استقبلني الأخ والرفيق والصديق الغالي الدكتور عطا الخطيب وعائلته القديرة بكل حفاوة وترحاب، شعرت براحة نفسية عالية بعد مشقة لم تكن طويلة وأنا مازلت في طريق المجهول، لأول مرة أحسست بوجودي بين أهلي الحقيقيين الاّ انّ فرحتي لم تدم طويلا سوى أسابيع ثلاثة، حيث توافد الى العاصمة الجزائرية اعداد غفيرة من العراقيين الهاربين من بطش نظام البعث واشتداد الهجمة الشرسة ضد حزبنا الشيوعي العراقي ورفاقنا مع عوائلهم، وصل عدد العراقيين الى أكثر من ثلاثة آلاف يفترشون الحدائق العامة في العاصمة لعدم تمكن الفنادق من استيعاب هكذا عدد من ضحايا الدكتاتور الفاشي. في أحد الصباحات اقترب صاحبي الدكتور عطـا وعلامات الحزن على وجهه البشـوش دائمـا (كاكه محمود أعلم انك أعزب ولا أخاف عليك من السكن في الفنادق، راح أكون على اتصال دائم معك لكنني مضطر علي ايواء عائلة عراقية وانت تعرف شقتي غير كبيرة)، نهضت وقبلت صاحبي  دكتور عطا وقلت " لن أنسى فضلك وتعاطفك معي سابقا والآن ومستقبلا بل علي أن أكون مساندا لك في مواقفك النبيلة في دعم وايواء رفاقنا وعوائلهم الذين اصبحوا ضحايا الدكتاتورية الدموية " اما انا " مثلما يقول الجزائريين " أدبر راسي ولا تفكر في ذلك مطلقا .

نزلت الى شوارع العاصمة جزائر كالعادة ولكن هذه المرة ليس بحثا عن العمل فحسب وانما ايجاد مأوى لجسدي في أحد الفنادق قدر الامكان، سبق لي التعرف على اعداد كبيرة من العراقيين وخاصة رواد مقهى الجزائر حالهم لا تختلف عن الاخرين، مشردين يبحثون عن العمل لاستمرارية الحياة في الغربة المؤقتة، مأوى أكثر استقرارا لمراقبة تطور الأحداث داخل الوطن من خلال وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة مع الحجم الكبير من الشائعات التي ترافق كل خبر أو حدث، سألت الكثيرين أين يسكنون وكيف يمكن ايجاد فندق معين وسط هذا الصخب وتزايد اعداد العراقيين مع عوائلهم، ضمن الاصدقاء تعرفت الى الفقيد صمد " أبو صارم " حسن المصري " أبو هيمن "، أبو العباس " خضير " والاخرين الذين إلتحقوا لاحقا بصفوف الحركة الأنصارية، لكن علاقتي توطدت مع صمد عندما طلبت منه ايجاد محل سكن لي أو فندق ما قال لي " حبوبي، جيب غراضك واتبعني " قلت له اية غراض؟ ليس لدي سوى ملابسي على جسدي، تبعته الى ان وصلنا أمام بناية تبين بعد ذلك انها محل استحمام رجالي يفتح نهارا وفي المساء يستغل صاحبه قاعات الحمام الى مكان للمبيت وبأسعار ضئيلة لاستيعاب أكبر عدد من العراقيين، لم يتضائل حب وتعاطف الجزائريين مع الشعب العراقي منذ عهد الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم الذي وقف بقوة داعما الشعب الجزائري في حربه التحررية لنيل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، دعم الثورة الجزائرية ماديا ومعنويا، هذا الموقف الشجاع من القائد العراقي مازال الشعب الجزائري يتحدث به بكل فخر واعتزاز ويقول " جنرالنا عبد الكريم قاسم يسكن في قلوبنا "، وفعلا نال العراقيين كل الدعم والمساعدة من أعضاء حزب الطليعة الاشتراكية الجزائري، الحزب الشيوعي الجزائري سابقا ومن اتحاد الشبيبة الجزائري، وأغلب التعينات في المؤسسات الجزائرية جاء من خلالهم .

قضيت ليلتي الاولى في ذلك الحمام واذا بأعداد كبيرة من العراقيين يتوافدون على الحمام وكأنما تجمع في احدى الحسينيات أو الجوامع، كل واحد يفترش بطانية نالها من صاحب الحمام اشبه ببطانيات الجيش ويتغطى بالاخرى الى الصباح ونتناول الفطور في ذات المقهى، مقهى الجزائر وسط العاصمة. هكذا مرت الأيام والبحث عن العمل مازال مستمرا، نسمع عن مؤسسة ما واذا بعدد من أصحاب الشهادات يتجه صوب ذلك وسبق لي ان ترجمت شهادتي الجامعية الى اللغة الفرنسية عملا بنصيحة الرفاق المغاربة لسهولة التعامل معها عند تقديم طلبا للحصول على عمل ما .

حين وصولي الجزائر تركت نسخة من شهادتي لدى الحزب عسى أن أحصل على عمل ما من خلالهم وكما أبلغت التنظيم الحزبي بنيتي الإلتحاق بحركة الأنصار وقلت سبق أن طلبت ذلك وانا في موسكو وأجابني في حينها الرفيق الفقيد الدكتور كاظم حبيب في لقاء معه " انتظر قليلا، المهم استقرارك والحصول على عمل في الجزائر ليكون دعما ماليا للحزب والحركة الانصارية " .

إلتقيت بمجموعة من خريجي الاتحاد السوفياتي منهم الدكتور عقيل الناصري، زادت فرحتي والشعور بأنني محاط بسياج قوي من الاصدقاء والاحبة، وبعد فترة إلتقيت بمسؤولي الحزبي في موسكو وقلت مع ذاتي (اتاك الفرج يا ابا مازن)، رحبت به وهو كذلك يبحث عن سكن في العاصمة، تجولنا كثيرا في شوارع وأزقة العاصمة ويا للفرحة استطعنا الحصول على غرفة في أحد الفنادق (للا خديجة) قال سنستأجر غرفة فيه، اجبت بالايجاب بعد ان علم بمكان سكني ضمن الحمامات العامة، حملت ذاتي وتقاسمنا الغرفة بعد أن أخبرته بوضعي المادي الضعيف، استلم بعض الدعم من الحزب عبر الرفيق والصديق الدكتور عطا الخطيب، أشار ولايهمك أنا معك، قلت مع ذاتي (مسؤولي الحزبي السابق معي، اذن الخير من الله توفر ولربما الوضع سوف يتحسن أكثر)، فيما بعد علمت بأن لديه اكثر من 12 ألف دولار (تخيل هذا المبلغ الكبير في حينه) وأنا أحمل بضعة دولارات المتبقية من التبرع الذي استلمته حينما كنت في المغرب بالاضافة الى بضعة دنانير جزائرية مساعدات الحزب للرفاق .