الـلـوز يـزهر أولا!

تحت أشعة الشمس الربيعية، ومن بعيد تبدو شجرة اللوز المنفردة، مثل غيمة صغيرة، ظلت الطريق فهبطت الى الأرض، وحين تقترب منها لا تمتلك إلا أن تمتلئ بالفرح والاعجاب والدهشة، مختلطا بمشاعر غريبة أخرى يغلفها الاكتشاف، فشجيرة اللوز ... "طماعة "جدا ــ ليس هذا سرا ــ وهي عجولة وطموحة جدا، وبهذا اشعر انها تشبهني، وربما تشبه كل نصير بطموحها، فما ان يبدأ الشتاء يجرجر نفسه بعيدا، وتنزع الأرض رداءه القاسي، وتبدأ بارتشاف أول أمطار اذار، وما ان يبدأ العشب بالنمو، حتى تنتفض أشجار اللوز ــ أني اقول تنتفض! ــ اذ انها تسبق كل الأشجار المثمرة، ودون ان تنتظر نمو أوراقها، تزهر، اللوز يزهر أولا على الدوام.

حين تقترب من شجرة لوز يبهرك منظرها المدهش، فلحاؤها ما زال جافا على جذعها، وحتى أغصانها يبدو وكأنها ميتة بفعل عوادي الخريف والشتاء، فهي ما تزال جافة مسودة كقرن "كيوي"، لكنها ويا للدهشة والجمال، مكللة بالزهور! ... زهور بيضاء، رباعية التويج، مضلعة الشكل، تميل للون الوردي قليلا، ثم مع زحف أيام الربيع تكتسي بحمرة خفيفة كخد صبية كردية خجولة. شجرة اللوز رقيقة، فما ان تهب نسمة هواء، وتحرك الأغصان حتى تمطر شجرة اللوز تويجات أزهارها، مخلفة في النفوس مشاعر جمة، تلك المشاعر التي نقول عنها أحيانا:

ـــ لا ندري من أين تأتي؟

آذار 1986

قرية "خانكة" ــ (ريف دهوك) 

الجبل

على طول الطريق الوعر المتعرج الصاعد الى قمة "مه تين " الذي يبدو وكأنه يختبر قدراتنا في ارتفاعه، كانت الصخور، وسط الظلام، والنابتة كتماثيل سومرية تحدق إلينا محذرة من كمين معاد محتمل، وتهمس:

ـــ الى أين؟!

ــ "إحنا وذياب الغابات ربينا...! "

وكنا نتقدم! نتكئ على التوجس ونتقدم، ونفتح عيوننا حتى تدمع ونندفع الى الامام، وبنادقنا تتصالب مع قاماتنا المحنية، المغالبة، نقاوم التوتر والتعب!

ـــ "بالليل الداجي العتمات مشينا "

نتقدم، نتحدى التعب والجبل الذي بدأ يلين وبدت قمته تقترب منا طواعية ...

... أتذكر، ذلك الشيخ الجليل، من قرية "ده ركه لي" الذي استضافنا ذات ليلة تساقط فيها الثلج، وحدثني كيف ان جبل مه تين في الطوفان احنى ظهره حتى لا ترسو سفينة نوح عليه، مما اغضب نوح كثيرا، فطلب من الرب ان يحجب بركاته عن مه تين!

هاهو "مه تين" يا شيخنا الطيب، يحني ظهره، مرغما، هذه المرة. ها هو يحنيه امام مردة، تحت أقدام الأنصار الذين يتقدمون بإصرار نحو صباحات لابد قادمة، مهما طال وتعرج المسير، يتقدمون مانحين الجبل بهاء شبابهم، وومضات فوهات بنادقهم، ونضارة احلامهم، وهذا كله أعظم البركات!

نيسان 1986

   مقر الأنصار في مه را ني ـ ريف دهوك

قرية

  ينحني الــ " روبار " ـ نهير ـ مخترقا القرية، المتراصة بيوتها فوق بعض عند خاصرة الجبل، ويتكسر عند طرف فتحة الـ " گه لي" الضيق. من مكاني ـ كمين الحراسة ـ أرى القرية ومداخلها، ويلوح لي جامع القرية ـــ شيراتون الأنصار! ــ وارى بعض الأنصار واقفين عند بابه، وثمة مجموعة أخرى عند دكان القرية.على جانبي الـ " روبار " تمتد أشجار الـ " ئه سبيندار "سامقة، رشيقة، بخطوط متوازية، أصابع للقرية تدل عليها وتشير الى السماء، تقول بلسان أهل القرية :  "نحن هنا، مرحبا بالضيف" ! أشجار اللوز المتناثرة حول القرية غيمات صغيرة استقرت على الأرض!

الأصوات تصل من أطراف القرية مختلطة، صياح أطفال، شتائم رجال غاضبين، خوار بقرة، نباح كلاب، صياح ديكة ــ لا صوت لامرأة بتاتا! ــ يختلط كل ذلك بخرير مياه الـ "روبار" الذي يشطر القرية الى جزئين يربط بينهما جسر خشبي، جدده الفلاحون هذا العام للمرة الثانية!

اذار 1986

قرية "خانكة " ــ ( ريف  دهوك )

عن النصير الشيوعي