عند آخر أمتار من الأرض السورية، ثمة بلدة تدعى القامشلي. يسكنها خليط من فلاحين وموظفين حكوميين كما هي خليط من مسلمين ومسيحيين وأكراد وعرب. وفي بيت من بيوتها يقع على مقربة من السياج الحدودي التركي، كان اللقاء أو الوداع. لقاء حياة جديدة ووداع القديمة. البيت أقرب إلى خان من خانات المسافرين في الأزمان الغابرة. مساحة مفتوحة على السماء ومحاطة بغرف كثيرة مبنية بقوالب الطين المفخور ومسقفة بأعمدة الخشب وأغصان الأشجار.

كنا ما يقارب الأربعين أو أكثر من الشباب مع عدد قليل من الفتيات. كذلك كنا خليطاً من كل قوميات واثنيات وأديان وعقائد العراق. مأخوذين بحلم الوصول إلى قواعد الأنصار في العمق العراقي. حلم ثوري مؤثث بما يكفي من الحكايات والروايات والأشعار والأغاني. وكان جيفارا هو الكائن المقدس الذي نتمسح برداء حكاياته على هاجس استعادتها بنسخة عراقية. هذا ما كان يدور في رأس الولد العشريني الذي كنته. لم يكن ينقص ذاك الولد ببنطال الجينز وتي شيرت البحارة وحذاء الأديداس للدخول في الحكاية الجيفارية سوى حصوله على البندقية وحزام الرصاص.

بعد ساعات من وصول آخر وجبة قادمة من دمشق إلى هذا البيت، اصطدمت بما لم أتصوره ولا حتى في الكوابيس. ما هذا الذي يحدث أمامي..؟! وجدتني في خضم صراع فكري، عقائدي، سياسي غريب بين جماعتين شيوعيتين متمايزتين. إحداهما قادمة من بلدان كثيرة من الشرق ومن الغرب (جماعتي) بنية الالتحاق بتشكيلات الأنصار والثانية  قادمة من الداخل، من العمق العراقي، من تلك القواعد التي نريد الوصول إليها. نقاشات تعلو فيها الأصوات حد الصراخ وتطلق فيها قذائف ثقيلة من نوع التحريفية، الإنتهازية، الخيانة، الإنحراف العقائدي..إلخ 

على مدى الليالي الثلاث التي قضيناها هناك، كان البيت يضج على الأخص في المساءات بعد وجبة العشاء بمثل هذه النقاشات الخطيرة كما تصورتها. تكتظ مساحة الحوش المفتوحة بالشيوعيين على شكل حلقات. والوضع أقرب إلى الفوضى منه إلى التنظيم. تجد أثنين يأخذان بعضهما بالأحضان والقبل، لأنهما التقيا للتو بعد فراق سنين، كانا قبلها أصدقاء ورفاق أما في نفس الحي أو المدرسة أو الجامعة. فرقتهم الحملة الدموية التي طالت الشيوعيين نهاية السبعينات وها هما يلتقيان من جديد. بعد قليل تجدهما يتصايحان داخلين في لجة هذا الصراع الأيديولوجي الخطير. نقاشات بدت لي جديدة وملفتة حول أولويات الثورة ومساراتها ومطباتها، مواضيع كنت قد قرأتها في كتب لينين وستالين وماو وجيفارا وكل الكوكبة الثورية التي كانت تصلنا كتبهم واستقرت في ذهني على شكل مسلمات لا يطالها الباطل لا من الخلف ولا من الأمام. وها هي أمامي معروضة للتشريح والجدل. وظل السؤال الجوكر في تلك الليالي الثلاث من الجدل الأيديولوجي: إلى أين أنتم ذاهبون؟

السؤال يُطرح مواربة في أحيان وصريحاً في أحيان أخرى من الجماعة الأخرى. كان الشباب خارجون للتو من انتكاسة عسكرية، سياسية ماحقة. خارجون من قتال بات يعرف في السنوات اللاحقة بـ(قتال الأخوة). فقدوا فيه عشرات الشهداء من رفاقهم والكثير من الجرحى والأسرى على يد تشكيلات عسكرية كانت حتى الأمس القريب حليفة لهم في مقاتلة النظام. قتال عبثي وخسائر مجانية، كان سببه صراع قديم متجدد بين حزبين على شكل عشيرتين (الطالباني) و(البارزاني) كلٌّ منهما يريد أن يكون هو الزعيم الأوحد للحركة الكردية المسلحة. وفي خضم هذا الصراع كان الشيوعيين فيه كمن يمسك العصا من المنتصف. ولسوء تدبير قيادتهم تحولت العصا الممسوكة من المنتصف، إلى رصاص حي اخترق أجساد رفاقهم في مجزرة ستظل ماثلة في ذاكرة الشيوعيين (مجزرة بشت آشان). كانت نكسة. يكفي أنها أخرجت من جسم المعارضة المسلحة لنظام صدام حسين، إضافة إلى العشرات من القتلى والجرحى المعوقين، المئات من المقاتلين الغاضبين الناقمين على قيادتهم. وصلوا إلى هذه المحطة محملين بأكداس من مشاعر اليأس والإحباط والندم.

وكانت مهمة من يشرفون على هذا البيت (خان المسافرين) شاقة حد الاستحالة. كيف لهم أن يوائموا بين الجماعتين، كيف يجعلوا هؤلاء المنسحبين من التجربة الغاضبين الساخرين يكفون عن سخريتهم لحين خروج الملتحقين الجدد إلى هدفهم. وكيف يجعلون هؤلاء الملتحقين يحافظون على ذات الحماس واندفاع الذي جاءوا به. لقد ترك هؤلاء خلفهم حيوات أقل ما يقال عنها؛ أنها تنتمي للرفاهية والدعة في البلدان الاشتراكية وغير الاشتراكية. 

بدا الوضع لي في غاية الشذوذ؛ جماعة خارجة من جحيم تقدمه بأبشع صوره إلى الجماعة الأخرى المتوجهة إليه..! كانت ثلاث ليالٍ نُبشت فيها رفات الكثير من الكائنات الثورية المقدسة؛ فهد، سلام عادل، لينين، ماركس، أنجلس، جيفارا، كاسترو وحتى العم (هو شي منه) وكلٌّ يدعيها لنفسه. سجالات سداها ولحمتها أقوال وحكايا ونصوص قيلت في معرض سجالات من نوع آخر وفي ظروف أخرى، لكنها تقمصت رداء القداسة والثبات لتؤثث السجالات البينية بين العقائد الثورية، على مدى القرن العشرين الذي كان يزحف إلى نهايته. لكن، وبالرغم من كل ما قيل عن وقائع وتفاصيل تقشعر لها الأبدان؛ أن تلك السجالات وذلك الشعور بالإحباط والانتكاس، لم يؤثر على أفراد المجموعة الملتحقة. أو على الأقل لم يثنهم عن عزمهم. 

بدا هؤلاء محصنين بحصانة مجهولة المعدن. ظلوا مأخوذين بشعلة حماس لم  تنطفئ. أغلبنا كانوا طلاباً أما أنهوا دراستهم أو قطعوها في بلدان أوربية مختلفة. وكان من بيننا كذلك رجال كبار في السن نسبياً، مهندسون، أطباء، محامون، معلمون، موظفون بدرجات وظيفية صغرة وكبيرة قبل خروجهم من البلد. الجميع مأخوذون بلهفة اللحاق والمشاركة بالحركة المسلحة قبل أن تعلن انتصارها ويفوتنا شرف المشاركة فيها. هكذا كنا.  

أو هكذا كنت أفكر على الأقل. قناعات نسجتها ونمّتها نشريات حزبية كانت تصلنا من الداخل إلى الخارج حول انتصارات الحركة المسلحة وهي تستحوذ على كامل الريف الكوردي وتدخل المدن الكبيرة؛ أربيل، السليمانية، كركوك، الموصل لتنفيذ عمليات عسكرية وغير عسكرية. إضافة إلى تسريبات على لسان قادة الحزب مفادها؛ أن النظام (آيلاً للسقوط) إن كان بفعل تداعيات حربه الخارجية على الجبهات مع إيران أو بفعل تداعيات أزمته الداخلية. 

وكان في الليلة الثالثة، عشاءنا مبكراً عن الجماعة الأخرى. على اي حال لا يمكن لاكثر من أربعين شخصاً أن يتناولوا الطعام في ذات المساحة المسورة بالغرف وفي نفس الوقت. كان العشاء  دسماً، دجاجاً مطبوخاً مع أرز. أنها ليلة العبور. هكذا قيل لنا. في هذا اليوم تبدلت سحنات وسلوكيات أفراد المجموعة المنسحبة من الداخل. بدوا متعاطفين معنا ومشاركين في ترتيب أمتعتنا ولم يبخلوا علينا بالنصائح الضرورية:

- لا تأكلوا كثيراً على العشاء. الجوع في المسيرات الطويلة أفضل من الشبع. لا تشربوا الماء إلا بما يبلل الشفاه. مطارة الماء والبندقية هما حياتك. أحرص أن لا تبقى وحيداً في الطريق.. عينك على الدليل.. إلخ

رد أحد المشاكسين من المجموعة الملتحقة:

-  ملاعين تضحكون علينا.. تريدون تأكلون اللحم كله..

تصاعد الضحك واللغط والبيت قد تحول إلى خلية نحل. كان على الملتحقين الجدد أن يتخلوا عن ملابسهم المدنية ويرتدوا بدلها الشروال العسكري الكوردي مع كامل الأكسسوارات الجبلية. وبدأنا نسمع أولى الكلمات الكوردية التي ستظل ترافقنا طيلة السنين، بشتين، دوخين، جمداني، بخو، فخو..إلخ وقبل العشاء، انفرد بنا من سيكون قائد مفرزتنا في إحدى الغرف الكبيرة. شخص بعمر يميل للكهولة، قيل عنه بيشمركة قديم. بدا لي أشبه بصورة تذكارية للثوري المعتق. ما زالت عيوني ترى الأشياء بنظارة الثوري. تكلم بلغة عربية مهشمة غير معنية بالمذكر والمؤنث ولا بالأفعال ماضيها وحاضرها، تكلم عن محطات وعلامات خارطة الطريق التي سنسير عليها وصولاً إلى أول قاعدة للثوار في المناطق المحررة. أطلق على تلك القاعدة اسم (كَلي هه سبه) ترجمها أحدهم إلى (وادي الخيول). ومنذ تلك اللحظة بتُّ لا أرانا سوى خيولاً بموديلات كثيرة تصهل وتجول في ثنايا الجبال والوديان.. 

_  مقتبس من رواية (عودة إلى وادي الخيول) الصادرة عن دار سطور 2020