق في ساعته الأولى بدا أليفاً تحت أقدامي، فالأرض لا تزال منبسطة، والنظرات التي ألصقها القرويون والقرويات الذين سرنا بجوار بيوتهم بوجوهنا واجسادنا روت في دواخلنا برعم الثقة والإعتزاز.

كانت قيافتنا المميزة وأحذية الميك اب التركية الصفراء والوجوه السمر لمعظمنا، تفضح إنتسابنا للشيوعيين، وكان هذا يزيد من فضول القرويين للتطلع إلينا!.

بعد ساعة من المشي السهل إلتوى الطريق يساراً، مبتعداً عن خط الحدود التركية، وتعقد فجأة ثم شمخ مرتفعاً، ومع تعقده وإرتفاعه بدأ اللهاث يفلت من بين شفتي، وأخذ العرق يغادر الجسد من جميع المسامات! حزام النسيج العسكري (النطاق) المزدحم بمخازن العتاد تسرسح من فوق (البشتين) الناعم الرقيق نازلاً أسفل الورك! فأعدته لمكانه بصعوبة، لكنه (تخابث) بعد دقائق وإنساب مجدداً إلى أسفل الفخذين! فأعدته من جديد، وهكذا استمر يلعب معي لعبته الساخرة تلك كل بضعة دقائق! مستخفاً ببكارة تجربتي وطفولة خبرتي بمثل هذه الشؤون.

اللهاث تسارع وغدا مسموعاً للقريبين مني، والعرق بات ينز من الجسد بإفراط غير مألوف، والمنخران ما عادا قادرين على إيصال هواء مناسب للرئتين فأستعنت بالفم وفتحته بسخاء، حتى تشنجت عضلات الرقبة والخدين، ومع ذلك فقد ظلت الرئتان تجوعان لهواء إضافي!.

حقيبة الظهر التي لم أكن قبلاً أحس بثقلها، تحولت الأن لصخرة سيزيف جبارة وكانت حمالتاها تحفران بقسوة في لحم أكتافي الممتلئة صانعة أخدودا أحس تعمقه مع كل خطوة سير جديدة.

كبريائي وعزة نفسي حاولتا تمويه حقيقة ما بدأت أعانيه، فقد عز علي أن أنهار وأضعف، أنا المعتد بنفسي، في أول ساعة من ساعات الحياة الأنصارية الجديدة، لقد أحسست أني الوحيد الذي يضعف، في حين أجد الأنصار الذين يسيرون أمامي وخلفي يمزحون ويمرحون وهم يواصلون صعودهم بإنسيابية ويسر، وكانت هذه الحقيقة تؤلمني وتزيد من معاناتي وتدفعني لمحاولة التمويه وتصنع التحمل والقدرة على المواصلة! ولكن يبدو أن جهودي المسرحية هذه لم تنطل على القريبين مني، فصوت تنفسي والعرق المتصبب من وجهي وبقية جسدي وطريقة مشيي، كل تلك علامات خبرها الأنصار القدماء وتعاملوا معها بواقعية وتضامن، الرفيق (أبو صارم) الذي كان يسير خلفي وهو يرى وضعي عن قرب، تطوع لحمل صينية العفاروف التي أنهكتني، وكان كلامه الرقيق مخففاً عظيماً لقلقي وارتباكي، فقد كرر مراراً أن الأمر عادي، وأن الكثير من الأنصار الجدد يتعبون في مسيراتهم الأولى، ولكنهم سرعان ما يتعودون ليصبحوا من أنشط الأنصار.

الرفيق أبو هشام أمر الفصيل الذي نسبت إليه أدرك أيضاً ما أعانيه فحاول مساعدتي وحمل حقيبتي الشخصية، لكني رفضت بإصرار وواصلت السير حتى أول إستراحة، وهناك أعدت ترتيب وضعي جيداً، خصوصاً شد البشتين وتضييق النطاق، حتى لا ينساب مجدداً، وحين بدأت المفرزة سيرها من جديد كنت أحسن حالاً بما لا يقاس من المرة السابقة، وقد اطمأن الرفاق لوضعي، بل انشغلوا عني تماماً، وهذا ما كنت أحتاجه وأتمناه، عندما بدأ الرفيق (حجي سامي) بالتقيؤ أثناء السير، فشكرته والصدفة على هذا الموقف المتضامن معي! فقد انشغل الجميع بأمره وأمر رفيق أخر أعلن عن تعبه ونسوني، فكانت تلك رحمة حتى لا أنفضح وينكشف ضعفي وقلة حيلتي على مثل هذا السير العسير.

* حلقة من سلسلة ذكريات