في غمرة الكفاح ضد النظام الدكتاتوري، كنت أساعد الرفيق (أبو خدر) في أداء مهمة حزبية خاصة في منطقة ريف تلكيف، وهذا العمل يتطلب جهدا مميزا، وقناعة راسخة بقضية الشعب والحزب، كما يتطلب الدقة في التنفيذ، حيث السلطة استطاعت ان تجند أعدادا كبيرة من المرتزقة للتعاون معها وممارسة أدوارا قذرة، وهذا ما كان يخلق لنا المزيد من المصاعب في التحرك والاختفاء. 

كان لابد لنا أن نختار الملاجئ الملائمة للاختباء فيها، وان تكون غير معروفة الى الناس بما فيهم رفاقنا في المنطقة، تجنبا لأية خروقات أمنية قد يتعرض لها عملنا الحزبي وبالتالي إلحاق الأذى برفاقنا واسرهم، فأخترنا واحدا لا يعرفه الاخرون، وكنا نسميه "لانده شير"  أي"عرين الأسد" وبالرغم من أنه كان يقع في منطقة معروفة ويتواجد فيها الرعاة والصيادون، لكن لا احد يعرف بأن هذه الحفرة تقود إلى مخبأ استخدمناه لسنوات عديدة في اداء مهامنا الحزبية.

في هذا المخبأ، وضعنا خطة، لرئاسة العراق وتعيين طباخ له، ومن هنا كانت اهمية الموقع في عملية الكفاح ضد النظام الدكتاتوري وتحديد مستقبل العراق السياسي!. يقع المخبأ في سفح "كيجين - جبصين" * وهي منطقة عائدة إلى قرية حتارة ضمن منطقة "الكند"* ويجري استغلالها من قبل عامة الناس في الرعي والصيد ونقل حجر الجبصين لاستخراج الجص وغير ذلك. المنطقة ليست صالحة للزراعة، وغير مملوكة لعائلة، ولكنها ضمن حدود القرية السيادية، ومخبأ لانده شير يقع في شق من بين عشرات الشقوق التي حفرتها مياه الأمطار عبر آلاف السنين في كيجين. في أحد جدرانه مكان محفور على هيئة شباك من شبابيك البيوت الطينية، فجعلنا منه مطبخا بعد الكثير من الحفر والتعديل حتى اتسع المكان لـ " جولة" صغيرة تعمل على الفتائل وقليلا من النفط الأبيض وعددا من علب الحليب الصغيرة نحفظ فيها أغذيتنا الجافة مثل الرز والبرغل و العدس والسمن، بالاضافة الى مكان لحاويات الماء واواني المطبخ. 

لم نكن نحتاج إلى كثير من الجهد في عملية الطبخ، فمطبخنا أمامنا وكل شيء في متناول اليد ومن دون الاضطرار إلى الحركة أو الوقوف، اما وجباتنا، فاكثرها شهية، هي التي نتناولها بعد رحلة طويلة ومتعبة ومحفوفة بالمخاطر، فكنا نتناول بنهم ما نطبخه بأيدينا من طعام متواضع، لكنه لذيذ في هذا المطبخ الصغير.

بعد الانتهاء من الوجبة الشهية، يزداد حماسنا، وتبدأ المناقشات السياسية، فتكبر احلامنا حتى تتجاوز الحدود، لا مكان للتفكير بالانتماء المذهبي والطائفي او العرقي، ولا نعرف ما هي المحاصصة، والشيء الوحيد الذي يشغل بالنا هو الوطن وحقوقنا كمواطنين، ولذلك لم نكن نخشى في المخبأ من أن نحلم بأن يصبح أحدنا رئيسا (طبعا للمزح)، ولكن في ظل نظام ديمقراطي وانتخابات حرة ونزيهة ودستور اتفقنا على صيغته نحن الاثنان، واكدنا فيه ان لا حق لأي منا أن يمنع الآخر أو أن يشعر بالغضب او يمارس الضغوط او يستخدم السلاح ضد من يترشح للرئاسة، لكننا وفي نفس الوقت اشترطنا، بأن الذي يفوز برئاسة الجمهورية ان يقبل بتعيين رفيقه الاخر طباخا في القصر!، وهذا جاء من قناعتنا بأن لا احد يستطيع منافستنا في الطبخ، وفي مطبخ كهذا.

بينما كنا نحلم، واذا بأفعى سامة قصيرة وغليظة، تقتحتم علينا مكاننا، فصرخت باعلى صوتي ابو خدررررررر، انها افعى، وفي لحظات تسلقنا جدران المخبأ وكان ابو خدر يتبعني، والافعى تحت اقدامنا تواصل اقتحام المخبأ السري، ومن تلك اللحظة لم يعد المخبأ آمنا، وشخصيا صرت أخشى من الدخول إليه كثيرا رغم اضطراري الى التواجد فيه عند كل مهمة.

هكذا كانت احلامنا، مسالمة من دون افاعي، لكن عراق ما بعد صدام تحولت فيه المحاصصة الى افعى اقتحمت كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وحرمت أبناء الأقليات بالرغم من اعتزازهم بالانتماء إلى الوطن من حقهم في المواطنة من دون تمييز.