الان، هو الوقت المناسب للقاء صديقي، من أيام الدراسة في الجامعة، النصير ابو الفوز بعد أعوام طويلة من الفراق. خاصة وانه في قاعدة مراني التي أقيمت في قطعة ساحرة من الجمال عند سفوح جبال كاره، اعالي ارياف الموصل. ولا تبعد سوى ثلاث او أربع ساعات من قاعدة كافية، حيث المقر المؤقت لقاطع اربيل. حصلت على الموافقة للذهاب إلى هناك بما يشبه الإجازة يومان او ثلاثة، خاصة بعد غياب طويل قضيته في المفارز. فاجأني، الرفيق الإداري الذي تعود اقتناص مثل تلك الفرص، كان حاضرا بأمر ــ من الأعلى ــ ان اصحب معي اثنين من البغال، ثم العودة بها محملة بالطحين والسكر، ودس بيدي مبلغ من المال ما يكفي لتغطية تلك المهمة. فلم يكن بوسعي الا التنفيذ.

تهيأت البغال من قبل الرفيق الاختصاص علي رزكة، الكائن موقعه في قعر الوادي الصخري معقد التكوين. صحبت معي واحد من الشباب اليافعين، والذي فرح بالمهمة جدا، فهو لم ير مناطق وارياف بهدينان. كان هذا الشاب يجيد ترويض والسيطرة على تلك الدواب.

  لم تبلغ الساعة الحادية عشر صباحا عندما بدأنا بالنزول من قمة الوادي. عند أول منعطف صخري في الوادي وعلى بعد عشرة أمتار من آخر مواقعنا، كان الرفيق ابو خالد الخياط ينتظر. استوقفني ودس بيدي كيس من القماش الابيض وفي داخله حاوية عرفت انها، جلكان، فئة الخمس لترات تفوح منه رائحة قوية للعرق العراقي التي نعشقها. وكان هناك مبلغ من المال ايضا.

  • ما هذا ابو خالد؟
  • عليك بملئه من تلك القرية الملاصقة لقاعدة مراني، والتي ندخلها قبل دخولنا للقاعدة. من بيت المختار.

 واخذ يصف لي بيت المختار في القرية.

  • (تذكر، عند العودة ستحظى بقدح لذيذ منه). ثم أردف (هذا وعد مني).

ضحكت وغمرته بعناق مودعا.

في الطريق الطويلة التي تتلوى بين الوديان الخضراء المكتظة بالأشجار المعمرة العملاقة، والتي من المؤكد انها من جنات الله على الارض، كان هم رفيقي الشاب ان يعرف ما في هذا الكيس القوي الرائحة، والتي تنبه لها البعض من المارة في الطريق الذي يخترق سفح الجبل افقيا.

(المطلوب اسمه حليب سباع، يحتاجه الإنسان احيانا لتعديل المزاج ونسيان الهموم). اجبت رفيقي ضاحكا. (اي والله زين، هل أقدر ان أشرب منه؟) سألني. (بالتأكيد، تستطيع وسوف تعشقه) اجبته ونحن سائرون في جو من المتعة رغم ساعات من المسير المتعب وعدم التمتع باستراحة قصيرة تحت أشجار الجوز العملاقة.

بانت لنا منازل القرية الحلم، حيث يحقق ابو خالد جزء من امنياته.

كان هناك تجمع لجمع من رجالات القرية، وسط ساحة صغيرة ينتهي بها طريقنا. كان المختار وربعه، حيث يمارس مهمته كطبيب للدواب. تعاونوا جميعا لإسقاط ارضا واحد من الخيول الكبيرة والقوية جدا كان الحصان يعاني من مشاكل لا نعرفها نحن. لكن المختار الذي أخبرته بطلبي بملء جعبتنا بخمس من اللترات من العرق الريان، طلب مني التريث حتى الانتهاء من المهمة التي بيده. كانوا قد فتحوا فم الحيوان بقوة وعنف، ثم آخذ المختار بصب العرق العراقي ذو الرائحة الزكية في جوف الحيوان، وتحريك رقبته، ثم العودة لصب لترات العرق ثانية وثالثة. (يمعود احسب احسابنا الله يخليك). صحت به متوسلا. لم اسمع منه تعليقا. ربما لم يسمعني..

اما نحن فكنا نمني النفس ان نحصل على قدح من تلك الكمية التي تسكب في جوف الحيوان. كان المشهد غريب لنا لكنه ممتع.

أنهى الدكتور ـ المختار مهمته وتوجه صوبي سائلا عن طلبي دسست بيده كيس ابو خالد الخياط المعطر. ذهب المختار إلى خزائنه تاركا ايانا في استراحة إجبارية. كانت ظلال أشجار الجوز في الساحة كثيفة وباردة، تمنح المتعب متعة للتدخين لا تفوت. والغريب في المشهد ان هذا المكان، وهو السنترال المركزي للقرية، بعيدا عن جميع المساكن. فتضاريس السفح الجبلي وتكويناته منحت المنازل تباعدا محسوسا حتى غدت متناثرة ومتباعدة. واخيرا هلّ علينا المختار بقامته الفارعة بعد غيبة طويلة دامت العشرة دقائق.

(اعتذر منكم اخواني، لم يبق لدينا ما يكفي من الشراب. لم أكن أعلم أن الكمية التي شربها الحصان كانت هي آخر ماتبقى. لم تخبرني العائلة بذلك الا الان. اعتذر ثانية).

لم نتوقع ما سمعناه.

كان وقع اعتذار المختار أشد ثقلا علينا من الحرج امام رفيقنا الذي ينتظر رجوعنا بفارغ من الصبر. ترى ماذا سنقول إلى العزيز ابو خالد الخياط؟ هل نقول له ان الحصان احتسى كل ما لدى المختار من الخمر ولم يرأف بنا؟

كان رفيقي الشاب الحالم بكأس من العرق يروي ظمأه الطويل هو من اقفل حكايتنا (عساها بحظك وبختك يا حصان، انت أكبر بخيل، بعكس طبعك).

عن دورية النصير